تشكّل الأرقام معضلة أساسية في دراسة الشأن السوري. فهي تغيب تماماً في بعض المجالات، وتظهر متناقضة في أخرى، وتظهر في مدينة وتختفي في ثانية، وتكون حازمة محددة لا يكاد يختلف عليها إثنان في حالات، بينما تظهر تقديرية في حالات أخرى.
ولتحليل قضية ما، نحتاج إلى الأرقام كمعطيات كمّية يُفترض أنها تمثل الحقيقة ولو بشكل نسبي. ولكن غياب هذه المعطيات الدقيقة في سوريا يسبب الإرباك للإعلام والباحثين وللجمهور الذي لا يعرف بالضرورة مَن يقوم بحساب ماذا، ومَن يُصدر هذه الأرقام ويحدّثها.وسنحاول المرور بشكل موجز على بعض هذه المعضلات، وعرض أبرز جوانبها، دون الدخول في تفاصيل إحصائية وفنية قد لا تعني غير المختصين.
من أين تأتي أرقام الضحايا؟
يُعدّ عدد الضحايا في أيّ صراعٍ مؤشراً مهماً على خطورة هذا الصراع وأثره على الحق في الحياة. ويمكن لمن يتتبع الخطاب السياسي والإعلامي السوري والدولي أن يلحظ دائماً أرقاماً مختلفة، وبفروق قد تصل أحياناً إلى 100 أو 200 ألف. وهذا الاختلاف يمكن أن نجده حتى في التقارير والبيانات الدولية.
إن الأرقام الوحيدة التي تحظى بتوافق دولي على مصداقيتها هي تلك التي أصدرتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان ثلاث مرات، الأولى في 2.1.2013، والثانية في 13.6.2013، والثالثة والأخيرة في 22.8.2014. وبلغ عدد الضحايا بحسب آخر الأرقام 191,369. ولم تُصدِر المفوضية أيّة أرقام بعدها، دون تبرير لسبب ذلك.
تضمّ هذه الأرقام جزءاً يسيراً من الضحايا الذين سقطوا في المناطق التي يُسيطر عليها النظام (منهم نحو 2500 قدّمتهم الحكومة السورية إلى المفوضية بين مارس 2011 ومارس 2012 قبل أن تتوقف عن تقديم الأسماء)، بينما اعتمدت المفوضية على الأسماء التي تُقدّمها أربع مؤسسات حقوقية سورية.
ولا تتضمّن قائمة الضحايا المعتمدة لدى المفوضية أيّ أشخاص لا تُعرف اسماؤهم الكاملة، أو لا يُعرف مكان أو تاريخ مقتلهم. وهي لا تسجّل أعمار الفئات قرابة 84% من الضحايا، كما قد تتضمّن - بشكل محدود - أسماء أشخاص توفوا لأسباب طبيعية، أو أسماء أشخاص تبين لاحقاً أنهم أحياء، أو أسماء مكررة.
وقد دفعت معايير المفوضية السابقة الكثير من السياسيين والناشطين إلى اعتبار أن أرقامها متحفّظة، وأن العدد الكلي أكبر من ذلك بكثير. وقاموا مباشرة بعد إصدار التعداد الأخير بجبر الرقم إلى 200 ألف، ولاحقاً صاروا يزيدونه.
واستمرّت بعض الجهات في استعمال هذا الرقم حتى بعد مرور فترة طويلة على التحديث الأخير، فيما بدأت جهات إعلامية وسياسية باعتماد رقم "ربع مليون" كتقدير جديد، وذلك بعد إطلاقه من قبل مسؤولين في الأمم المتحدة، دون الاعتماد على مرجعية دقيقة كما التقدير السابق.
ويتولى عدد من المنظمات الحقوقية السورية توثيقاً يومياً لأعداد وأسماء الضحايا، ويقوم بعضها بنشر الأسماء فيما يكتفي بعضها الآخر بنشر الأرقام. وتحدّث بعض المنظمات التعداد العام للضحايا لديها، فيما لا تفعل أخريات ذلك.
