قد تقولون إن الأمر غير صحيح، وإن بيروت تملؤها المتاحف المعاصرة، وصالات العرض الفنية الراقية، وإن الصحف تتحدث عن النهضة الفنية التي تعيشها حالياً العاصمة اللبنانية، وعن المشاريع الفنية المختلفة التي تقوم بها الدوحة وأبو ظبي.
ولكن بإمكان أسامة الرفاعي، المدير التنفيذي للصندوق العربي للثقافة والفنون آفاق، أن يقنعكم أن بيروت وغيرها من العواصم العربية، فارغة من الفهم الحقيقي للثقافة والفن، وأنه علينا أن نفكر لإيجاد حلٍ مناسب للأزمة الثقافية التي نعيشها، ولنتعلم مبدأ الفيلانتروبية الحقيقية كي نتمكن من استيلاد نهضةٍ بكل معنى الكلمة.
الرأسمالية الفنية
لا تقتصر الثقافة على المتاحف واللوحات لفنانين في صالات العرض، فبيروت تعيش تلك الحالة من الرأسمالية الفنية إلى أقصى درجاتها، من خلال استثمارات بملايين الدولارات في المتاحف التي تزدهر فيها: متحف سرسق، متحف آيشتي، متحف الجامعة الأميركية الذي يتم تطويره حالياً، وغيرها من المؤسسات الفنية، التي صممتها أهم أسماء الهندسة في العالم، وتعرض أغلى الأعمال الفنية لفنانين عالميين. هنا يطرح أسامة الرفاعي التساؤلات التي تدور في باله منذ فترة: "هل تخدم تلك النهضة الفنية كما يسمونها المجتمع والفنانين والقضايا العربية؟ هل هذا هو مفهوم الثقافة الحقيقي الذي من شأنه أن يغني الشعب أو الرأسمالي؟". وهل تساهم هذه الأموال مثلاً في دعم الرسائل التي يحاول الفنانون إيصالها، كتلك التي يحاول المصور السوري عمر إمام إيصالها دعماً لهوية كل لاجئ من اللاجئين السوريين في لبنان.
لا يقول أسامة إن تلك المتاحف عار على المجتمع، أو لا تفيد الفن بشيء، بالعكس هو يحاول أن ينقذ فينا الحاسة الفنية الدقيقة، التي تعلمنا نقد الفن والأعمال الفنية والمفاهيم التي تقف وراءها. يحاول إظهار الفجوة الكبيرة بين الفن البيروتي والعربي حالياً، وبين الفن المتواضع الذي يخدم المجتمع والقضايا الاجتماعية والثقافية، وحتى الإيكولوجية التي نعاني منها في المنطقة.
ولإيضاح فكرته عاد في تاريخ الفن إلى يوم كانت العلاقة بين الفنان وسوق الفن وطيدة، وكان القرار المسؤول عن إعطاء القيمة الحقيقية للعمل الفني يتخذ بطريقة مدروسة. فيبدأ الفنان برسم لوحته مثلاً ثم يعرضها في الصالات، وينتظر أن ينال إعجاب الجمهور والحريصين على المتاحف الفنية أو الـCurators، ليقوم الآخرون بتبني فنه وعرضه في المتاحف لإثارة رغبة المهتمين بالفن لشراء لوحته. هكذا يبدأ الفنان في طريق الشهرة، وغالباً يكون قد مات قبل أن يعيش تلك المراحل المتتالية كافة، ليصل إلى التقييم الحقيقي لأعماله الفنية، أو لتصبح قيمة أعماله تثمّن بالملايين.
هذه هي القوى الدينامية لسوق الفن التي دامت لأجيال طويلة، ولكن في السنوات الـ15 الأخيرة، تغيرت الأمور بشكل دراماتيكي. فالنقد الفني هو آخر من يلعب دوراً في تقييم الفن اليوم، ودور الـCurator في اكتشاف المواهب الفنية وتقديمها للجمهور، ما عاد مهماً. الموضة اليوم تتمحور حول أصحاب الغاليريات النجوم، الذين يحومون حول الفنانين الشباب ليختاروا منهم بعض الأسماء ويحولونهم إلى نجوم الفن المعاصر بين ليلةٍ وضحاها.
أصبح الفن سلعة ودخل عالم التسويق من بابه العريض، من خلال التكتيكات التي يقوم بها مديرو الغاليريات العالمية. فيقيمون الحفلات الصاخبة ويدعون نخبة المجتمع لترفيههم وتقديم السلعة الجديدة لهم في عالم الفن، أي الفنان بحد ذاته. وهذا ما يتطلب حفلات قليلة هنا وهناك، للعمل على تحسين وتلميع صورة الفنان، الذي لا يمتلك خبرة في السوق الفنية، ورفع قيمة أعماله إلى مئات آلاف الدولارات بفترةٍ قصيرة.
هنا في البلاد العربية، يقول أسامة: "كل ما نفعله هو تكرار تلك الموضة العالمية للفن المعاصر، ونعيد تقليد الآلية، التي تبيع الفن من خلال الإعلان عنه كسلعة، ولكن بفرق أسعارٍ خيالي. هناك طرق أخرى أكثر منافقة لرفع قيمة سلعة فنية، وهي أن يقصد الحريصون على الغاليريات الشهيرة في العالم والمنطقة، دور المزادات العلنية مثل كريستيز أو سوذبيز، ويزايدون على قيمة العمل الفني لفنانٍ شاب بشكلٍ خيالي، ويرفعونها إلى أقصى حد، إلى أن يشتري أحد المهتمين بالفن القطعة بسعرٍ مرتفع جداً، ظناً منه أنه حصل على أحد أهم الأعمال الفنية". ويضيف: "هذه واحدة من خدع كثيرة يمارسها سماسرة الفن المعاصر في أيامنا، لكسب الأموال السريعة من دون الاهتمام بمحتوى العمل وقيمته الحقيقية".
نعيش اليوم في عالمين موازيين للفن، عالم الفن التجاري الذي يتحكم فيه أفراد أو مستثمرون يمتلكون تلك السلع الفنية في مجموعاتهم الخاصة، يشترون القطع، يخبّئونها سنوات قليلة ثم يظهرونها للعلن لبيعها بالمزاد، والفن القيم الذي تحرص بعض المؤسسات على الحفاظ عليه لحماية الفنانين الشباب الذين أهلكتهم الرأسمالية الفنية، من خلال دعمهم وتقديمهم للجان مختصة بتقييم الفن في الشكل والمضمون.
هرم ماسلو الفني
تطرق أسامة الرفاعي إلى تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات، لإيضاح مرتبة الفن والحاجة لامتلاك القطع الفنية في أعلى الهرم نفسه. هرم ماسلو نظرية نفسية طورها العالم أبراهام ماسلو في أربعينيات القرن الماضي، لتبرير سلوك الإنسان وفق حاجاته والسعي لإشباعها. وهي تبدأ في أسفل الهرم بالاحتياجات الفيسيولوجية كتأمين لقمة العيش، ثم احتياجات الأمان، ثم الاحتياجات الاجتماعية كالعائلة والصداقة والجنس، ثم الحاجة إلى تقدير الذات ونيل احترام الآخرين مثل اقتناء الآداب والفلسفة، وأعلاها الحاجة لتحقيق الذات منها السعي لكسب الأموال والرفاهيات كشراء بضعة منازل.
ويزيد أسامة خانتين على أعلى الهرم تتعلق بالفن، أولاهما هي تحول الإنسان، الذي حقق كل احتياجات الهرم إلى مشترٍ وجامع للفن، ليصبح مقدّر ومحترم من أمثاله في الفئة نفسها من الهرم، وهو يشتري الفن الباهظ لعرضه ضمن مجموعته الخاصة كإحدى أرقى حالات الـPrestige حالياً، ثم الفيلانتروبيين، الذين يدعمون الفن الحقيقي ويخدمون المجتمع من جهات عدة.
وفي رأيه "جامعو الأعمال الفنية الحقيقيون، الذين مارسوا تلك الهواية على مدى عقودٍ طويلة، لا يدخلون هرم ماسلو الفني، لأنهم يقدرون الفن، وليس إرضاءً لصورة "الأنا" في المجتمع، وهؤلاء هم الذين بإمكانهم الارتقاء إلى درجة الفيلانتروبية الراقية، التي وحدها تدعم الفنان والقضايا الاجتماعية الدقيقة، وتقيم التغيير في الفلسفة العامة للمجتمع.
حتى الفيلانتروبية في حد ذاتها مقسمة إلى طبقات عدة، منها مرحلة الـCSR أو المسؤولية الاجتماعية للشركات التي تبنتها شركات عدة، ولكن بطريقة يتم فيها دفع الأموال فقط لإبراز اسم الشركة كفاعل خير بهدف تسويقها بشكلٍ أفضل. بينما شركات أخرى تبنت مبدأ "التأثير الاجتماعي" من دون المبالاة بالمبالغ المالية المدفوعة، بل من خلال إعطاء الأهمية لتأثير أعمال تلك الشركة على المجتمع وتطوره. وهنا يأتي دور مؤسسة آفاق، التي تحاول توعية المؤسسات والشركات والأفراد على أهمية الفيلانتروبية الحقيقية.
الحكومات الفاشلة ثقافياً
وتحدث الرفاعي عن دور الحكومات في دعم الفن والثقافة بطريقة فعالة ومستقرة، وأعطى مثالاً عن الحكومة الأميركية التي لا تملك وزارة للثقافة بفعل أن الأميركيين لا يؤمنون بتدخل الحكومة في الفن والثقافة، وعوضاً عن ذلك أسسوا بنية تحتية متينة لدعم الفن، من خلال تخصيص نسبة معينة من الضرائب التي يدفعها الشعب لدعم الفن والثقافة، فيختار الفرد بنفسه التصرف بتلك الأموال المأخوذة من ضرائبه، ووضعها لدعم المؤسسات التي يهتم بها، وبذلك تكون الثقافة مدعومة من الشعب نفسه. وفي إنغلترا وهولندا، يتم إصدار مرسوم ملكي يعطي نسبة معينة من أموال الدولة لدعم الثقافة، فلا يوجد حتى ضرورة للنقاش أو للمطالبة بدعم الثقافة لأن الأمر تلقائي. في حين لا تملك غالبية الدول العربية، البنى التحتية المتينة لإحياء الثقافة والفن في المجتمعات، والحد من الجهل الذي يتحكم بها.
أما في فرنسا وألمانيا، فوزارة الثقافة مهمة والأموال المخصصة لها معادلة للأموال المصروفة على أي وزارات أخرى، وهذا ما يدلّ على الأهداف السياسية للدعم والأعمال الثقافية التي تقوم بها الدولة. وربما هكذا بإمكاننا فهم التبادل الثقافي الخيالي بين قطر ودول عربية أخرى من جهة، وفرنسا من جهة أخرى. وبالحديث عن الدوافع خلف دعم الثقافة والفنون، نقدّم لكم جدولاً عملت آفاق على بنائه، وهو يتعمق في الأسباب الحقيقية لدعم الأفراد والمؤسسات والحكومات للثقافة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...