شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هل تطالب الحكومات العربية باعتذارات رسمية لشعوبها؟ 

هل تطالب الحكومات العربية باعتذارات رسمية لشعوبها؟ 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 15 أكتوبر 201602:21 م

معروف أن اعتذار الدول عن تاريخهم القريب أو البعيد تقليد دولي قلما تشارك فيه الدول العربية. هذا النوع من الاعتذار الضمني يعترف بالأخطاء التي ارتكبت، ويأمل أن لا تتكرر. وهو في غالب الأحيان لا يُقدم من الأطراف المسؤولة بشكل مباشر عن الظلم، بل من ورثتهم السياسيين.

تأتي أهمية الاعتذار الرسمي في رد اعتبار الشعوب والجماعات أو حتى الأشخاص الذين لحقت بهم الإساءة، وإنْ معنوياً، تقليداً سياسياً يعبر عن تقاطع المناخ التاريخي مع قوانين عالمية ومحلية ومواضيع إنسانية، وأيضاً عن نظرة مستقبلية مادية أو معنوية تفتح مجالاً للتعاون والتقارب بعيداً عن مشاكل الماضي وحمولته الثقيلة.

كيف بدأ هذا التقليد؟

بدأ هذا التقليد عام 1077، عندما اعتذر الإمبراطور الروماني هنري الرابع لقداسة بابا روما غريغوري السابع، عن صراعات نشبت بين الدولة والكنيسة، وقد عبر عن اعتذاره بأن وقف حافياً في الثلج ثلاثة أيام.

تتالت الأمثلة من بلدان وحكومات تقدم اعتذارات رسمية لشعوب على أحداث مؤسفة ومأسوية ارتكبتها في حقهم، لعل أشهرها اعتذار اليابان للعالم في خطاب لها في الأمم المتحدة عن دورها في الحرب العالمية الثانية، واعتذارها الخاص من كل الدول المتضررة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي هاجمتها اليابان في ميناء هاربر. ولم تعتذر أمريكا مقابل ذلك عن استخدامها القنبلتين النوويتين في هيروشيما وناغازاكي. إلا أنها اعتذرت عن ارتكابها ظلماً فادحاً بحق الأميركيين من أصل ياباني أيام الحرب العالمية الثانية، إذ جرى حبسهم في مخيمات على خلفية اتهام جماعي بأنهم موالون لليابان ضد الولايات المتحدة.

اعتذار جماعي غير حكومي

في عام 1999 اعتذرت مجموعة من مسيحيي أوروبا، بعدما سمته “مسيرة التصالح”، عن الحروب الصليبية التي أودت بحياة مسلمين ويهود ومسيحيين قبل 900 عام. كذلك أعلنت الكنيسة الكاثوليكية في عام 1994، في احتفالات الكنيسة بافتتاح الألف الثالثة للمسيحية، أنها ستعيد النظر في دورها في التاريخ، وذلك “بأن تتطلع إلى الماضي بشجاعة، وأن تعترف بالمسؤولية حيث هي مستحقة”. وفي زيارته الأولى لأميركا الجنوبية، في صيف هذا العام، تحدث البابا فرنسيس في خطاب حضره الآلاف، عما سماه “الأخطاء الفادحة” التي ارتكبتها الكنيسة الكاثوليكية بحق الشعوب الأصلية. اختار البابا بوليفيا، التي انتخبت أول رئيس لها من شعوبها الأصلية، ليقدم اعتذاره عن فداحة الغزو الذي تم تحت راية نشر الكاثوليكية. وفي خطابه، قال البابا فرنسيس: “أطلب بكل تواضع الغفران للإساءات التي اقترفت خلال فترة استعمار أميركا”.

تعويض الحكومات جزء من الاعتذار الرسمي

لاعتذار الدول قيمة معنوية وأخلاقية عالية للشعوب من الطرفين، ولكن أيضاً يترتب على الدولة المُرتكِبة، وربما هذا ما يجعلها أكثر إشكالية وصعوبة، اعتراف بالأخطاء التي بنيت عليها هويات وطنية حول العالم. كما أن اعتذار الدول رسمياً يستدعي مناقشة منح تعويضات مالية وتحمّل تبعات قانونية. فمثلاً عندما اعتذرت كوريا الجنوبية لفيتنام عما ارتكبته جيوشها خلال ثورة 1965، أرفقت السلطات الكورية اعتذارها بتعهد لبناء وتطوير المناطق المنكوبة.

