هرباً من دين السياسة إلى دين الروح، تنتشر الصوفية في قطاع غزة، فيجتمع الأتباع بشكلٍ دوري في مساجدهم، يخضعون لدوراتٍ ودورس دينية بعيداً عن السياسة أو التنظير لفصيلٍ ما، وهذا ما يميزهم عن بقية مساجد القطاع، التي تتخذها الأحزاب السياسية الإسلامية وسيلة للتواصل مع جمهورها من أجل تثبيت وجودها في المجتمع .
ولكل شيخٍ طريقته الخاصة في التصوف في غزة، إلا أنهم جميعاً يتخذون يوم الخميس من كل أسبوع لأداء "الحضرة"، وهي المجلس القرآني والدرس النبوي، ثم ترديد الابتهالات والمدائح النبوية. وتقوم بعض الزوايا بقرع الطبول وتلحين الابتهالات، إلا أن بعض شيوخ الصوفية يعتبرونها "خزعبلات".
وقد نشطت حركة التصوّف في فلسطين كجزء من الدين، واشتهرت بعض العائلات بالتصوّف، كعائلتي السعافين والخالدي في غزّة، والجعبري في الخليل. ويتبع أفراد هذه العائلات الطريقة "العلاوية"، التي تعود أصولها إلى الشيخ أحمد بن عليوة، الذي ولد في مستغانم بالجزائر عام 1869، وحمل التصوف شِعاراً وطاف بلدان العالم داعياً إليه. وكانت فلسطين من ضمن هذه الدول.
يقول شيخ الطريقة في مسجد الزاوية مصطفى السعافين (70عاماً) لرصيف22: "التصوف كمبدأ لم يخرج عن القاعدة الشرعية للإسلام، بل هو تعزيز لها، ورفع من شأنها، فالإسلام جاء ليُطهر الظاهر ويقيده بالتكاليف الشرعية المعروفة، والتصوف أوجبها عليها إذ لا يستطيع مسلم أن يتحلل منها. لكن التصوف يأمرنا بألا نتوقف عند هذه التكاليف، فهي ظاهر لا بد أن يكون لها بطان، هو أن تُصفي قلبك مع الله".
وأضاف: "هذه الزاوية هي الزواية الرئيسة لكثير من الزوايا في الداخل الفلسطيني والضفة الغربية والأردن ومصر، وخان يونس ودير البلح، وهي تتبع للصوفية العلاوية".
ويشير إلى أن "الشيخ الصوفي زار فلسطين عام 1900، والتقى بعض المشايخ، منهم الشيخ حسين أبو سردانة في بلدة الفالوجة، وبعد أن توفي أخذ عنه الطريقة الشيخ محمد السعافين، الملقب بأبي أحمد الفالوجي عام 1952، إلى أن وصلت أخيراً إليّ عام 1970 وما زلت قائماً على الزاوية حتى الآن".
طقوسهم وعاداتهم
هذه الزاوية التي يتوافد إليها بشكلٍ دوري العشرات، تقوم على أساس الالتزام بكتاب الله وسنة نبيه، وشعائرها مستمدة من الشرع. يقول السعافين: "اجتماع الأتباع في هذه الزاوية يأتي لذكر الله ذكراً صريحاً، من دون تأويل، وبعيداً عن استعمال الطبول وخزعبلات التبارك بشيخ الطريقة التي يستخدمها البعض، فالحضرة لجلاء الهموم عن القلوب وخلوة وتواصل مع الله لإصلاح الباطن".
وعن المناسبات والمواسم التي تهتم بها الزاوية يقول: "نحتفل بعيديّ المسلمين الفطر والأضحى، إضافة إلى عدد من المناسبات الدينية، كالمولد النبوي، ويكون عبارة عن مجلس ذكر أولاً، وتعريف بالمناسبة ثم الصلاة على الرسول، والمديح النبوي بعيداً عن كل البدع والمنكرات".
الزاوية مقامة بجهودٍ فردية، وينفي الشيخ أي دعم خارجي أو داخلي لها، فهو يُنفق عليها منذ تأسيسها، ما جعلها ملكاً خاصاً لعائلته، لكنها مفتوحة للجميع. ويلفت إلى أن "المجتمع يعتقد أن المتصوفين ناس غير متعلمين أو دراويش، وهذا اعتقاد خاطىء، فالإمام صلاح الدين الأيوبي والحسن البصري والإمام الشافعي كانوا متصوفين".
