لا يغيب التوريث السياسي عن الأحداث في لبنان، خصوصاً حين يقترب أي استحقاق، في هذا البلد الذي تعتمد كل استحقاقاته على التسويات. ومع ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية اللبنانية، هو ابن البيت العريق الذي ورثه عن جديه قبلان وسليمان ووالده طوني، تستمر هذه الثقافة.
يوماً ما غنّى أحد الفنّانين المعروفين أغنية لسليمان فرنجية ربط فيها تاريخ "المردة" بالحاضر، قائلاً: "من سليمان إلى سليمان"، لعله قصد فيها أن النائب سليمان يسير على خطى جدّه الرئيس سليمان فرنجية في الحصول على منصب الرئاسة.وبين إرث الماضي ومتطلّبات المرحلة الجديدة، يقف "البيك" اليوم، ولعل ابنه طوني سليمان فرنجية مستقبلاً، منتظراً المتغيّرات السياسية التي قد تكون مصيرية بالنسبة إلى خطّه السياسي. فابن البيك حتماً بيك، وابن المير مير، وابن الشيخ شيخ، وابن الأفندي أفندي، وابن الفلاح هو حكماً فلاح.
هل تغيرت وجوه الوراثة السياسية بين الأمس واليوم؟
عملية التوريث ليست متجددة بل متقدمة العهد، وتدخل ضمن تركيبة النظام السياسي اللبناني منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 يوم كانت العائلات الإقطاعية تدير البلاد وتتوارث الزعامة أباً عن جد، حتى العهود اللاحقة من الانتداب إلى الاستقلال فاليوم.
وقد حمل تاريخ لبنان السياسي الكثير من حالات التوريث، فمعظم العائلات جدّدت لنفسها من الآباء إلى الأولاد والأحفاد. والأمثلة لا تحصى، فعائلة إده بدأت مع إميل الذي أسسّ حزب الكتلة الوطنية في زمن الانتداب، وانتقلت الزعامة من ريمون وبيار إلى كارلوس. بينما جددت عائلتا الجميل وفرنجية إرثيهما، واستمرت عائلة شمعون بعد الرئيس كميل شمعون مع داني، وبعد اغتياله عام 1990 تسلّم دوري الزعامة، وأصبح نائباً في البرلمان، بينما أسست تريسي ابنة داني حزب الديموقرطيين الأحرار نتيجة خلافها مع عمها دوري.
[caption id="attachment_42701" align="alignnone" width="350"] التوريث السياسي في لبنان -[/caption]آل فرنجية: من طوني فرنجية الجد إلى طوني الصغير
سليمان طوني فرنجية، دخل المعترك السياسي قبل 23 عاماً، وسلّم جده الزعامة إليه بعد اغتيال والده الوزير والنائب طوني فرنجيه عام 1978، ومن هنا كان وزيراً في السادسة والعشرين من عمره، ونائباً في السابعة والعشرين. وقد أعرب رئيس تيار المردة عن نيته تسليم الزعامة لابنه طوني، ولم يقدم ترشيحه للانتخابات النيابية قبل حدوث التمديد، بل ترك نجله يقدم الطلب مكانه. وهو يعمل اليوم على تهيئته ليتقلّد عباءة الزعامة الزغرتاوية (من منطقة زغرتا)، لنكون أمام رباعية الجد سليمان الرئيس الأسبق، والابن طوني الوزير والنائب الراحل والحفيد سليمان، وبعده ابنه طوني.
هكذا عبّر سليمان عن رغبته وقرار انتقال زعامة بيت فرنجية إلى نجله طوني الذي تفرض عليه التقاليد أن يكمل مسيرة أجداده. وقد اعتاد الشاب طوني منذ أن طرحه والده مرشحاً لخلافته في المقعد النيابي، مجالسة أبناء المنطقة والاستماع إلى مطالبهم وملاحقة طلباتهم، والمشاركة في مناسباتهم السعيدة والحزينة.
آل جنبلاط : نجل البيك، بيك
اغتيل كمال جنبلاط فـي 16 مارس 1977، ليرث نجله وليد عباءة زعامة الطائفة الدرزية وهو في مقتبل العمر، إلا أنه نجح في تحمل المسؤوليات. إذ لعب دوراً سياسياً كبيراً في الساحة اللبنانية وخصوصاً في الجبل، ليقضم من عائلاتها "اليزبكية" ويصبح الممثل الأقوى داخل طائفته، التي أخذ أكثرية مقاعدها النيابية والوزارية.
يهمّ جنبلاط اليوم إلى ترك هذه المساحة الواسعة لابنه تيمور ليلعب فـيها، فسعى إلى إدخاله من جميع الأبواب لبناء علاقات واسعة. جال معه على قادة سياسيين لبنانيين، فالبيك قرر أن يستقيل من النيابة ليحل مكانه البيك الصغير عن المقعد الدرزي فـي الشوف، إلا أن ظروف التمديد لمجلس النواب وعدم إمكانية حصول انتخابات فرعية، حكمت بتأجيل التنفيذ. لكن تيمور بدأ في الوقت نفسه يتسلم الزعامة عملياً من خلال استقباله الأنصار في قصر المختارة، لتكتمل المعادلة الثلاثية بين الجد كمال والابن وليد والحفيد تيمور.
في الواقع، لم ينتظر وليد جنبلاط أن يبلغ سن التقاعد أو وفاته كمن سبقوه ليسلّم نجله الزعامة، بل قرر تمريرها بعد استقالة مدروسة، فتيمور في كنف والده ودعمه ستكون مهمته أسهل في اقتحام الحياة السياسية من بابها العريض.
آل إرسلان : نجل الأمير، أمير
لم تختلف الزعامة الإرسلانية عن نظيرتها الجنبلاطية، فقد برز في العامين الماضيين نجل الأمير طلال إرسلان، مجيد إرسلان، ممثلاً لوالده في مناسبات تحمل من الرمزية ما يكفي لإلباسه عباءة البيت السياسي العريق. فأعلن الأب أن "لكل زمن أميره ولكل ظرف أحكامه". واليوم نرى الشاب الصغير الذي لم يتجاوز الـ21 سنة من العمر، يتحضّر لدخول الحياة السياسية وتحمل مسؤولية الحفاظ على إرث البيت الأرسلاني. فهو يدخل غمار الشأن العام باكراً، على خلاف والده الذي عُيّن نائباً خلفاً للأمير مجيد إرسلان بعد وفاته عام 1991. وهو يتخصص في العلوم السياسية والاقتصاد الدولي في كندا، في حين يترك له والده أرضية خصبة للعمل السياسي لا تنحصر فقط بالدور التقليدي لآل إرسلان وبالطائفة الدرزية، وذلك من خلال الحزب الديمقراطي اللبناني.
هكذا يقوم الشابان تيمور وليد جنبلاط، ومجيد طلال إرسلان، بترسيخ قاعدة التوريث السياسي لامتداد عريق وثنائية تقليدية داخل الطائفة الدرزية، يسعى "الوالدان" إلى إعادة إحيائها وتكريسها.
آل الحريري: نجل الشيخ، شيخ
ما زالت الساحة الإسلامية - السنية تشهد واقعاً مشابهاً منذ أيام الاستقلال وسيطرة عائلات كرامة والصلح وسلام وغيرها من بيوت السياسة في بيروت وطرابلس. إلى أن جاء عصر الحريرية السياسية ليعصف بمراكز القوى هذه، ويحصر غالبية الثقل الإسلامي السني في دارة آل الحريري في وسط بيروت. والدور الذي تلعبه عائلة رفيق الحريري لم يضعف باغتياله عام 2005، فقد اختير ابنه سعد، وهو صغير السن إلى حد ما (مواليد 1970)، لقيادة تيار المستقبل، والدخول إلى البرلمان شاغلاً كرسي والده.
وقد كانت قيادة سعد الحريري مفاجأة لدى البعض، كونه لا يحمل من المؤهلات القيادية البارزة، كقابليته الخطابية للتأثير في الناس وبقائه فترات طويلة في الخارج، واعتماده على صداقات والده، إلا أنه لم يكن هناك حل سوى التسليم بقيادته لكونه وريثاً لوالده.
آل جميل: من الجد بيار الجميل إلى الحفيد سامي
تأسس حزب الكتائب عام 1936، وكان يرأسه بيار الجميل والد أمين الجميل. وقد ورث الرئيس الأسبق أمين الجميل مقعده البرلماني عن عمه موريس الذي توفي في السبعينيات، كما ورث رئاسة الجمهورية عن شقيقه الرئيس الراحل بشير الجميل عام 1982. ثم ورث حزب الكتائب عن والده الراحل بيار الجميل عام 1986، كما أنه سعى إلى توريث نجله بيار العمل السياسي، فدفع به لشغل مقعده النيابي. ثم أصبح بيار وزيراً قبل أن توقف عملية اغتياله مساره السياسي، ليأخذه عنه شقيقه الأصغر سامي، الذي يشغل الآن مقعداً نيابياً، وورث كذلك رئاسة حزب الكتائب عن والده.
وفي عائلة الجميل، كانت الوراثة السياسة أمراً شائعاً، إذ شغلت زوجة بشير الجميل صولانج مقعداً نيابياً في البرلمان، قبل أن يخلفها نجلها نديم الجميل، النائب الحالي والعضو في المكتب السياسي لحزب الكتائب.
ويدرك الكتائبيون جيداً أن حزبهم نما على أساس التوريث في القيادة، فالرئيس المؤسس الراحل بيار الجميل حضّر نجليه بشير وأمين، ثم جهّز أمين لاحقاً نجله بيار الجميل لتسلم القيادة الكتائبية لكنه اغتيل، ما دفع سامي إلى الواجهة الكتائبية. أما نجل بشير النائب نديم الجميل، فلا يمكن مقارنته عملياً بمهارة سامي، لكن الحسابات العائلية فرضت نجل بشير وريثاً لأبيه.
وعندما تقدم النائب سامي الجميل صفوف الكتائبيين بسرعة متجاوزاً "الرفاق العتاق"، لم يستطع من يعارض كتائبياً خيار التوريث فرض أي معادلة مغايرة. وهكذا كان حزب الكتائب يعبر ترؤس آل الجميّل له، منذ المؤسس الجد بيار الجميّل إلى نجليه أمين وبشير ثم بيار الحفيد والآن سامي النائب الذي ورث المقعد.
آل كرامي: نجل الأفندي، أفندي
في وقت تقلص دور آل كرامي في الشمال، استمرت هذه العائلة بالتوارث السياسي من عبد الحميد إلى رشيد، إلى عمر، كثلاثة رؤساء للحكومة وإلى فيصل كوزير وأحمد كنائب ووزير. فالوراثة السياسية تسري على "الأفندي" أيضاً، وقد تولى الوزير السابق فيصل كرامي القيادة قبل رحيل والده رئيس الحكومة الأسبق عمر كرامي. علماً أن الرئيس الراحل عمر كرامي، كان أعدّ نجله فيصل لوراثته، بعد أن ورث هو أخاه الرئيس رشيد، الذي ورث والده عبد الحميد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...