وفي لفتة إنسانية، صوت البرلمان النرويجي على تعويضات مالية لـ12 ألف ألماني كانوا أولاداً لأفراد من الجيش الألماني الذي احتل النرويج خلال الحرب العالمية الثانية، وسبب الاعتذار والتعويض هو أن هؤلاء عانوا من التمييز في المجتمع النرويجي بعد انتهاء الحرب.

وفي الأسبوع الماضي، قدم ولي العهد الإسباني في خطبة مؤثرة اعتذاراً عن الأحداث التي أدت إلى إجبار اليهود في إسبانيا وقتذاك على التحول إلى المسيحية أو الطرد، جاء احتفالاً ببدء العمل بالقانون الذي يسمح بمنح الجنسية الإسبانية للراغبين فيها من أحفاد العائلات اليهودية التي غادرت إسبانيا قسراً قبل خمسة عقود.

هل لشعوب المنطقة فرصة للمشاركة في هذا التقليد وكسب ثماره؟

اعتذار من حكومة العراق للشعب الكويتي

في عام 1990، قام العراق باجتياح مفاجئ للكويت، وضمها إلى الأراضي العراقية 7 أشهر. ولكن بعد أكثر من عقد من الزمن،  قدم صدام حسين في عام 2002 رسالة اعتذار للشعب الكويتي تمت قراءتها باسمه على شاشات التلفزيون الرسمي العراقي، خاطب فيها الشعب الكويتي بـ“الإخوة” واعتذر من الله ومنهم عن حربه على الكويت.

الحرب على العراق

قبل أيام قليلة، سمعنا طوني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق يقدم ما يشبه الاعتذار لدى قوله إن الحرب على العراق كانت “خطأ”، ولم تتعد هذه المقولة كونها اعترافاً، إلا أنها ربما تكون أقرب إشارة حصل عليها العراق على شكل “اعتذار”. أما من الولايات المتحدة، وعلى الرغم من انتقادات البيت الأبيض الصريحة لفترة حكم الرئيس الأميركي جورج بوش، فإن الرئيس أوباما لم يحاول تقديم اعتذار للشعب العراقي وشعوب المنطقة عن حرب العراق وما نتج عنها من مآسٍ، ودورها في الفوضى والخراب المستمر إلى اليوم.

هل يبقى اعتذار من تركيا للشعب الأرمني مستحيلاً؟

تركيا ورثت من الامبراطورية العثمانية في آخر أيامها حملاً ثقيلاً لا يزال يشكل أزمة للشعب التركي وحكومته بعد قرابة قرن من الزمن. فقبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، قامت الإمبراطورية العثمانية بترحيل قسري وارتكاب مجازر بحق جماعات مسيحية على رأسها الأرمن. يقدر الباحثون بأن عدد الضحايا تجاوز المليون. يطالب الشعب الأرمني تركيا بالاعتراف بهذه الإبادة الجماعية، بينما ترفض تلك الأخيرة الاعتراف بوقوعها. وترفق أرمينا طلبها بتعويضات مادية، لكن تدور الأسئلة حول طبيعة هذه التعويضات ومن يتسلمها، الجالية الأرمنية حول العالم أم الحكومة الأرمينية؟

إيطاليا وليبيا: اعتذار وتعويضات؟

احتلت إيطاليا ليبيا لـ32 عاماً انتهت عام 1943،  وبقيت من هذه الفترة القاسية صور صادمة من الاعدامات والجرائم التي ارتكبت. في عام 2008، وفي اجتماع للرئيس الليبي السابق معمر القذافي ورئيس الوزراء الإيطالي وقتذاك سيلفيو برلسكوني، تم التوقيع على تفاهم تعهدت فيه إيطاليا بتقدم 5 مليارات دولار تعويضاً عن الحرب الإيطالية، على شكل مشاريع تنموية، ومنح للطلاب وتعويضات مالية لأسر الجنود الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية. علماً أن هذه الاتفاقية قدمت ضمناً كحافز للحكومة الليبية لتكثيف جهودها من أجل منع الهجرات غير الشرعية من ليبيا إلى إيطاليا. ومع أن لهذه الاتفاقية مبررات سياسية، تبقى من أكثر المبادرات نجاحاً في تاريخ الدول العربية.

وقد قال رئيس الوزراء الإيطالي في خطاب خلال زيارته في 30 أغسطس: “باسم الشعب الإيطالي، كرئيس للحكومة، أشعر بأنه من واجبي أن أقدم اعتذاراً عن الجراح التي سببها الاستعمار الايطالي للشعب الليبي".

ديون باقية بين فرنسا والجزائر

بعد قرن من احتلال فرنسا للجزائر، اندلعت ثورة مسلحة في الجزائر عام 1954، دامت سبع سنوات، وانتهت باعلان استقلال الجزائر صيف عام 1962، وقد خلّد الشعب الجزائري شهداء الثورة بأن أصبحت الجزائر تعرف ببلد المليون شهيد. عبّر الجزائريون عن مشاعرهم تجاه الاستعمار في نشيدهم الوطني الذي يخاطب فرنسا ويقول لها إن الشعب الجزائري قرر "أن تحيا الجزائر" وأن "وقت العتاب" قد مضى، وأن اليوم هو "يوم الحساب".

إلا أن يوم الحساب للشعب الجزائري في ما يخص الاحتلال الفرنسي لم يأت بعد. في عام 2003، طالب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة باعتذار رسمي للشعب الجزائري من الحكومة الفرنسية. تجدد الأمل في تحقيق هذا المطلب مع انتصار الحزب الاشتراكي الفرنسي في الانتخابات الرئاسية في عام 2012، وبالفعل مع بداية رئاسته، خلال زيارته للجزائر، تطرق الرئيس فرانسوا هولاند في خطاب للبرلمان الجزائري إلى تاريخ بلاده واحتلال الجزائر 132 عاماً، وأقر بأن هذا الجزء من تاريخ فرنسا كان “فظيعاً”، وذكر التعذيب ومجازر بعينها، وتمنى أن تبدأ مرحلة جديدة مبنية على “الاعتراف بالحقيقة”، ولكنه مع ذلك لم يعتذر، بل أكد أنه لم يأت “ليعبر عن توبة أو ليقدم اعتذاراً”.

هل فات الآوان لاعتذار فرنسا للشعب السوري؟

القصة مختلفة تماماً عن علاقة فرنسا بالجزائر، لأن فرنسا اليوم متأثرة بالأحداث الحالية في سوريا، وهي تشارك في الحرب ضد داعش. مع الدمار الذي يحل في سوريا اليوم، قد يبدو اعتذار فرنسا عن الفظائع التي ارتكبتها تحت الانتداب سراباً وترفاً. غير أنه يمكن التساؤل عن الدور الذي لعبه تقسيم فرنسا لسوريا أيام الانتداب في أحداث اليوم، فهي لو كانت قد قسمت سوريا ولبنان بشكل “أفضل"، ربما ما كانت الحرب اليوم لتجري على النحو الطائفي الذي اتخذته.

هل لاعتذار الدول أهمية فعلية في حياة الشعوب؟

ربما يكون الاعتذار بين الدول شبيه بالاعتذار بين الأشخاص. فبدونه تبقى مرارة التاريخ وخسائر أحداثه المؤسفة جزءاً من الحاضر وعقبة في طريق الصلح والتعاون. في جميع الأحوال، لا شك أن الاعتذارات ذات قيمة معنوية عالية ترد الكرامة وتعبر عن الاحترام للحزن والمآسي التي مرت بها الشعوب والجماعات.

بالنسبة للشعوب العربية بالتحديد، خاصة مع التغيرات التي تشهدها وضرورة إعادة النظر في هوياتها الوطنية، هل يكون هناك حاجة لمثل هذه الاعتذارات أن تقدم، وأن يُطالب بها؟ وهل يكون لنظرة تسامح للماضي دور في حياة الشعوب العربية وتعاملها مع تاريخها القريب، وربما زخم لبناء هوية وطنية مستقبلية تحترم العدالة وتتجاوز حدود الماضي؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image