موقفهم من الفصائل الإسلامية
وعن موقفهم من الفصائل الإسلامية داخل القطاع، أشار إلى أن علاقتهم طيبة مع جميع الأحزاب، والجميع يحترمهم ولا ينتقد طريقهم. مؤكداً أنهم لا يُعانون من أي ملاحقاتٍ أمنية ولا مضايقات، لأنهم في الزاوية يتعاملون على أساس المحبة والتفاهم مع الآخرين.
ويرى أن التدخل في السياسة يُوِجد العداء بين الإخوة في البلد الواحد، لذا أبعدوا السياسة عن مبادئهم. مضيفاً: "نقوم بتوعية شبابنا فكرياً وتحصينهم، لإعدادهم لمواجهة الأفكار البعيدة عن ديننا، فليس من كتاب الله ولا من سنة نبيه ما يدعوني لمحاربة من يُخالفني الدين بالسلاح، السلاح لمن اعتدى عليّ ويُقاتلني فقط، وما دون ذلك فقول الله واضح: "وقولوا للناس حُسنى". فهل يستطيع السلاح أن يُغير فكر يعتقده الإنسان في ذهنه؟ بالطبع لا".
ويلفت إلى أن الزاوية تهدف إلى "عودة المجتمع إلى تكوينه الأول، مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة.
أما زاوية أبو شريعة فيقول شيخها أبو يوسف إن "الصوفية منهج اتبعه أجدادنا، وتوارثناه عنهم لاعتقادنا الجازم بأن هذا هو الطريق الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن ينجو في هذا الزمان". مشيراً إلى أن عمر الزاوية يتجاوز الخمسين عاماً.
وحول رسالتهم في الزاوية، فلم يختلف عن كلام السعافين، فالصوفية جماعة ترفض العنف بأنواعه، وتعتبر "تربية الروح وإعدادها" أهم وأولى من الانخراط في السياسية. ويرى أن الابتهالات والمديح النبوي، التي يُقيموها أسبوعياً، وفي المناسبات الدينية هي بمثابة "الحبّ لله وللرسول الكريم".
ويضيف أبو شريعة: "هذه الزاوية هي المكان الرئيس لسبعة فروع في الضفة الغربية وغزة، ويتوافد إليها العشرات إيماناً منهم بأهمية التصوف في زماننا هذا".
نظرة المجتمع سلبية
ويصف أبو شريعة نظرة المجتمع إلى الزوايا الصوفية بالسلبية. ويعتبر أن السبب وراء ذلك هو "جهل المجتمع للمعنى الصحيح للتصوف والمتصوفين".
ويؤكد أن زاويته هي واحدة من سبعة أفرع في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويتوافد عليها العشرات من الشباب إيماناً منهم بأهمية التصوف في زماننا هذا، و"نُعدهم إعداداً فكرياً ودينياً كاملاً حتى نُخرج للمجتمع فئة قادرة على استعادة زمن الصحابة رضوان الله عليهم".
ويوضح أن "الصوفية ليست أمراً مبتدعاً بل تتبع المنهج النبوي لإصلاح الباطن وتفريغه من أيّ حقدٍ أو كره لأيّ أحد أو أيّ حزبٍ مهما كانت ميوله".
لا رهبانية في الإسلام
ورغم لجوء العشرات من شباب غزة نحو "دين الروح"، فإن هذه الزوايا وتعدد الطرق الصوفية، تُثيران جدلاً كبيراً بين الدعاة وعلماء الدين، حول شرعيتهما، وإن كان ما يفعله المتصوفون له أصل ديني، أو هو مجرد اجتهادات شخصية. ويقول عميد كلية الشريعة والقانون في الجامعة الإسلامية بغزة د. ماهر السوسي لرصيف22: "الصوفية مفهوم فضفاض، وهناك من فهمها بشكلٍ صحيح وطبقّها في حدود أخذ النفس بالتقشف والخشونة، بينما البعض الآخر فهمها بشكلٍ خاطئ فأخذ يتوسل إلى أولياء وشيوخ زواياهم".
وأضاف: "لا رهبانية في الإسلام، ولا يوجد في التاريخ الإسلامي ما يدل على الاعتزال عن الواقع أو الزهد في الحياة بشكلٍ يؤدي إلى انقطاع الإنسان عن المحيط الذي يعيش فيه". مشيراً إلى أن الصوفية تدعو إلى عدم انخراط الإنسان بمجتمعه ولا بالسياسة، والإنسان بحسب ما جاء في الإسلام لا يستطيع أن يُعدّ نفسه بعيداً عن الحياة ومجرياتها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...