يختصر محمد برادة في روايته الجديدة خمسين عاماً من تاريخ المغرب، معتمداً على لعبة فنية يمزج فيها المتخيّل بالواقعي، متخذاً من سيرة حياة أربع شخصيات مرايا عاكسة للتغيّرات والتحولات في هذه الفترة.
"الراجي" شاب ثلاثيني، تقوده البطالة إلى العمل مع مؤرخ يحاول إنجاز كتاب عن تاريخ المغرب المعاصر منذ فترة "الحماية الفرنسية" مروراً بالاستقلال إلى الوقت الراهن. ومهمة "الراجي" تتلخص بمحاورة مجموعة كبيرة من الأشخاص الذين عايشوا هذه الفترات، لمعرفة آرائهم في مقاومة الاستعمار ومعنى الاستقلال وكيفية الانخراط في الألفية الثالثة، ثم جمع هذه الآراء ضمن بيانات وتحليلها لاستخلاص النتائج.
المعلومات التي يجمعها ستغريه بكتابة رواية يستند فيها إلى ثلاث شخصيات ممن قابلهم: "توفيق الصادقي" مواليد 1931، "فالح الحمزاوي" مواليد 1956، و"نبيهة سمعان" مواليد 1956.
"ما كتبته لا يتصل اتصالاً وثيقاً بالموضوع الذي كلفني به الأستاذ الرحماني، لأنني أثناء المحاورات وتجميع الأجوبة انجذبت أكثر إلى ثلاث شخصيات أوحت حاسة الشمّ لدي أنها تصلح لأن تكون لحمة وسدى نص روائي يلملم جوهر ما صادفته وسمعته متفرقاً في شكل نتف ووقائع متباعدة".
هكذا تتحول الرواية إلى ما يشبه رواية داخل الرواية، ومع إعطاء كل شخصية من الشخصيات الثلاث الفرصة كي تعبّر عن نفسها بلسانها، فإن كل فصل من الفصول سيغدو رواية مستقلة في ذاته، يجمع بينها تدخلات "الراجي" في السرد، إذ يعلّق على ما يروونه، ويضيف ملاحظاته ومشاهداته إلى محكياتهم ليضيء للقارئ ما خفي.
توفيق الصادقي، إحدى هذه الشخصيات، عاش فترة الاستعمار، وتعلم في المدارس الفرنسية، ودرس الحقوق. تتنازع "الصادقي" مشاعر متضاربة بين الإعجاب ببلد الحضارة والتطور: فرنسا، والحفاظ على مظاهر الحياة الموروثة وما تحمله من قيم في بلاده: المغرب. هذه المشاعر ستطرح عليه سؤال الهوية، خاصة بعد حصول المغرب على استقلاله، إذ يجد هو وأمثاله، ممن عاصروا الفترتين، أنفسهم أمام تحوّل "يمهد لتغيير الهوية الموروثة باتجاه أخرى قيد التشكّل".
أما فالح الحمزاوي فيمثّل الرجل الذي يدور مع الزمان ويبدّل اتجاهاته بحسب تبدّل الأحوال. ولد "فالح" في عائلة فقيرة، ودرس الحقوق أيضاً. تشكّل وعيه السياسي أثناء دراسته الجامعية. فقد شارك في النشاطات النضالية وانخرط في حزب يساري لاقتناعه أن الطريق إلى الديمقراطية يبدأ بتشكيل الأحزاب والنضال عبرها.
الشخصية الثالثة هي المحللة النفسية "نبيهة سمعان" التي عاشت حياة متمردة على كل السلطات والعادات القديمة. درست التحليل النفسي في باريس حيث اكتشفت رغبتها وجسدها، ثم عادت إلى المغرب وأسست صالوناً ثقافياً للنقاش الحر، جمعت فيه ثلة من الكتّاب والروائيين والمثقفين، للمساهمة في "خلق حالة من التبادل والندية، والتفكير بصوت مرتفع والجهر بالآراء في السلوك والسياسة والظاهرات الاجتماعية".
هذا الصالون سيجمع الشخصيات الأربع (الراجي وأبطال روايته)، ومن خلاله سيروي كل منهم لقطات من ذكريات طفولته والأشياء التي أثرت في تكوينه حتى أصبح ما هو عليه، ويستعيد كل منهم أيام شبابه والعلاقات العاطفية والجسدية التي عاشها.
عبر أحاديث هؤلاء يصوّر الكاتب الأحداث التاريخية المهمة وكيف انعكست على حيوات الناس وغيّرتها، فيحكي عن حركات المقاومة الوطنية ثم عن الاستقلال وما تلاه من نشوء أحزاب سياسية، ومحاولات انقلاب فاشلة على النظام، ويسرد أحداثاً من سنوات الرصاص في المغرب، وصراع الأحزاب مع السلطة الحاكمة وما حصل من اعتقالات وظلم وتعسف.
يتطرق برادة في الرواية أيضاً إلى "الربيع العربي" تطرقاً سريعاً لكنه عميق الأثر، إذ نجد "الراجي" ينهي كتابة روايته، مصاباً بيأس وقنوط وحالة من عدم اليقين، خاصة أن درب الآلام الذي خاضه من سبقوه للخلاص من الطغيان لم يسفر عن شيء لكنّ التظاهرات الاحتجاجية غير المتوقعة للشباب في بضع دول عربية، ستفتح أبواب الرجاء في حياته، فيشعر أنها بدأت تكتسب المعنى "القيم التي كنت أراهن عليها خلسة، غدت منتشرة في ضوء الشمس، تهدر بها حناجر شابة كأنها الطوفان المخلص".
أمام هذا يجد "الراجي" نفسه وقد عثر على طريقه، مقرراً أن يتحرر من عذاب الوقت والانتظار، بكتابة الروايات. سيصبح روائياً يصرخ عبر مواقف رواياته ضد الضوضاء الكثيفة من حوله، وضد الاستبداد والطغيان، وضد التقاليد البالية، و"بعد الصراخ يحلّ فصل السكات حيث تنضج الأحلام وتتوثق الخطى، وينبزغ الإصرار على معانقة الصمت الفعال".
محمد برادة، روائي وقاص وناقد ومترجم. ولد في الرباط 1938، وعاش طفولته في فاس. كان من أوائل الذين نقلوا الكتب النقدية الغربية إلى اللغة العربية. يعيش حالياً في بروكسل.
له مجموعتان قصصيتان: "سلخ الجلد"، "ودادية الهمس واللمس". وست روايات هي "لعبة النسيان"، "الضوء الهارب"، "مثل صيف لن يتكرر"، "امرأة النسيان"، "حيوات متجاورة"، "بعيداً من الضوضاء قريباً من السكات"، إضافة إلى الكثير من المؤلفات النقدية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.