أمس، اتخذ احتجاج اللبنانيين شكلاً آخر. حاولوا استرجاع وسط مدينة بيروت من أيدي الشركات الحاكمة.
وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر حول "تمييع الحراك والابتعاد عن هدفه الرئيسي"، فإنّها المرّة الأولى منذ انطلاق الربيع العربي ينتفض فيها شعبٌ عربيٌّ بطريقة مختلفة، ليس عن طريق التظاهر والاعتصام وأشكال الاحتجاج التقليدية فحسب، بل من خلال "سوق أبو رخوصة".
بعد أن صرّح نقولا شمّاس، رئيس جمعية تجار بيروت، أنّه لا يريد لوسط بيروت أن يتحوّل إلى "سوق أبو رخوصة"، في إشارةٍ طبقيّة إلى البيئات التي ينحدر منها المتظاهرون المطالبون بالتغيير، كان الردّ بقيام مجموعة من الناس بالتجمّع في ساحة رياض الصلح، ليبيعوا السلع ويقدموا الخدمات بأسعار زهيدة. جاء هذا النشاط بدعوةٍ من حملة "بدنا نحاسب" للتعبير عن أنّ وسط بيروت للناس، ومن حقهم الاستمتاع بوسط مدينتهم وليس من حق الشركات الضخمة والسياح فقط.
من آلان مرعب إلى الشيخ إمام، تنتقل الأغاني عشوائياً، يرقص الشباب ويدبكون على "الهوارة"، ثمّ يغنّون "شيّد قصورك عالمزارع"، ويرفعون اللافتات الساخرة، وشعور استرجاع الحقّ المسلوب ولو للحظاتٍ يشعل فرحاً غير مسبوقٍ على الجوّ العام. بعد أن ترحبّ سوق أبو رخوصة بكم في بداية ساحة رياض الصلح، يستقبلكم الكثير من الباعة، "منقوشة" بلدي، فول مدمّس، عصير طبيعي مصنوع في البيت، كعكة طرابلسية، حلويّات رخيصة، ثيابٌ قديمة، محفظات وأحذية مستعملة كتَب بائعها تحتها: "مرتي جزدانها فاضي وجيبك مليان يا حرامي".
كتبٌ كثيرةٌ أيضاً للبيع كتب تحتها: "حقّ الفقير إنه يتثقف كمان..ولا لأ ؟"، رسوم ولوحات فنيّة، خطاطٌ للغة العربية جاهزٌ لتخطيط لافتاتكم بخمس دقائق، وشابّة تقدّم للسيدّات طلاء أظافر بـثلاثة آلاف ليرة لبنانية، أي دولارين.
مشاهدات مختلفة من سوق أبو رخّوصة
رحّب كثير من اللبنانيين، من طبقات فقيرة وغنيّة بالفكرة، فأتى المشهد سورياليّاً. إذ يمكن رؤية امرأة تتجول في السوق، تشتري الأشياء الرخيصة، وتتبعها خادمتها الشرق آسيوية تحمل كلبها.
أحد الشباب السوريين الذين شاركوا في الثورة السورية سابقاً، ذهب إلى السوق بدافع الفضول، شعر بالحزن لأنّ سوريا لم تكن يوماً مساحةً مفتوحةً للاحتجاج بهذا الشكل.
مقالات أخرى
Timeline الحراك المدني اللبناني
كيف يتعاطى السوريون مع الحراك اللبناني؟
طفلٌ سوريٌّ يبيع العلكة في السوق بفرحٍ، هو لا يحتجّ على شيء، وليس له علاقة بالتظاهر اللبناني، إلّا أنّه وجد فرصةً ليبيع علكته في مكان تباع فيه الأشياء بالأسعار نفسها. رجال الأمن، الذين قمعوا التظاهرات الأسبوع الماضي، وقفوا على حدود السوق، يراقبون كل شيء بنظرةٍ تتأرجح بين التوجّس والقلق، وبين تقبّل ما يحصل بابتسامة، وقبول العصير من الباعة.
وجهات نظرٍ مختلفة من قلب الحراك
يعتقد ناشطون من الحملات والتجمّعات التي تشكلّت في الفترة الأخيرة، أنّ في سوق أبو رخوصة انسياقاً وراء أحد رجال السلطة الذي وجّه الاتهام، بالإضافة إلى فكرة تمييع الحراك وإبعاده عن هدفه الرئيسي.
ورأى بعض آخر أن سوق أبو رخوصة هو إنجاز للحراك، وأن هذا اليوم كان من أجمل أيام حياتهم لأنهم شعروا أنهم استردوا وسط بيروت. واعتبر آخرون أنه "من المبالغ به أن نقول أنّ وسط بيروت للأغنياء فقط، فهناك أصلاً محالٌّ تجارية، للناس العاديين متوسطي الدخل، ومطاعمٌ رخيصة".
أما المعترضون عليه فاعتبروا أن هذا التحرك نوع من الانتقام من بيروت ووسطها. فكتب الصحافي خيرالله خيرالله: "لماذا التركيز على بيروت ولماذا الرغبة في الانتقام من بيروت؟ هل ذلك ناجم عن غياب أي نضج سياسي لدى بعض الذين يقفون وراء الحراك الشعبي ذي المطالب المحقّة، بما في ذلك معالجة قضية النفايات التي كشفت العجز الحكومي وعدم القدرة على استباق الأزمات؟ أم كلّ ما في الأمر أنّ المتظاهرين والمحرضين على التظاهرات والاعتصامات ينفّذون، من حيث يدرون أو لا يدرون، والأكيد أن كثيرين منهم يدرون، أجندة محددة".
في النهاية، قد يكون "أبو رخوصة" ردّة فعل احتجاجية بسيطة لا تضيف شيئاً إلى التحرّك، إلا أن الأكيد أنّ "أبو رخوصة" كان شكلاً آخر للتعبير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...