لم يكن تبنّي رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ترشيح زعيم التيار الوطني الحر ميشال عون لرئاسة الجمهورية اللبنانية مفاجئاً، فهو كان حديث الساعة السياسي في الأيام القليلة الماضية. ولكن قبل أشهر كان يصعب التفكير في هذا الاحتمال.
العلاقة بين أقوى شخصيتين مارونيتين لم تكن يوماً على خير ما يرام. ولكن دائماً كان يشوبها نوع من تواطؤ غير مفهوم. وهذا النوع من التواطؤ حدث كثيراً بينهما أثناء الحرب اللبنانية، وآخر تجسيد له كان موافقة جعجع على ترؤس الجنرال عون حكومة عسكرية مطلقة الصلاحيات التنفيذية (بموجب الدستور)، قبل ساعات من خلو سدّة الرئاسة عام 1988.
عون وجعجع هما بلا ريب الشخصيتان المارونيتان الأبرز في لبنان في السنوات الثلاثين الماضية، وهما يختزلان لا فقط الصراع على تزعّم الموارنة بل حراك الطائفة المارونية على المثل التي يجب أن تتبنّاها.
فعون هو "ابن الدولة"، الجنرال الذي قاد يوماً الجيش اللبناني، المؤسسة التي تحظى بتقدير غالبية اللبنانيين والتي ترمز إلى الاستقرار. أما جعجع فهو "ابن الميليشيا"، أي ابن الصراع والحرب. قاعدة عون الشعبية هي المسيحيون الذين كرهوا أثناء الحرب ممارسات الميليشيات. بينما قاعدة جعجع الشعبية هي المسيحيون "المقاتلون" الذين يريدون لعب دور سياسي بقبضتهم، إذا جاز التعبير.
ولكن هذا لا يكفي. العلاقة بينهما وبين قاعدتيهما معقّدة أكثر وقائمة على تناقضات غير مفهومة. فجعجع أيضاً هو الرجل المسيحي الذي قبل باتفاق الطائف الذي سحب أهم صلاحيات رئاسة الجمهورية المخصصة عرفاً للموارنة، وذلك من أجل السلام، بينما عون هو الذي ناضل ويناضل حتى الآن ضد الاتفاق المذكور بغض النظر عن كلفة ذلك على السلم الأهلي.
كلاهما من مدرسة بشير الجميّل وعملا معه عن قرب، وكلّ منهما يعتبر نفسه وريث البشيرية السياسية. ولكن لم يحدث أن اتفقا على العمل معاً إنطلاقاً من مساحة مشتركة. دائماً كانت العلاقة بينهما تقوم على أساس إقصاء أحدهما الآخر، إلا حين يخافان من إقصائهما معاً كما في مرحلة السيطرة السورية على السياسة اللبنانية (1990-2005).
لذلك، فإن أكثر ذكرى ترافق ذكر اسميهما هي ما سمّي بـ"حرب الإلغاء" (1990) التي دارت بينهما (بين الجيش اللبناني والقوات اللبنانية). ولا يستحضر ذكرهما ذكريات "حرب التحرير" (1989) التي خاضاها جنباً إلى جنب ضد الجيش السوري، وكأن الجميع مقتنع بأن الضرورات آنذاك هي التي فرضت ذاك التقارب فرضاً على الرجلين.
منذ أشهر وهما يشعران بأن مسار السياسة اللبنانية يعمل على إقصائهما معاً، فقررا التقارب. وبدأ ذلك مع اتفاقهما على ورقة إعلان نوايا في يونيو الماضي، وتضمّنت مجموعة بنود سياسية أعاد جعجع إعلانها البارحة في خطاب تبنّيه ترشيح عون.
ومن أهم بنود الورقة المذكورة الالتزام باتفاق الطائف، عدم اللجوء إلى السلاح والعنف في الداخل، ضرورة إقرار قانون جديد للإنتخابات يراعي المناصفة الفعلية وصحة التمثيل. ولكن أبرزها هما البندان اللذان يدعوان إلى دعم سيطرة الجيش والقوى الأمنية الشرعية على الأراضي اللبنانية بهدف بسط سلطة الدولة وحدها على كامل لبنان، وإلى ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية السورية في الاتجاهين، لأنهما بندان يتوجهان بشكل أو بآخر إلى حزب الله، حليف عون.
وقبل ورقة إعلان النوايا كان الزعيمان قد توافقا على الاتحاد للمطالبة بـ"القانون الأرثوذكسي" الذي يضمن برأيهما المناصفة الفعلية في المجلس النيابي من خلال انتخاب المسلمين نوابهم والمسيحيين نوابهم. ولكن هذا التوافق كسره جعجع كرمى لعيون زعيم تيار المستقبل سعد الحريري قبل أي شيء آخر، ودفع ثمنه اعتقاد شرائح مسيحية بأنه غير مهتم بحقوق المسيحيين.
أما الآن، فإن سعد الحريري نفسه أطلق مبادرة تدعو إلى انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، دون أن يحترم حساسيات جعجع الذي تفرّق بينه وبين فرنجية أزمة ملوّثة بالدم عنوانها مقتل طوني فرنجية، والد سليمان، في هجوم عسكري ترأس منفذيه جعجع، وذلك في مرحلة شهدت سلسلة تصفيات متبادلة بين الفريقين.
يبدو أن الحريري لم ينسّق خطوته العرجاء بالشكل المطلوب مع جعجع فسمح للأخير بقطع الشعرة التي تربط بينهما تحت عنوان "قوى 14 آذار".
ولكن هذه المرّة تعدى تقارب الزعيمين تكتيكاتهما التاريخية في مواجهة الخوف من إقصائهما معاً. هذه المرّة ينظر جعجع إلى استرآس عون بطريقة استراتيجية. فبدايةً سيظهر أمام المسيحيين بمظهر رجل الدولة الذي يضحّي بطموحه الشخصي إلى الرئاسة من أجل مصلحة المسيحيين ووحدتهم. وليس من قبيل الصدفة أنه تحدث في كلمته البارحة عن "نكراننا للذات"، وتحدثت زوجته النائبة ستريدا جعجع عن "تخليه عن الذات والأنا".
والأهم أن هذه الخطوة تأتي في مسار التقريب بين قواعد القوات اللبنانية وقواعد التيار الوطني الحر، وهذا سيساعد جعجع على وراثة "العونيين" بعد وفاة زعيمهم لأن تيارهم لا يضمّ وجوهاً كاريزمية قادرة على شغل مكانة عون. وأيضاً، كرّس جعجع معادلة ترؤس أحد أقوى زعيمين مارونيين لرئاسة الجمهورية وهذا سيزيد من حظوظه في الوصول إلى المنصب مباشرة بعد عون.
هل يعني اتفاق الرجلين أن أزمة الرئاسة اللبنانية وُضعت على سكّة الحلّ وأن عون هو رئيس الجمهورية المقبل؟ طبيعة عالم السياسة اللبناني لا تسمح بالتيقّن من ذلك. ولكن بالتأكيد إن فرص حلّ الأزمة هذه المرّة صارت الأعلى لأنه من الصعب أن يرفض أحد ما اتفق عليه "أقوى مارونيين" ومَن يفعل ذلك يضع نفسه في موقع المعادي للمسيحيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...