"قرار رقم 10/150، صادر عن الأمين العام لحزب الله، يطلب من جميع الإخوة المجاهدين والمجاهدات في مختلف التشكيلات، الاهتمام والمشاركة الجدية والفعالة في الانتخابات البلدية، والالتزام باللوائح التي تقررها اللجان الانتخابية المعنية في المناطق".
أثار هذا التسجيل المصور لأحد وزراء حزب الله، قبل أيام قليلة على الانتخابات البلدية في لبنان، عاصفة من التعليقات. فضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بانتقادات لمسائل "التكليف الشرعي" و"ولاية الفقيه"، وجدوى استعادتهما، وتوظيفهما في مسائل حياتية كالاستحقاق البلدي.
وعاب المنتقدون على حزب الله، الذي فشل برأيهم في إدارة بلديات كثيرة يستحوذ عليها منذ سنوات، استغلاله لمفهوم ديني كالتكليف الشرعي، للحفاظ على نفوذه في المناطق والقرى التي تتغذى منها صفوفه القتالية.
هذه التهمة ليست جديدة على الحزب في لبنان، وتواجهها الأحزاب الشيعية الأخرى كما في العراق مثلاً، والتي تتبع دينياً وسياسياً لإيران. هناك، في الجمهورية الإسلامية، حيث انتقل مفهوم التكليف الشرعي من بعده الفقهي والديني إلى التوظيف السياسي مع الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني في إيران، ودخول مفهوم ولاية الفقيه.
حزب الله بين التكليف والتعميم
ردّ "حزب الله" على منتقديه بالتوضيح أن ما نشر "تعميم لا تكليف"، مبرراً إياه بإجراء إداري تتبعه كل الأحزاب. وبدأت جولة جديدة من فصول تفسير هذه المصلحات وتوظيفاتها، من دون أن يأخذ النقاش مع منتقدي الفكرة، طابعاً علمياً، بل ظلّ محصوراً في سياق انفعالي جرّه إلى الدوائر الشخصية والطائفية والسياسية المفرغة.
يقول الشيخ حسين زين الدين لرصيف22 إن التسجيل الذي تم تداوله هو تدبير إداري خاص بالدائرة الحزبية (كما في كل الأحزاب والشركات والموسسات). ويوضح أن الشرعية الدينية تعطي هذا التدبير قيمة معنوية إضافية يتعامل معها المتدينون، غير المنتسبين، باحترام نتيجة تربيتهم الدينية وثقتهم بقيادتهم، ووعيهم لبراءة الذمة في معرض الاشتباه في تحديد الموقف. ويضيف: "ما يمارسه حزب الله في الانتخابات البلدية، هو ما يمارسه الجميع، ويواجه التعقيدات الحزبية والعائلية التي يواجهها غيره. غير أن الهوية الدينية لهذا الحزب ومحاولات التشويه المعلنة من قبل الدول المعادية، وتسليط الضوء عليه إعلامياً، تضخم المشهد وتعظم التفاصيل". أما ما أصدره أمين عام الحزب من تعميم فهو واجب أخلاقي تجاه الحلفاء لا "إلزام شرعي"، بحسب الشيخ.
"التكليف الشرعي" و"ولاية الفقيه": نظرة تاريخية وجدليّة
تبدو مفيدة العودة السريعة إلى أصل مفهوم التكليف الشرعي، كما أورده الإمام الخميني في "شؤون وصلاحيات الولي الفقيه". إذ يقول: "اذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي منها، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا".
كلام الخميني جاء في النجف قبل الثورة الإسلامية في إيران، وبعد الثورة كرّس الإمام هذا المبدأ في مناسبات عدة. وبعد وفاته اجتمع مجلس الشورى وكرس ولاية الفقيه في الدستور تكريماً لـ"مفجّر الثورة". وذكر أحد أبرز علماء الشيعة وعضو مجلس الخبراء الإيراني، الفيلسوف آية الله مصباح اليزدي، أن "الفقرات المدرجة في المادة 110 من الدستور، التي تفصّل وظائف القائد وصلاحياته ليست من باب الحصر في الحقيقة، إنما من باب التمثيل". ويشرح الشيخ زين الدين: "الحاكمية الفعلية للولي الفقيه لا تقتصر على الشرعية الدينية والصفات الأخلاقية والقيادية له، بل تحتاج إلى مقبولية شعبية تختار هذه الحاكمية. وقد أدرج الخميني في الدستور الإيراني الذي ارتضاه الشعب بغالبية ساحقة، شرط التزام القائد نفسه بمواد الدستور".
في هذا الصدد، يلمح زين الدين إلى أن النظرة المعاصرة لولاية الفقيه يجب أن تركز على نجاحها أو فشلها في إدارة الدولة، وتطوير البنى العلمية والخدماتية، وإدارة الصراعات السياسية والعسكرية. ويعتبر أن "القيادة الفقهية الشجاعة" حققت إنجازات كبرى في التطور العلمي والمؤسساتي والحضور السياسي الدولي.
مع ذلك لا تزال حدود وصلاحية الولي الفقيه من أكثر النقاط جدلاً بين الفقهاء الشيعة نفسهم، ومع السنة بطبيعة الحال، لاعتبارها تعارض نظرية "ختم النبوة" مع النبي محمد. فالأدلة الدينية والعقلية إذا استطاعت أن تقنع أنصار الولاية بوجوبها، إلا أن صلاحيات الولي وحدود الولاية بقيت أمراً عصياً على الاتفاق، خصوصاً في ظل التطورات السياسية والأمنية المتلاحقة.
ومن أبرز المعارضين لـ"ولاية الفقيه" المفكر العراقي الشيعي أحمد الكاتب، الذي أوضح في كتابه "تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه"، أن "ولاية الفقيه، وإن كانت دستورية، لكنها قد تتناقض مع روح الديموقراطية التي تقتضي المحاسبة والنقد والتغيير وتبادل السلطة". وقد وصفها في معرض آخر بـ"الديكتاتورية".
"التكليف" ببزة وربطة عنق أيضاً!
لا يعفي الكاتب السنة من هذه "الخرافات"، التي تلاحق الفكر الإسلامي. فنظرية الإمامة الإلهية لدى الشيعة تقابلها نظرية الخلافة النبوية لدى السنة. وهذا الحال لدى الطرفين من السنة والشيعة كانت أولى نتائجه الاستبداد. وقد أدى الاستبداد إلى نهب الثروة العامة من قبل الشلل الحاكمة، والتحزب الطائفي، والعنف والتعصب. وفتح الباب واسعاُ أمام حركات التمرد المسلحة والتطرف والتكفير الذي يبرر الثورة والتمرد، وهذا ما قاد إلى سلسلة طويلة من الصراعات الدموية على السلطة، وإهدار طاقات الأمة من الأموال والشباب وتخريب العمران، والهبوط نحو التخلف في كل المجالات الحضارية.
وفي هذا الإطار، بالعودة إلى الشأن الداخلي اللبناني، وصفت دعوة "تيار المستقبل" (التيار السني)، بشخص زعيمه سعد الحريري، لانتخاب لائحته "زي ما هي" بمثابة "تكليف شرعي". وعلق ناشطون على دعوة مديرية الأوقاف السنية خطباء المساجد لحث اللبنانيين وأهالي بيروت خصوصاً، للمشاركة الكثيفة في الانتخابات، وتعبيرهم عن الوفاء لصاحب الوفاء لبيروت التي أعاد بناءها (إشارة إلى الحريري الأب).
النقد بعيداً عن التنميط والكيدية
يشير الكاتب والباحث أيمن عقيل إلى أن "ولاية الفقيه هي الوحيدة التي أخرجت الشيعة من زواريب البيوتات الفقهية التقليدية، إلى رحابة الحضور السياسي في الإقليم". ويضيف: "قبلها، مارس علماء الشيعة التفكير الاستراتيجي فقط، عندما كانوا يحرمون فقراء المسلمين من مال الخُمس، ويدسونه في التراب ليتم استخراجه عند ظهور المهدي المنتظر" قاصداً "سهم الإمام" وهو أحد أجزاء الخُمس بحسب الفقه الشيعي.
ويوضح عقيل لرصيف22 أن "الإيمان أو عدمه بولاية الفقيه طبيعي، لكن أحداً لا يستطيع أن ينكر أنها الإسمنت الذي حول تعاليم روحية إلى هوية سياسية متكاملة. لذلك تستحق قليلاً من الجدية في نقاشها وليس تناولاً فيسبوكياً ركيكاً".
أما تناول النموذج السياسي الذي نتج عن ولاية الفقيه فهو، برأي عقيل، أبدى من التصويب على محاكمة النظرية. ويرى أن "ولاية الفقيه هي النظرية الوحيدة التي خلقت من الهوية الفقهية الشيعية رابطة سياسية، في مقابل غياب كامل لأي بديل عملي من جانب المرجعيات التقليدية. وبالطبع، يفتح هذا النقاش الباب على سؤال جواز تحويل هوية دينية ـ روحية إلى رابطة سياسية عابرة للأوطان".
يوجه هذا السؤال إلى السنة والشيعة على السواء، خصوصاً في هذا الزمن العربي، إذ فشلت الأوطان عموماً، في التعبير عن تطلعات من يفترض أنهم مواطنوها. من هنا، يبدو أساسياً وضع النقاش في سياقه على الساحة السنية والشيعية على السواء. وما آلت إليه الهويات المتفجرة في العالم العربي، يساعد على توسيع السؤال، ليطال حضور الديني والمقدس في السياسة والاجتماع العربي والإسلامي.
يذكر الكاتب السياسي نصري الصايغ لرصيف22 أن هذا النقاش يعيدنا إلى عهد البابوية، فعندما كانت السلطة السياسية في يد الكنيسة، كان البعد الديني حاضراً في شخص البابا، المعصوم عن الخطأ، فهو يعرف ما لا يعرفه الناس. وحين تراجع دور الكنيسة سياسياً تغير الحال. من هنا، فإن النقاش يجب أن يؤخذ في بعده السياسي - الديني لا الديني البحت. لأن المقاربة الأخيرة تسهم في شخصنة الخلاف المشتعل في المنطقة، وتكرس الانشقاق وتعبئة المناصرين على قواعد مذهبية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...