ليس هنالك إحصاءات دقيقة حول اليهود الذين لا يزالون يعيشون في الجزائر. فمَن بقي منهم ذاب بشكل كامل في المجتمع الجزائري. هم موجودون ولكن غير معروفين، ولا يمكنهم ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية، فمعابدهم مغلقة ولا يستطيعون الإفصاح عن ديانتهم في مجتمع ذي أغلبية مسلمة خوفاً من تعرّضهم للأذى.
وقال الباحث في التاريخ بن داود أحمد إن "عدد اليهود الباقين في الجزائر حالياً هو بين 500 وألف يهودي".
تاريخ قديم ليهود الجزائر
وأشار الباحث عطار أحمد، في حديث إلى لرصيف22، إلى أن "بعض المؤرخين يحاول إنكار وجود اليهود القديم في الجزائر زاعماً أن وجودهم يقتصر فقط على مرحلة الاستعمار الفرنسي".
في الحقيقة، يعود وجود اليهود في الجزائر إلى ما قبل الميلاد. وبعض الدراسات تقول إن وجودهم في الجزائر سابق لوجود الرومان، إذ يذكر المؤرخ حاييم سعدون في كتابه "الجالية اليهودية في الجزائر" أن أول دفعة من اليهود وصلت إلى شمال أفريقيا مع مجيء الفينيقيين في أواسط القرن الثامن قبل الميلاد.
وقال الأستاذ في الأنثروبولوجيا دالي يوسف شريف لرصيف22 إن "الكثير من المصادر التاريخية يؤكد أن الوجود اليهودي في الجزائر يعود إلى أيام الحضارة الفينيقية".
ويذكر الكاتب والباحث في التصوف ومؤسس المنتدي الأورومتوسطي للحوار بين الأديان صاري علي حكمت أنه بعد سقوط الأندلس فرّ الكثير من اليهود والمسلمين إلى بلدان شمال أفريقيا ومنها الجزائر واستقروا فيها.
ولكنه يؤكد أنه "قبل وصول اليهود الهاربين من الأندلس، كان لليهود في الجزائر وجود يعود إلى ألفي سنة".
[caption id="attachment_48807" align="alignnone" width="350"] معبد يهودي في الجزائر[/caption]مدن إسلامية ويهودية
ويشير حكمت إلى أن عشرات الآلاف من يهود الأندلس استقروا في الجزائر في عدد من المدن الجزائرية كتلمسان ومعسكر والعاصمة وقسنطينة وعدد آخر من الولايات الشمالية الساحلية إلا أن عدداً قليلاً منهم ذهب إلى الواحات الصحراوية جنوب الجزائر.
وقال الدليل السياحي محمد عبد الوهاب الذي يعمل في ولاية ورقلة، جنوب شرق الجزائر، إن "وجود اليهود في المنطقة الصحراوية من الجزائر كان قليلاً جداً بالمقارنة مع الذين تمركزوا في المناطق الساحلية والهضاب".
وتابع: "هنا في مدينة ورقلة كان بعضهم يعيش في منطقة اسمها القصبة وأيضاً في تقرت. كان يهود ورقلة مثقفين، ولم يكن لديهم أيّة مشاكل مع المسلمين. اختصوا في تجارة الذهب وتصنيعه، وهذا ما جعلهم أغنياء".
واشتهرت الجزائر بالحارات اليهودية، وهي تجمعات على أساس ديني أنشأها اليهود الجزائريون للحفاظ على خصوصياتهم، وبسببها اتهمهم البعض بالانعزال والانغلاق على أنفسهم.
ومن هذه الحارات، حارة اليهود في قسنطينة التي خصصها لهم الباي صالح سنة 1750، وحارة اليهود في مجينة وهران غرب الجزائر والتي بناها لهم الباي محمد بن كبير المعروف سنة 1792، إضافة إلى حارات عدّة في بقية المناطق الغربية كتلمسان ومستغانم ومعسكر. كما نجد حارات اليهود في ميزاب وفي منطقة القبائل.
التجارة مهنة اليهود
بقي اليهود حاضرين بفعالية في المجتمع الجزائري حتى الاستقلال عام 1962. وقد اشتهروا بالتجارة وبرزوا في تجارة الذهب والصوف والقمح والجلود.
وظهر النفوذ اليهودي إبان الحكم العثماني حين تمكنوا من الوصول إلى مناصب سياسية عليا كمستشارين للملوك. وقال عطار أحمد إن "اليهود عاشوا إبان الانتشار الإسلامي أحسن فترة. فالمسلمون آنذاك كانوا يعتبرون اليهودي أفضل من الكافر لأنه من أهل الكتاب كما أنهم أبناء عم العرب".
وذكر صاري علي حكمت أن "اليهود اشتهروا بالتجارة وخاصةً بتجارة الذهب والفضة والنسيج، وعلى أياديهم حققت حرفة النسيج نجاحاً كبيراً، فضلاً عن اشتهارهم بالخياطة وبالاختصاص في زراعة الزرابي، إضافة إلى شهرتهم بصنع الحلويات، وكانوا يتبادلون الوصفات مع المسلمين".
اليهود والتراث الموسيقي
يقول الكاتب والصحافي الجزائري فوزي سعد الله في كتابه "يهود الجزائر مجالس الغناء والطرب"، إن يهود الجزائر اشتهروا بغناء المالوف والصنعة والغرناطي. ويتحدث عن دور الطائفة اليهودية الجزائرية ومساهمتها في الثراث الموسيقى الجزائري.
[caption id="attachment_48808" align="alignnone" width="700"] يهودي جزائري[/caption]ويلفت حكمت إلى أن اليهود لعبوا دوراً مهماً في الغناء الأندلسي، خاصةً أن العائلات المسلمة كانت تمنع أبناءها من الغناء، وهذا ما ترك الفضاء لهم.
ويضم كتاب سعد الله مجموعة من الصور التي تُظهر الفنانين اليهود الجزائريين أثناء فترة الاحتلال، إضافة إلى صورة الجزائري المولود في ولاية قسنطينة شرق الجزائر إنريكو ماسياس وهو يؤدي الصلاة على حائط المبكى سنة 1981.
اليهود في زمن الاستعمار
خلال فترة الاستعمار الفرنسي حظي يهود الجزائر بمجموعة امتيازات منحتها لهم فرنسا. وفي مرسوم كريمو، سنة 1870، مُنحوا الجنسية الفرنسية، واستفاد منه 35 ألف يهودي جزائري، علماً أن هذا المرسوم استثنى الجزائريين المسلمين لرفضهم الخدمة العسكرية، كما استثنى يهود منطقة بني مزاب وما جاورها على اعتبار أن هؤلاء يُطبّق عليهم قانون آخر.
وجعلت سلطات الاستعمار الفرنسي التعليم إجبارياً ومجانياً لليهود فقط، وهذا ما ولّد ردود أفعال عنيفة من قبل المسلمين، وقد تواصلت إلى أن وُضع هذا القرار جانباً. ويقول الكاتب صاري علي حكمت أن دهاء الحكومة الفرنسية هو سبب تقسيم المجتمع الجزائري.
نتيجة الظروف التي سادت حينذاك، قطع معظم اليهود صلته بالمجتمع الجزائري وأخذ صف فرنسا في حربها ضده. فقد وقف أغلب يهود الجزائر ضد انفصالها عن فرنسا. لذلك، غادر كثيرون منهم بلدهم بعد الاستقلال وذلك خوفاً من الانتقام بسبب وقوفهم إلى جانب المحتل. وقد تركوا وراءهم ممتلكات وثروات ما زالوا يطالبون بها إلى الآن.
ويذكر صاري علي حكمت أن اليهود الجزائريين ردوا على بيان أول نوفمبر الذي دعاهم إلى الالتحاق بالثورة التحريرية بالرفض بقولهم إنهم فرنسيون. ولكن الكثيرين منهم شاركوا مع الجزائريين الآخرين في الحرب ضد فرنسا.
هجرة اليهود
ازدادت هجرات اليهود الجزائريين نحو فرنسا وفلسطين بعد توقيع اتفاق عدم اطلاق النار في شهر مارس سنة 1962. وتزامن ذلك مع الظرف الدولي الذي تميّز بالصراع العربي الإسرائيلي، وهذا ما ساهم إلى حد كبير باشتعال فتيل الخلافات بين المسلمين واليهود في العالم العربي عموماً.
[caption id="attachment_48806" align="alignnone" width="350"] الشيخ ريمون ليريس[/caption]كان يهود الجزائر ينظرون إلى الآفاق المستقبلية لبلدهم بشيء من الخوف والريبة والشك، خاصة بعد اغتيال أعظم شيوخ غناء المالوف القسنطيني الشيخ ريمون ليريس الجزائري (1912-1961) برصاصة في عنقه بينما كان يتجول مع ابنته فيفيان في سوق قسنطينة المعروف بسوق العصر. وقد أثر هذا الحادث كثيراً على اليهود الجزائريين، فاقتنعت الفئة الأكبر منهم بضرورة الرحيل.
وبعد أن كان عدد اليهود الجزائريين يقارب الـ25 ألفاً، تعاقبت موجات الهجرة، ولم يبقَ في الجزائر إلا نحو 90% منهم عند مطلع السبعينيات من القرن الماضي.
وساهم التدهور الأمني في الجزائر، في بداية تسعينيات القرن الماضي، في التعجيل برحيل مَن بقوا وذلك خوفاً من عمليات انتقامية. ويؤكد الكثير من المحللين الاجتماعيين الجزائريين أن ظروف التسعينيّات ساهمت بشكل كبير في رحيل الكثيرين.
هذا وقد انصهر آخرون في المجتمع الجزائري ومنهم من تحوّل إلى الإسلام. وقالت شاوي بودغن: "هنالك الكثير من العائلات اليهودية التي غيرت ديانتها إلى الإسلام هنا في مدينة تلمسان. وهي معروفة في المنطقة".
والنتيجة هي أن عدد يهود الجزائر حالياً لم يعد يتعدّى الـ1000.
نظرة اليهود إلى بلدهم الأم
مونيكا تالي هي يهودية من أصل جزائري وتعيش حالياً في فرنسا. في محادثة عبر سكايب، قالت لرصيف22: "ترك والداي الجزائر سنة 1948. كانا حائزين الجنسية الفرنسية".
وروت أن والدتها "لم تشعر يوماً بأنها جزائرية، حسب ما كانت تحكي لي، وكانت هي وأبي يتعرضان لمواقف عنصرية في التعامل معها في حياتهما اليومية. وترك عدد كبير من عائلتي الجزائر بعدهما مباشرة، ولم نعد للزيارة".
وتابعت: "لم أشعر يوماً أن الجزائر هي بلدي الأم أو حتى جزء من ماضيّ، كما شعر إنريكو ماسياس المولود في الجزائر في أغنيته الشهيرة التي يقول فيها إن الجزائر قطعة ضائعة من حياته، برغم أن عائلتي من المدينة نفسها التي ولد فيها، قسنطينة".
زيارة البلد الأم
لم تتوقف زيارات اليهود إلى الجزائر. وقال صاري علي حكمت إن "زيارات اليهود إلى الجزائر لم تتوقف. يأتون من أجل زيارة ذويهم المدفونين هنا". كما يواصل عدد كبير منهم القدوم من أجل رؤية عائلاتهم الباقية وممتلكاتهم التي تركوها قبل الهجوة إلى فرنسا.
وبحسب الدليل السياحي محمد عبد الوهاب، "إلى يومنا هذا يزور يهود الجزائر بلدهم ويستقبلهم أصدقاؤهم المسلمون الموجودون هنا. وأولادهم وأحفادهم يعرفون بعضهم بعضاً".
واستنكر عطار أحمد واقع اليهود اليوم وقال: "ديننا هو دين تسامح وتعايش. فكيف كان بإمكان اليهود العيش مع المسلمين في العصور القديمة ولا يمكنهم الآن حتى الإفصاح عن ديانتهم؟".
وقال الكاتب والباحث صاري علي حكمت: "حتى المقررات الدراسية تتحمل جزءاً من المسؤولية عن واقع اليهود الحالي، فهي لا تذكر أنهم يشكلون قطعة من تاريخ الجزائر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه