ينتشر نبيذ العالم القديم اليوم في أراض خاضعة للحكم الإسلامي في معظمها. في منطقة الشرق الأوسط، المشبعة بتاريخ وحضارة عمرهما آلاف السنوات. فيها الكروم الغنية التي أنتجت نبيذاً فاخراً شرب من كأسها الفراعنة والفينيقيون والرومان، وتغنى في وصفها الشعراء والكتّاب والمؤرخون، حتى باتت جزءاً لا ينفصل عن حضارةٍ ارتبطت بتلك الأرض.
على هذه الأرض اليوم جيلٌ جديدٌ من خبراء النبيذ العرب، الذين يحاولون إعادة تطوير هذه الصناعة والعودة بها إلى مجدها القديم. في ما يلي أهم الرحلات التي خاضها النبيذ في المنطقة العربية.
فلسطين والنبيذ المُحتل
تسيطر إسرائيل على معظم الكروم في الأراضي الفلسطينية، وأشهرها كرمة مراوي التي يعود تاريخها إلى أوائل القرن الثالث الميلادي. يوجد في إسرائيل نحو 350 مخمرة تنتج نحو 65 مليون زجاجة نبيذ سنوياً، معظمها مصنع من كروم فلسطينية الأصل والمنشأ. وفي مقابلة أجرتها صحيفة NY Times الأمريكية مع المسؤول عن الصادرات في مخمرة Cremisan في بيت لحم "عامركردوش "، أشار إلى أن مخمرته تستخدم عنب المراوي منذ عام 2008، ولفت إلى أن هدفه الأسمى، هو أن تتمكن مخمرته من صنع النبيذ الأبيض الذي شربه داوود والمسيح.
أما الكروم الفلسطينية، فكان لها نصيب أيضاً في صناعة النبيذ الوطني الفاخر كمحاولة للحفاظ على الهوية في وجه النبيذ الإسرائيلي. ومسيحيو فلسطين لهم باعٌ طويل في تذوق النبيذ وصناعته. في الماضي كان هناك مخمرتان يملكهما مسيحيو الضفة الغربية، تنتجان نبيذهما الخاص. بعد سيطرة إسرائيل على المنطقة، لم يعد من السهل وصول الفلسطينيين إلى الضفة وتم إغلاق الخمارتين تدريحياً. لكن مؤخراً، افتتح "نديم خوري" أحد الشباب المنحدرين من عائلة مسيحية فلسطينية أول مخمرة في ضيعة الطيبة في الضفة الغربية، بعد حصوله على درجة الهندسة من جامعة هارفرد، وعمله فترة طويلة مع أحد خبراء صناعة النبيذ الإيطاليين.
يعترف نديم أن المسلمين من فلسطين لم يحاولوا اعتراض مشروعه يوماً، فهو يصنع البيرة منذ أكثر من 20 عاماً، ويُسمح له بتوزيعها في متاجر عديدة من الضفة الغربية. وفي فترة أعياد الميلاد هذا العام سيتمكن الفلسطينيون من تذوق أول نبيذ فاخر من إنتاج أرضهم.
الجزائر أكبر مصدر للنبيذ في العالم
خلال القرن الماضي كانت الجزائر تصدر نبيذاً للعالم أكثر من الكمية التي كانت تصدرها مجتمعةً فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. لم تكن صناعة النبيذ معروفة في الجزائر قبل حقبة الاستعمار، وتعود جذور هذه الصناعة إلى بداية القرن العشرين، حين اجتاح قمل النبات حقول فرنسا، وقضى على معظم كرومها. يومها قررت فرنسا أن تفرض صناعة النبيذ على جمهور لم يحبّذ يوماً المشروب. فانتقلت آلاف العائلات الفرنسية التي تعمل في تصنيع النبيذ إلى الجزائر، لتحولها إلى مخمرة عملاقة لتصنيع النبيذ الفرنسي. اكتسب النبيذ الجزائري سمعة قوية على حساب النبيذ الفرنسي بسبب جودته ورخص ثمنه، وتدريجياً، بدأ يغزو الأسواق الفرنسية.
رغم الإجراءات القانونية التي قامت بها الحكومة الفرنسىة لحماية صناعة النبيذ المحلية بضغط من الصنًاع المحليّين، فإن الجزائر استطاعت احتلال المرتبة الرابعة ضمن لائحة أكبر مصدري النبيذ في العالم عام 1961. بعد خروج الفرنسيين من البلاد تم تأميم قطاع صناعة النبيذ، وأدى ذلك إلى انخفاض الإنتاج بشكل ملحوظ. استطاع النبيذ الجزائري أن يحافظ على مكانة له في العالم، إلا أن اعتماد القوانين التي تهمّش النبيذ العادي أو Vin ordinaire، أمر يضع قيوداً ثقيلة على هذا القطاع في البلاد.
