خلّف التصريح الأخير الذي أدلى به المغني "الهادي التونسي" ضجة كبيرة خصوصاً حين قال في حوار إنه أصبح يفكر في نشر أغانيه في إذاعة تل أبيب أو العيش في جزيرة لامبادوزا الإيطالية. وبرغم التراجع السريع لهذا الفنان عما قاله، معللاً ذلك بغضبه من عدم اهتمام بلاده لأغانيه، أخذت المسألة صدى بعيداً. وقد أعادت إلى أذهان عدد كبير من التونسيين والمستمعين العرب شبهة التطبيع مع العدو الإسرائيلي.
والحادثة ليست الأولى من نوعها، فقد شهد عام 2010 إحياء 4 مغنين تونسيين لحفل موسيقي في إحدى مدن الأراضي الإسرائيلية، وما أجج الوضع في تلك الواقعة، تبادل تسجيل فيديو على شبكة الإنترنت، يظهر أحد المغنين الأربعة وهو يشيد بحياة الرئيس التونسي السابق بن علي، وبحياة نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، بعد أن لقنه عدد من المشرفين على الحفل ذلك. كل القرائن كانت تجعل الفنان يبدو مستجيباً لسطوة المال والإملاءات، وإلا فكيف يفسّر توقّف الفرقة عن العزف لتخضع لترتيبات تأتي من خارج الشرط الموسيقي؟
وبالعودة للفنان الحالم بالغناء في إذاعة تل أبيب، فقد أشار في التصريح الإذاعي نفسه، إلى طول صموده أمام المغريات المالية التي تأتيه من إسرائيل. وفي الواقع لا يطمع الإسرائيليون بجلب المغنين التونسيين لإمتاع الجمهور بأصواتهم، بل هم يبحثون عن تبرير لوجودهم الطارئ في المنطقة، واستجلاب هالة من الشرعنة من أجل الانسجام مع محيطهم الرافض لهم كلياً.
هناك عنصران على الأقل يغذيان محاولات التلاعب في هذا الظرف بروابط تاريخ وجود اليهود في تونس. السبب الأول قريب ومعروف، بينما السبب الثاني بعيد الغور، ويتعذّر الاهتداء إليه، إلا لمن اطّلع على تاريخ الموسيقى التونسية، خصوصاً خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي وما قبل ذلك.
إذا كانت تونس تشهد كل سنة زيارة عدد كبير من يهود العالم لحارة الغريبة في جزيرة جربة، فإن لليهود مكانة ريادية في تطعيم الأغنية التونسية بأسماء كبيرة لمغنين مثل "راؤول جورنو" و"الشيخ العفريت" وغيرهما. ولهذين المغنين عشرات القصائد، التي كان تقدم في حفلات الزفاف والختان والمناسبات الطربية. وتحفل الذاكرة الموسيقية التونسية بسلسلة من الأغاني لمطربين يهود، لعل أشهرها أغنية "أنا الطرقية ولد الطرقية" لراؤول جورنو وأغنية "الأيام كيف الريح في البريمة" للشيخ العفريت.
ولم يستثمر اليهود مناخ الاحتلال الفرنسي ليجدوا هذه المكانة الهامة في النسيج المجتمعي التونسي، بل يرجع وجود العنصر اليهودي إلى موجات الهجرات القسرية للأندلسيين من شبه الجزيرة الأيبيرية خصوصاً خلال عام 1492، حين تكثفت حملات ما يعرف بمحاكم التفتيش في إسبانيا.
مقالات أخرى
أبرز الفاعلين في المشهد الثقافي التونسي
الفن التشكيلي في تونس: مزهرية في حقل تم جرفه
هذا التطريب اليهودي موجود أيضاً في مدن أخرى مثل مدينة تستور، التي أنشأها الموريسكيون في الشمال الغربي التونسي إثر تهجيرهم من الأندلس، وفيها يقام إلى اليوم مهرجان المالوف والموشحات الأندلسية. وتمثل المطربة الشهيرة "حبيبة مسيكة"، ذروة النضج اللحني والغنائي المتولد عن التجانس الاجتماعي والعقدي بين العرب واليهود. وقد ذاع صيتها بأغاني العشق، بالإضافة إلى فاجعة حرقها حية في قصرها من قبل عشيقها اليهودي الغني، كما يجمع عدد كبير من المؤرخين.
الموسيقى التونسية لا تنكر مدى تأثير العنصر اليهودي فيها، غير أن عوامل الاغتذاء والتلاقح في زمن السلم لا يمكن أن تتطابق مع التوظيف السياسي في زمن الحرب. وليس من السهل إقامة حفل غنائي معزول عن دينامية التكوين الحضاري، حفل غايته تسويقية أو مصلحية عابرة في غفلة من التاريخ الحي. وهذا الخطأ القاتل كانت كلفته غالية لعدد لا يستهان به من الفنانين الذين حاولوا كسر القاعدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه