كل عام، يحيي المسلمون الشيعة ذكرى عاشوراء، في اليوم العاشر من شهر محرم بحسب التقويم الهجري، وتتزامن مع واقعة مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب وأهل بيته، على يد جيش يزيد بن معاوية في كربلاء في السنة الواحدة والستين هجرية، بعد حصار دام ثلاثة أيام. ترتبط بالأيام العشرة الأولى من شهر محرم بالحزن والعزاء، فيمارس خلالها الشيعة شعائر دينية مختلفة.
كثيرة هي الشعائر التي تتمّ تأديتها في هذه الفترة، لعلّ أبرز ما قد يخطر على بالنا هو زيارة ضريح الحسين وإضاءة الشموع وقراءة قصة الإمام حسين، وإقامة المجالس الحسينية واللطميات والتطبير. والتطبير هو عندما يضرب المطبّرون رؤوسهم بأدوات حادة لإسالة الدم من الرأس، ويرددون كلمة "حيدر"، في إشارة إلى الإمام علي بن أبي طالب، وهي ممارسة تعارضها مرجعيات دينية كثيرة.
ولعلّ الجميع يربط دوماً عاشوراء باللطم والدم والمجالس الحسينية، إلا أن الشعائر لا تقتصر على ذلك، فتضمّ أيضاً مسرح التعزية، الذي يقارنه البعض بالتراجيديا اليونانية، أو النصوص الدينية البابلية، أو حتى مسرحيات الأسرار الدينية أو الأخلاقية، التي كانت تعرف في أوروبا القرون الوسطى.
وتتسم هذه الممارسات بأهمية كبيرة، لأنها تذكّر باستشهاد الحسين الذي يعتبر بالنسبة إلى الشيعة، رمز النضال ضد الظلم. كما أنّها تحوّلت إلى جزء من التاريخ الديني والاجتماعي. وتقام في العديد من الدول العربية والإسلامية، من بينها العراق ولبنان ومصر والبحرين وإيران وباكستان والهند وغيرها.
ما هي التعزية؟
التعزية هي احتفال ديني شعبي على شكل مسرحية. وجدت جذورها في إيران، إلا أنها تُنظّم أيضاً في لبنان والعراق. وفي كتابه "الإسلام ضد الإسلام"، يغوص أنطوان صفير في تفاصيل هذه العادة التي تتّسم، بالنسبة إليه، بثلاث وظائف: التعليم الديني، ونقل الذاكرة الجماعية، والاحتفال بذكرى مقتل الحسين.
ويرّجح أنه في السنوات التي تلت مقتل الحسين، أي في نهاية القرن السابع، بدأ إحياء مراسم استشهاده، لكن هذه الممارسة تكثّفت مع تأسيس الدولة الصفوية (1501-1722) في بلاد فارس، لتبلغ ذروتها في بداية القرن التاسع عشر مع الدولة القاجارية.
ومنذ الصفويين، باتت مأساة كربلاء تُلعب في عشر تعزيات تمتدّ على مدار عشرة أيام خلال شهر محرم. ولا شك أن اليومين الأخيرين يتّسمان بالأهمية الأكبر، والتعزيات الأخرى تساهم في تأجيج المشاعر وصولاً إلى لأحداث الدموية. وتتوج هذه التعزيات في اليوم العاشر، الذي يعرف بيوم عاشوراء عند العرب، و"حفتددودوتان" في إيران (حفتاد بالفارسية تعني 62)، وهي اليوم المأساوي الذي قتل فيه الحسين.
لعلّ الجميع يربط دوماً عاشوراء باللطم والدم والمجالس الحسينية، إلا أن الشعائر لا تقتصر على ذلك، فتضمّ أيضاً مسرح التعزية، الذي يقارنه البعض بالتراجيديا اليونانية، أو النصوص الدينية البابلية، أو حتى مسرحيات الأسرار الدينية أو الأخلاقية، التي كانت تعرف في أوروبا القرون الوسطى
وتكون نصوص التعزيات غالباً على شكل حواري ومتداخل مستخرج من واقعة الطف، أي معركة كربلاء، ولا تبتعد عن حقيقتها، وتكون أحياناً على شكل نثر أو شعر بأوزان عروضية مبسطة. ولا يؤدي الأدوار عادة ممثلون محترفون، بل ناس عاديون. حتى أن التعزية ستعتمد على مر السنين العديد من الملابس التي تساعد المشاهد على فهم أكبر لما يجري: فـ"الأشرار"، أي أتباع يزيد يرتدون الأحمر، في حين أن أفراد عائلة مناصري الحسين، يتشّحون باللون الأخضر.
وفي إيران ودول أخرى، كُتبت العديد من المسرحيات المستلهمة من مجزرة كربلاء، حول حادثة معينة منها، أو حول قصة أحد أعضاء عائلة النبي وعلي أو أنصارهما. تحمل التعزية القيم الفنية والنفسية والسياسية على حد سواء، بحسب ما كتبه صفير. وعلى الرغم من أن مسرح "التعزية" تطوّر في إيران فقد حُظر عام 1935 حتى الستينيات، فانتقلت المسرحيات إلى القرى والمناطق النائية حيث كانت تُعرض سراً.
لكن، مطلع الستينيات مع بدء "الثورة البيضاء"، سمح بها وعرضت للمرة الأولى عام 1976 في مهرجان شيراز، لتحط الرحال عام 1991 في مهرجان أفينيون الفرنسي، وفي 2006 في مهرجان المسرح الدولي في فريبورغ، حيث عرض على هامشه المخرج عباس كياروستامي وثائقياً بعنوان "نظرة في التعزية".
أما في لبنان، فظهر هذا النوع من المسرح في مطلع القرن العشرين، عندما وصل إلى مدينة النبطية الجنوبية عدد من التجار الإيرانيين، يحتفلون بذكرى عاشوراء على طريقتهم الخاصة، أي بتمثيلية باللغة الفارسية تروي واقعة كربلاء. وكان يُسمح بهذه التظاهرة للجالية الإيرانية في النبطية وباللغة الفارسية إلى أن حضر عام 1917 الطبيب إبراهيم ميرزا الإيراني، واستقر في عاصمة جبل عامل وترأس الشعائر الشعبية لذكرى عاشوراء. وإبان انسحاب الحكم العثماني من لبنان، وضع أول حوار بالعربية لتمثيلية عاشوراء.
وفي اليوم العاشر من محرّم عام 1921، قامت مجموعة من الشباب اللبناني بتمثيل واقعة الطف للمرة الأولى في النبطية، واستمرت المسرحية تقام على مسرح خشبي شعبي في ساحة البيدر في النبطية حتى عام 1971، تحت إشراف النادي الحسيني في المدينة. بعدها، أصبحت تقام على مسرح شعبي كبير وترافقها مجالس التعزية.
وفي السنوات الأخيرة، شهد المسرح العاشورائي تحولات نوعية، على صعيد مقاربته ليكون مثالاً للأجيال الجديدة. عام 2015، أعدّت مدينة النبطية مسرحية "قصة جان"، خادم الحسين، للكشف عن طريقة تعاطيه مع القضايا اليومية. وبحسب ما قاله إمام مدينة النبطية الشيخ عبد الحسين صادق، فإن المسرحية "مخصصة للأطفال، وتعدّ التجربة الأولى للمسرح العاشورائي، لأننا نسعى لأن تكون ذكرى عاشوراء فرصة لزرع وتكريس مفاهيم تربوية وحياتية وأخلاقية تتوارثها الأجيال في حياتها اليومية".
وفي العراق، توقّف مسرح التعزية تدريجياً في بداية سبعينيات القرن الماضي، ليختفي كلياً عام 1979 عندما تسلّم صدام حسين الحكم رسمياً. علماً أن الحرب العراقية-الإيرانية قضت أيضاً على مسرح التعزية باعتبار أن طقس التعزية ومسرحه من الموروث الثقافي الإيراني، فشمل الحظر كل المراسيم من قراءة الأناشيد الدينية والمشاركة في مجالس التعزية واللطميات، لتعود هذه الشعائر في السنوات الأخيرة. ولعلّ مسرحية "الحر الرياحي" (1994) لكريم رشيد هي إحدى المسرحيات القليلة التي تناولت بعض جزئيات واقعة عاشوراء إلا أنّها منعت بعد أيام قليلة من عرضها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.