المغرب النموذج المثير للاهتمام
85% من النبيذ المغربي، يستهلك في الداخل رغم نسبة المسلمين في البلاد التي تصل إلى 98%، ونجاح الأحزاب الإسلامية سياسياً، وبذلك تعتبر المغرب نموذجاً مثيراً للاهتمام. يعود تاريخ صناعة النبيذ في المغرب، في منطقة مكناس التي تعتبر الأفضل لزرع الكروم، إلى نحو 2500 عام، وتماماً كالجزائر وتونس، عملت فرنسا على استخدام أرض المغرب لإنتاج 3 ملايين هكتولتر في الخمسينات، مع فرق أن المغرب بقيت في المرتبة الثانية كأكبر منتج للنبيذ في البلاد العربية. وعند الاستقلال عام 1956، انحدرت قيمة قطاع النبيذ بسبب تأميم الكروم، إلى أن أتى الملك حسن الثاني وسمح لصناع النبيذ الأجانب بالاستفادة من كروم المغرب، من خلال عقد إيجار طويل الأمد، وهذا ما أعاد الخبراء الفرنسيين إلى الكروم المغربية، وأعاد تنشيط قطاع النبيذ الذي ما زال مزدهراً.
القانون المغربي يمنع صناعة النبيذ، ولكن ما من بندٍ يمنع بيعه في المتاجر والبارات أو يحظّر بيعه للمسلمين، خارج فترة رمضان بالطبع. وكأن تقليد شرب النبيذ أكبر وأقوى من أي قانونٍ ديني أو حكومي، فالحكومة تستفيد من ذلك القطاع من خلال الضرائب التي ترتفع سنوياً. أشهر أنواع النبيذ هو المُغربي الأحمر، الذي يباع في قناني بلاستيك بسعرٍ لا يتعدى الـ3 يورو.
الأردن والنبيذ العضوي والجريء
تاريخ صناعة النبيذ في الأردن حديث نسبياً، فلا يوجد دلائل تشير إلى وجودها قديماً، على الرغم من الموقع الجغرافي للبلد في قلب العالم القديم. انطلقت قصة النبيذ المعاصر في الأردن مع عائلة زوموت، التي افتتحت أول مخمرة وعرفت باسم مخمرة Saint Georges في الخمسينيات من القرن الماضي في منطقة مادبا، ولاحقاً افتتحت فروعاً في موقعين آخرين. وعلى الرغم من المناخ شبه الصحراوي للمنطقة هناك، إلا أن نبيذ الأردن يُصنع من أصناف الكرمة النبيذية المألوفة في أيامنا، مثل الكابرنيه سوفينيون أو شيراز للأحمر، وشاردونيه وبينو غري للأبيض.
وفي حديثٍ لموقع nbcnews يسترجع عمر، أحد أفراد عائلة زعمط، اليوم الذي قرر فيه أن يزرع العنب الأوروبي قرب الصحراء الأردنية، ورغم استهزاء محيطه بالفكرة الخيالية، تمكنت العائلة من إنتاج 17 نوعاً من النبيذ الأبيض والزهري والأحمر حتى اليوم. إذ تتّبع طريقةً عضوية في معالجة الخمر من خلال ترك الخراف حتى تتغذى من أوراق الكروم بعد شهرين على مرور القطاف، فلا تترك مساحةً فيها قابلة لوضع بيض الحشرات، وفي الوقت نفسه لعاب الخراف يعقم الجذوع، وبذلك لا داعي لاستخدام أي مبيدات ومواد كيميائية. ساهمت تلك الجودة بتصنيع النبيذ في إعطاء أنواع عدة من تلك الكروم ميداليات في عالم النبيذ. رغم ذلك النجاح فإن أقل من 1% فقط من إنتاج العائلة كل عام يتم تصديره إلى بعض البلدان المجاورة، فأسلوب حياة نبيذ Saint Georges جديد على الأوروبيين، ولا يبدو أن لديهم الفضول لتذوقه.
لبنان والنبيذ المناضل
يقال إن المعجزة الأولى التي قام بها يسوع حصلت في قانا جنوب لبنان، يوم حوّل المياه إلى نبيذ. مرّ النبيذ في لبنان بالعديد من العراقيل من دون أن يستسلم. فكانت الإمبراطورية العثمانية تحظر صناعته، والحرب اللبنانية ساهمت في اندثار هذه الصناعة. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن عدد المخامر ازداد من 5 في تسعينيات القرن الماضي إلى 40 مخمرة اليوم، مع أكثر من 8.5 ملايين زجاجة سنوياً، نصفها من إنتاج شاتو كسارا وشاتو كفريا، بينما يفخر النصف الآخر بتصنيع كميات أقل ولكن بجودة يعتبرها أفضل. ويتم تصدير قسم مهم من النبيذ اللبناني إلى الخارج، بنسبة تراوح بين 20 و60% حسب المخامر، ومذاقه محبّذ جداً في بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، رغم المنافسة الحادة التي تشنها أنواع نبيذ "العالم الجديد"، أي التشيلي والأسترالي والأرجنتيني وغيرها. تلك الأرقام تعتبر ضئيلة بالنسبة إلى المنطقة، ويعتقد صانعو النبيذ في لبنان أن الأمر متعلق بعدم استقرار البلاد، الذي ينتج عنه قلة الموارد والاستثمارات في ذلك القطاع.