فعلى سبيل المثال يقوم تحالف من عدد من المؤسسات الحقوقية في داخل سوريا بنشر بيان يومي يوثّق أسماء الضحايا، بمَن فيهم الجنود في الجيش السوري. ولكن هذا التحالف لا ينشر أرقاماً إجمالية شهرية أو سنوية. فيما تحدّث أربع منظمات حقوقية تعدادها بشكل شبه دوري، ويزيد الفرق بين أرقامها عن 100 ألف.
وتتفق كل المنظمات الحقوقية على أن توثيقها لا يشمل كل الضحايا، نظراً لصعوبة حصر أسماء الضحايا في كل المناطق، خاصة في المناطق التي لا يستطيع الناشطون الحقوقيون الوصول إليها، مثل المناطق التي يُسيطر عليها تنظيم داعش أو جبهة النصرة أو قوات النظام. وفي غالب الأحيان، لا يتم توثيق أسماء الذين يموتون متأثرين بجراحهم بعد فترة من إصابتهم. وأحياناً، هنالك مشكلة صعوبة الحصول على الأسماء لأسباب اجتماعية، إذ يمكن أن يُعرف الشخص في حيه بلقبه أو كنيته، دون أن يُعرف اسمه الحقيقي الكامل، وتصبح معرفة اسم زوجته أو ابنته أصعب، وقد يتم الخلط بين اسم العائلة واللقب...
المعلومات المستحيلة
رغم أن التركيز في الغالب يتّجه إلى الضحايا، هنالك الكثير من الأرقام التي يكتنفها الغموض.
أ- النموذج الأول: تعداد المعتقلين
تشكّل قضية الاعتقال التعسفي والاخفاء القسري معضلة شاقة في سوريا. فما زال من غير الممكن حصر المختفين قسرياً من السوريين وغير السوريين في سجون النظام السوري منذ السبعينيات من القرن الماضي حتى الآن. بينما ارتفعت معدّلات الاعتقال بشكل كبير جداً منذ عام 2011.
ولا يتوفّر أيّ رقم حقيقي للمعتقلين. ويُعتقد أن لا جهة في سوريا، بما في ذلك أجهزة الأمن نفسها، تمتلك مثل هذا الرقم، وذلك لأسباب عديدة، أهمها: تعدد جهات الاعتقال، من الأجهزة الأمنية السورية إلى الجيش والميليشيات الشعبية والقوات الأجنبية كحزب الله والميليشيات العراقية المتعددة، وتنظيم داعش وجبهة النصرة، وعدد كبير من المجموعات المعارضة المسلحة التي تقوم بأعمال الاعتقال والخطف، ولديها سجونها الخاصة.
ويقوم كل هؤلاء بمعظم أعمال الاختطاف والإخفاء بعيداً عن أي توثيق قانوني، ولو شكلي، يمكّن على الأقل من معرفة الجهة التي نفّذت اختطافهم، أو حتى معرفة ما إذا كان اختفاء شخص ما يعود إلى اعتقاله أو لأسباب أخرى كالموت أو الهجرة.
ورغم أن المنظمات الحقوقية تقوم بعمل هام، فإن أرقامها تفتقر إلى الدقة، ويصعب تحديث القوائم لحذف المفرج عنهم، وبعض المعتقلين يفرج عنه في اليوم نفسه، بينما يقتل بعض آخر أثناء الاعتقال.
كما أن عمل أيّ ناشط حقوقي لتوثيق المعتقلين يثير حفيظة الجهة الأمنية التي تُسيطر على مكان وجوده. وبالتالي فإنّ هذا العمل يتم بشكل حذر، وقد يمتنع أهالي المعتقلين عن تقديم المعلومات إلى المنظمات الحقوقية خشية التسبب بالضرر لأبنائهم أو لأنفسهم.
ب- النموذج الثاني: تعداد المعوّقين
تُخلّف الحرب السورية أعداداً كبيرة من المصابين الذين تحوّلت إصاباتهم إلى إعاقات. ولا توفّر أيّة منظمة محلية أو دولية تقديراً ولو تقريبياً لأعداد المعوّقين، وقد لا يكون من الممكن الحصول على مثل هذا الرقم قبل وجود كيان واحد يُشرف على الأرض والسكان.
ويؤدّي غياب هذا الرقم إلى ضعف الاهتمام الملحوظ بكل ما يتعلق بقضايا المعوّقين في سوريا، كما لم يتم تناول الموضوع في أيّ قرار أممي متعلق بالأزمة السورية.
التقدير سيد الموقف
في ظل غياب جهة مركزية واحدة، ليس من الممكن لأيّة جهة أن تجمع الإحصاءات اللازمة عن فئة معينة.
وتعتمد الجهات الدولية كبديل عن المعطيات الرقمية تقديراتٍ يتم الوصول إليها بطرق معقّدة، تختلف من مكان إلى آخر بحسب إمكانية الوصول إلى المكان المقصود، وطبيعة المعلومات والإحصاءات المتوفرة قبل بدء الحرب.
ويستند التقدير العلمي إلى معادلات معقدة، ومعطيات مادية وأكاديمية تفوق قدرة معظم المنظمات السورية، ولذا فإنّ معظم التقديرات المتعلقة بسوريا تأتي من المنظمات الدولية، وخاصة وكالات الأمم المتحدة المتخصصة.
وتختلف تقديرات الجهات الدولية حول بعض المعطيات. ويعود سبب الاختلاف إلى المعايير المستخدمة في التقدير، وهو أمر ينبغي أخذه بعين الاعتبار عند استعمال الأرقام.
فعلى سبيل المثال، استخدمت منظمات دولية، خلال عام 2015، أرقاماً عدّة للمدارس التي تم استهدافها في سوريا. فبينما قامت إحدى المنظمات بإضافة المدارس التي خرجت عن الخدمة لأنها تؤوي لاجئين، اقتصرت أخرى على المدارس التي خرجت عن الخدمة دون احتساب المدارس التي تضررت جزئياً.
وهنالك نوع آخر من التقديرات، وهو ذلك الذي لا يستند إلى أساس علمي، وهو الشائع في الخطاب السياسي لأطراف الصراع في سوريا. إذ تُستخدم معطيات كمية في بعض القضايا دون أيّ توضيح لمصدرها وكيفية احتسابها، فقط من أجل استخدامها في البروباغندا السياسية لهذا الطرف أو ذاك.
لماذا نحتاج إلى الأرقام؟
تُعدّ معرفة المعطيات الرقمية أمراً أساسياً لكل العاملين في الشأن السوري، وخاصة المنظمات الإنسانية والمدنية. فهؤلاء يحتاجون إلى تقديرات تمكّنهم من تخطيط برامجهم ومشاريعهم الإنسانية والتنموية. مثلاً، قبل التخطيط لافتتاح مدرسة ابتدائية في قرية ما ينبغي معرفة عدد الطلبة المستهدفين في هذه القرية، وقبل تنفيذ برنامج لمعالجة مشكلة الزواج المبكر لدى الفتيات ينبغي معرفة حجم الظاهرة...
علماً أن المعطيات الرقمية تُساعد على توصيف حالة حقوق الإنسان، وعلى تقدير حجم الانتهاكات الواقعة في كل قطاع، ودور كل من الفاعلين في ارتكاب هذه الانتهاكات، وعلى الضغط إعلامياً وقانونياً وسياسياً لوقفها ومحاسبة أو ردع مرتكبيها.
وبالإضافة إلى أهميتها الآنية، فإنّ المعطيات الرقمية أساسية في عملية إعادة البناء، وفي فهم مجتمع ما بعد الحرب والتخطيط له، وإعداد البرامج والمشاريع التي تتعامل مع المخرجات المتوقعة للمعطيات الحالية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين