شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الحنين إلى زمن الديكتاتور

الحنين إلى زمن الديكتاتور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 29 يونيو 201711:45 م

"الفوضى أنهكت الليبيين والصراعات الجهوية والإيديولوجية والقبلية باتت أدهى من القبضة الأمنية والحكم الديكتاتوري السابق"، قال الطبيب الليبي صلاح العقوري لوكالة الصحافة الفرنسية وأضاف: "أن عدداً من الليبيين باتوا يترحمون على ذلك النظام السابق على الرغم من كرههم له". كلام هذا الطبيب ليس كلاماً غريباً بل هو يعكس جوّاً عاماً صار شائعاً في دول الربيع العربي.

في ظل تحكّم الميليشيات الليبية بحياة الليبيين، صار العقوري يتمنى عودة الرئيس السابق معمّر القذافي، لبعض الوقت، كي يعيد القليل من النظام إلى البلاد الغارقة في الفوضى. ملايين المواطنين في دول الربيع العربي يفكّرون الآن كما هذا الطبيب الليبي وذلك إما لأسباب عامة مرتبطة بظروف بلادهم أو لأسباب خاصة مرتبطة بتغيّر أحوالهم سلبياً بعد الثورة.

قبل أيام، كان التونسيون على موعد مع الانتخابات التشريعية في بلادهم. ضجّ العالم بالحديث عن الديمقراطية التونسية الناشئة. ولكن قلّة انتبهت إلى حالة الإحباط الكبيرة لدى التونسيين، والتي ظهرت على هامش الحدث الكبير الذي شهدته البلاد.

في يوليو الماضي، عانت "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" من ضعف إقبال التونسيين على تسجيل أسمائهم على لوائح المقترعين. رئيس الهيئة شفيق صرصار فسّر هذا العزوف بأنه ناتج عن "حالة إحباط وخيبة" من الأحزاب التي تصدرت المشهد السياسي بعد الانتخابات السابقة. وقالت منسقة "هيئة الانتخابات" في ولاية بن عروس، ايناس الجليدي، إن مواطنين "محبطين من السياسة" تعاملوا بشكل "غير ودي" مع فرق التسجيل المتنقلة التي جابت أسواق وشوارع مدن الولاية. بضغط من القوى السياسية، مدّدت الهيئة مهلة تسجيل الناخبين مرتين لمعالجة هذا المأزق. ورغم ذلك لم يسجّل أكثر من مليوني تونسي يحق لهم الاقتراع أسماءهم على لوائح المقترعين.

حين أعلنت هيئة الانتخابات عن نسب المشاركة في الانتخابات التشريعية وقالت إنها فاقت الـ60 في المئة، أسقطت من حساباتها هؤلاء. أبرز مؤشرات الامتعاض التونسي أتى من ولاية سيدي بوزيد، مهد الثورة التونسية. سجلت هذه الولاية الفقيرة والمهمّشة أدنى نسبة مشاركة في الانتخابات.

في وقت سابق، تساءلت موظفة في وزارة الشؤون الاجتماعية التونسية: "ماذا جلبت لنا الثورة وانتخابات العام 2011؟ لقد جلبت لنا الإرهاب وغلاء الأسعار والفقر وشخصياً كنت أعيش في وضع مادي أفضل بكثير في عهد بن علي".

أما الشاب كمال الطرخاني الذي شارك في التظاهرات التي سبقت الإطاحة بنظام بن علي وأصيب برصاصة في قدمه فهو محبط من كون الكثير من الناس يقولون له "إن أحوالهم كانت أفضل قبل الثورة، وإن الحياة لم تكن بمثل هذه الصعوبة وإننا نحن (الثوار) من دمّر البلاد".

من ناحيته، يرى الشاب بشير البجاوي (29 عاماً) أن "هؤلاء السياسيين لا يستحقون حتى دقيقة واحدة من وقتي. إنهم غير أكفاء. لقد فقّروا الشعب، هم، مثل بن علي، محتالون حتى لو كان مظهرهم محترماً".

البجاوي هو بائع سجائر كان يمني نفسه بحياة أفضل بعد الثورة. تقدّم بطلبات كثيرة لتغيير عمله ولكن حاله بقي كما كان. أحبطته الثورة لأن أحلامه كانت كبيرة. هذا حال الكثير من التونسيين. في زمن الديكتاتور، بلغ متوسط معدل النمو السنوي للناتج المحلي 5 في المئة بين عامي 1997 و2007 مما جعل تونس في عداد البلدان الأعلى أداءً في الشرق الأوسط. ولكن معدل البطالة بين الشباب (بين سن الـ15 والـ24) وصل إلى حوالى 31 في المئة. لذلك شارك الشباب بكثافة في التظاهرات. ولكن الآن وجدوا أن وضعهم لم يتحسن بل تفاقمت مشاكلهم.

الامتعاض التونسي من سياسات الأحزاب التي وصلت إلى السلطة بعد الثورة يفسّر تصدّر حزب نداء تونس لنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة. يبالغ من يتحدث عن أن التونسيين اختاروا العلمانيين في مواجهة الإسلاميين. هذا صحيح جزئياً فقط بدليل أن الأحزاب العلمانية العريقة سقطت سقوطاً مدوياً في الانتخابات. لتكتمل الصورة يجب الانتباه إلى أن حزب نداء تونس يضمّ وجوهاً تولت مناصب كبيرة قبل الثورة ما أكسبها صورة رجل الدولة، وفي هذا حنين ما إلى زمن الديكتاتور.

كما الحال في تونس وليبيا كذلك في مصر. أحبط عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي في 3 يوليو 2013 وما تلاه من إقصاء للإخوان المسلمين وصدور قوانين تحدّ من حرية التظاهر معظم شباب الثورة. قبلها كما بعدها شاع في مصر استخدام تعبير "حزب الكنبة" بقصد وصف حال أغلبية المصريين الذين لا يهتمون بما يجري في بلادهم ويفضلون الجلوس على الكنبة ومشاهدة التلفاز للإطلاع على ما يجري في بلادهم مثلهم مثل أي شخص ينظر إلى مصر من الخارج. مصر عادت إلى ما قبل 25 يناير لا بل إلى ما هو أسوأ من ذلك كون "الدولة العميقة" جدّدت شرعيتها. فمستوى الحريات التي يتمتع بها المصريون حالياً أقل مما كان عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك ولكن مستوى معيشتهم لم يتحسّن. الآن، يقنع المصريون أنفسهم بضرورة أن يكونوا أطفالاً بررة للأب الكبير عبد الفتاح السيسي.

وضع السوريين ليس أفضل حالاً من وضع جيرانهم العرب ولكن الحرب في بلادهم لا تزال دائرة ولم يعيشوا مرحلة انتقالية كما شعوب باقي دول الربيع. بمعنى آخر لم يختبروا الفشل بجدّية ولا يزال أمامهم وقت ليستفيدوا من تجارب الجيران. رغم ذلك امتعض كثيرون من انتخاب "الائتلاف الوطني السوري" أحمد طعمة رئيساً للحكومة المؤقتة المعارضة.

لم يفهم السوريون كيف أن الأشخاص أنفسهم الذين أقالوا طعمة، أعادوا انتخابه تحت ضغط قطري. ذكرهم هذا بـ"الديمقراطية السورية" التي ثاروا عليها. كذلك امتعض كثيرون من رؤية الفساد معششاً في المعارضة، هم الذين خرجوا ضد الفساد، من ضمن أمور أخرى، ودفعوا الكثير من الدماء. ففي تقرير لمراجعة حسابات "وحدة تنسيق الدعم" التابعة للائتلاف السوري عن العام 2013، قالت شركة "ديلويت" للمحاسبة إنها "لم تتمكن من رصد وتتبع نحو 800 ألف دولار من نفقات الوحدة، بالإضافة إلى أكثر من 265 ألف دولار من المدفوعات النقدية". أما أكثر الأمور مدعاة لامتعاضهم فهو ممارسة مجموعات المعارضة المسلّحة ما كان يمارسه النظام الأمني السوري.

عند بداية الربيع العربي، حمل كثيرون من العرب أوهاماً حول المستقبل. ظنّت الشعوب الثائرة أن سبب مشاكلها الاقتصادية هو حصراً فساد الأنظمة الحاكمة. وظنّت أن حكامها الجدد سيكونون ملائكة ديمقراطيين. في ساحات الثورات، أقنع الشباب أنفسهم بأن الغد سيحمل إليهم الحرية وتحسّن أحوالهم المعيشية. سقطت هذه الأوهام لسبب بسيط: كانت أوهاماً. من المؤسف أن البعض روّج لأسطورة تقول إن الحرية أهم من رغيف الخبز. دغدغ هذا الشعار أحلام كثيرين من المسحوقين ولكنهم فور اختبارهم المباشر لهذه المفاضلة اكتشفوا زيفها ولاواقعيتها.

الحنين إلى زمن الديكتاتور هو واقع مؤسف ينتشر حالياً بين شعوب دول الربيع العربي. هو في الحقيقة ليس حنيناً إلى شخص الديكتاتور بل هو حنين إلى بعض ما كانت تقدّمه الأنظمة الديكتاتورية من استقرار أمني وبعض التقديمات الاقتصادية. الديكتاتور هو رمز للاستقرار لا شيء آخر.

في أنظمة ما بعد الثورات تراجع مستوى الأمن وتراجع المستوى المعيشي ولم تزدهر الحريات لا بل تراجعت (باستثناء تونس). الشعوب العربية أخطأت في ترتيب لائحة أولوياتها. قد تستفيد القوى الحيّة التي لم يُصبها اليأس بعد من دروس السنوات الأخيرة فتنجح في صياغة برامج جدية تستعيض بها عن الشعارات التي لا تسمن ولا تغني عن جوع. وقد لا تستفيد من هذه الدروس وتستمر في استسهال توصيف الأمور وإطلاق الشعارات وهنا تكمن المأساة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image