أمرٌ آخر يحد من تطور قطاع النبيذ اللبناني بشكلٍ ملائم، هو دور الحكومة ودعمها للقطاع من خلال تخصيص قسم من ميزانيتها لتلك الأهداف، استراتيجية بدأت تطورها منذ عامين، ولم تعط ثمارها بعد في أرقام التصدير إلى الخارج.
في لبنان ثقافة تذوق النبيذ تأخذ رواجاً كبيراً بفضل السياحة النبيذية، أو الـEnotourism، التي بدأت تشهد ازدهاراً كبيراً. فمنذ بضعة أعوام بدأ اللبنانيون بممارسة هواية جديدة تتمثل برحلة ممتعة إلى الجبل البتروني أو السهل البقاعي، لاكتشاف منطقة جديدة وتمضية النهار في الهواء الطلق، وتذوق نبيذٍ لذيذ في قلب المخمرة وسط الكروم، ومأكولات من المطبخ اللبناني، وأسعار منخفضة على النبيذ. مخامر مسايا هي التي بدأت تلك السياحة عام 2002، وتبعها الآخرون لدى اكتشافهم الأرباح المادية والمعنوية التي تدرها على السياحة اللبنانية.
سوريا والنبيذ الأحمر
المخامر في سوريا تعاني بسبب الحرب الداخلية والخارجية كبقية القطاعات في البلاد. وبالرغم من ذلك فإن مخمرة دومين دو بارجيلوس، وهي المخمرة التجارية الوحيدة في سوريا، ما تزال تحافظ على وعدها للزبائن بالاستمرارية. حلم عائلة سعادة المنحدرة من أصولٍ سورية والقائمة في لبنان تحقق حين بدأت بتصنيع نبيذ عالي الجودة من كرومٍ سورية منذ بضعة أعوام. علماً أن الحرب منعت خبراء المخمرة من الذهاب إلى سوريا في الوقت الحالي للإشراف على صناعة النبيذ. ففي موسم نضوج الكروم في سوريا يتم نقل عينة من العنب المغلف بالثلج كل 3 أيام إلى لبنان، ليتم تذوقها والحكم عليها قبل القطاف. وحين يجهز النبيذ، يتم إرساله إلى بلجيكا عبر بور سعيد في رحلةٍ تستغرق 45 يوماً، ثم يجري تخزين العنب في مستودع العائلة. تزرع الكروم في جبل العنصرية في أرضٍ تتصف بتراب ومناخ مميزين منذ أيام الرومان، ما يجعل نبيذ بارجيلوس من أكثر أصناف النبيذ المثيرة للاهتمام في المنطقة. مخمرة دومين تصنع نحو 45 ألف زجاجة سنوياً من نبيذ الكروم السورية، تباع في بلاد مختلفة حول العالم. ويقول كريم، أحد المالكين، إن "استمرارنا بالتصنيع في الحرب هو رمز البقاء والمقاومة".
مصر والنبيذ الرهيب
لا نقصد الرهيب أو الفظيع باللغة العامة، بل الرهيب بكل معانيه في القاموس العربي. فصيت النبيذ المصري لم يكن جيداً خارج مصر ولفترةٍ طويلة، ولكن محاولات عديدة في جعله "صالحاً للشرب" على المستوى العالمي عملت على تطوير مصدره وطعمه. صناعة النبيذ مهملة منذ القرن التاسع عشر في مصر، والمساعي الحقيقة لتنشيط القطاع وزراعة الكروم في مناخٍ صحراوي قاسٍ، وبيئة محافظة إلى حدٍ كبير، انطلقت منذ نحو 15 عاماً. لن تتمكن يوماً مصر من منافسة أي نبيذٍ آخر في المنطقة، ولكن الصناعة في حد ذاتها تعتبر مرحاً ومتعة أكثر من أي شيءٍ آخر. صناعة نبيذ قابل للشرب هو تحدٍ كبير للخبراء، وذلك الإنجاز أتاح لنبيذ جاردان دو نيل الفوز بجوائز أوروبية عدة، ودفع بنقاد النبيذ أمثال توم كانافان إلى ذكره في كتاباتهم، على أنه مثير للاهتمام لدى تذوقه في أجواء مصر العامرة. نبيذ مصر لم يعد يتسبب بالصداع، والتسعة ملايين زجاجة التي يتم صنعها كل عام، وتواجه ضرائب 100% من سعرها، لا تخلو من عيوب. لكن إذا سألت مصرياً عن جودة نبيذ بلده بكل أنواعه، سيقول لك إنها لذيذة بلذة مصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع