عالجنا سابقاً أهمية نشوء المجتمع السياسي وضرورة تطوير نظم التعليم والتشاركية في مجتمعاتنا العربية في الطريق نحو الديمقراطية. ونعالج اليوم مكافحة الفساد والعوائق التي تواجهنا في بناء النواظم الضابطة لنزاهة المجتمع والسلطة.
بناء الإنسان
استعرضنا في المقالة السابقة أهمية التعليم والتشاركية في بناء الانسان. ونسترسل لنقول إننا نصادف في بلادنا أربعة أصناف مألوفة من المواطنين:
- مواطن محافظ أو متدين جداً ذو نزعة قَدَرية يعتبر أن كل ما يحصل له مكتوب وأن عليه إما الاستكانة حتى يقضيَ الله أمراً كان مفعولاً أو الثورة دون تحديد شكل محدد لما يود الوصول إليه، سوى ربما الاعتقاد بأن مجتمعاً يديره رجال الدين سيضمن له عدالة أكبر ولمن يحكموه قوة ردع أخلاقية فعالة أكثر.
- هذا المواطن يكتفي عادة بمهنته وبالتوسع في فهمه للتعاليم الدينية. لم يوضح له أحد في صغره بأن رب العالمين لا يحتاج إليه، وإنما بعث الرسل لإصلاح المجتمع والعمل على توجيهه كإنسان لكي يحاور من أجل تحديد مستقبله، ولكي يطلع على كل التيارات الفكرية ويلتزم بالتراحم وإغاثة المحتاج وينخرط في العمل المجتمعي والمهني.
- مواطن تقدمي متحرر نسبياً يؤمن نظرياً بالديمقراطية وحرية الفكر والمعتقد ولكنه ميّال إلى رفض الأفكار التي يعتبرها بالية. يحاول نسيان الحضارة التي ينتمي إليها والتي أنتجته، ويوجه اهتمامه لقضايا الإنسان المعاصر ومتطلباته.
- مواطن يعاني من أزمة الهوية ويعيش في هوس نظرية المؤامرة، معتبراً أن كل العالم يكرهه ويريد له الفشل وربما الهلاك.
- مواطن يعاني من التهميش ويعتبر أن انقياده للسلطة الحاكمة أو عداءه الشديد لها سيفتح له آفاق المعروفية والتميز.
إن أملنا من خلال تطوير نظم التعليم والتشاركية وبناء الإنسان، الوصول ما أمكن إلى المواطن المتكامل الذي يؤمن بالحرية واستنهاض الفكر الحريص على حضارته عبر كل تاريخه الطويل وعلى إرثه الديني ومنظومة القيم الاجتماعية التي تزيد من ثقته بنفسه وتزيل إيمانه بحتمية وجود مؤامرة تستهدفه.
الديمقراطية الغربية وإمكانية تعميمها
نشأت الديمقراطية الغربية في مجتمعات كانت قابلة لتَفَهُم فضائل المجتمع السياسي وعاشت تجربة الثورة الصناعية والتنمية الاقتصادية ومن ثم استعمار الأمم الأخرى والسيطرة على منابع الثروة فيها.
كل هذا أدى إلى ازدياد محسوس للثروة رافقته احتجاجات أو ثورات اجتماعية، جعلت المرجعيات في الحكم والمعارضة تسعى للتوافق على نظام يحقق السلم الاجتماعي مع تأكيد أولوية المبادرة الفردية. ولد النظام الجديد من رحم توزيع أفضل للثروة وساعدت الثورة الصناعية والتنمية الاقتصادية واستعمار الآخرين على اشتداد عود الأمم الديمقراطية وضمان سيطرتها على العالم.
بالمقابل فشلت الشيوعية رغم فضائلها الانسانية والثقافية بسبب محدودية توزيع الثروة على الناس، فأدى ذلك إلى إفقار المجتمع. وكذلك بسبب المركزية الشديدة التي دمرت المبادرة الفردية وجعلت الانسان محروماً من حقوق التملك والتوريث وهي حقوق كامنة في جيناته. وعندما ازدادت الاحتجاجات عولج الأمر بالقمع والاستبداد مما زاد الطين بلّة وتسبب بانهيار النظام.
أما النظم الديكتاتورية المكشوفة أو المقنعة فهي حكماً محدودة العمر، عدا تلك التي تفهم ضرورات التغيير وتجيد الانتقال إلى نظام جديد تحتفظ فيه بدور سياسي أسوة بالقوى الأخرى في المجتمع.
الديمقراطية الغربية هي وحدها التي استطاعت الاستمرار. ولكن نجاحها لا يزال مشروطاً بوجود الثروة وتوزيعها المقبول من المجتمع.
وإذا أردنا التبسيط فيمكن تشبيه المجتمعات الديمقراطية على الشكل التالي:
مجتمعات تملك الثروة، يديرها الأغنياء أو وكلاؤهم وتضمن استقرارها بتوزيع الثروة المقبول وتقديم خدمات اجتماعية وصحية جيدة والسيطرة على المال والإعلام. لكن خشيتها من فقدان السلم الأهلي يجعلها تلجأ إلى انتخابات نزيهة تجعل مواطنيها يتصورون وكأنهم يديرون المجتمع.
يقولون لك هذا أفضل الموجود، نحن ديمقراطيون في بلادنا وليس بالضرورة لديكم. عليكم أن تثبتوا أنكم تستحقون الديمقراطية حتى تنالوها.
فهم الصينيون هذه المقولة رغم المليار وربع مليار مواطن، وبدأت الصين مشوار التنمية مع توزيع أفضل للثروة وتشجيع حكومي لطبقة رجال الأعمال واجراءات قاسية لمحاربة الفساد في أجهزة الدولة، وذلك في تدرجها نحو الديمقراطية.
يقول لك قائل إذا صحت هذه المقولة فكيف استطاعت دولة كبيرة مثل الهند استباق التنمية واعتماد الديمقراطية؟
الجواب، صحيح أنّ الهند هي حالة نادرة لكن المجتمع الهندي متعدد الأديان، متعدد الثقافات، متعدد الأعراق، ولم يكن هناك طريقة لإبقاء الهند دولة موحدة إلا باعتماد الديمقراطية. ثم لا بد أن نذكر فضل غاندي كرجل دولة عظيم ورغبة الغرب في أن يبقى هذا البلد موحداً.
الفساد والمحسوبية
ينشأ الفساد من حيث المبدأ لأسباب عدة، منها:
- ضعف التربية الوطنية.
- الولاء للذات وليس للمجتمع أو الوطن.
- غياب أو ضعف المحاسبة.
- سوء توزيع الثروة وإفقار المجتمع.
- ضآلة الرواتب في القطاعين العام والخاص.
- عدم توفر أنظمة قضائية نزيهة.
أما المحسوبية وهي أخطر اقتصادياً فأسبابها:
- استكانة المجتمع ورجال الأعمال لهذه الظاهرة.
- شعور الحاكم (عن خطأ) بضرورة الحصول على ولاء عدد صغير من المتنفذين وحصر الثروة بهم.
- عدم توفر وسائل إعلامية حرة لفضح المحسوبية.
- عدم فعالية الأجهزة الرقابية.
بالعودة إلى الفساد، قيل لي مرة "سنقضي على الفساد وسنقمعه بشدة"، قلت "لن تفلحوا، ابدأوا بالتربية الوطنية وتحسين توزيع الثروة ورفع الرواتب ثم طبقوا القوانين".
كوريا الجنوبية فعلت ذلك. مؤسساتها تُعَلم الولاء للمؤسسة والمجتمع. وقد قامت برفع الرواتب ثم طبقت إجراءات قانونية صارمة على الفاسدين. بسّطت الإجراءات الإدارية وشجعت المواطن على الاعتراض عند وجود خلل. وعليه، أصبحت إحدى أنجح الدول اقتصادياً مع بقاء بعض الفساد الاقتصادي في شركاتها برغم محافظة الفاسدين على ولائهم لمؤسساتهم (ظاهرة جديرة بالدراسة).
إحدى ظواهر الفساد في بلادنا تتجلى في شعور مُتَّخِذ القرار أن الثروة المتوفرة لديه محدودة ولا سبيل لتعميم الاستفادة منها على الجميع. ومن الأجدى بالنسبة له الاستفادة الشخصية ما أمكن مما هو متوفر.
لنأخذ كمثال رئيس بلدية يرتقي ليصبح وزيراً. يفكر في بداية تعيينه بمشروع تنمية لمنطقته. ثم يكتشف أن المال المتوفر محدود وأن بقاءه في المنصب لن يطول. لذلك يسقط أمام إغراء الفساد ويبدأ باستغلال منصبه وينسى الناس الذين كان من المفترض به تمثيلهم.
الطريقة الأفضل للتقليل من هذه الظاهرة الأخيرة تكمن في حسن اختيار المسؤول، فكلما كانت سمعته عطرة وحرصه أن تبقى كذلك، ازدادت مقاومته لإغراء الفساد.
مما سبق يتبين أن معالجة الفساد والمحسوبية تمر بخطوات تدريجية أهمها:
- التركيز في المناهج المدرسية على التربية والسلوك الحميد وخدمة المجتمع.
- التنمية الاقتصادية والتوزيع العادل للثروة في المركز والمناطق.
- خفض عدد العاملين في القطاع العام وتبسيط الإجراءات وزيادة الرواتب وتقديم حوافز للعامل الذي يتجاوز الروتين لخدمة المُراجع.
- إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته وتأهيله بصورة منتظمة.
- عدم السماح لجهة غير قضائية بأي تدخل في عمل المؤسسات.
- اتخاذ إجراءات قانونية وعقوبات رادعة ضد المخالفين لقانون مكافحة الفساد.
- إبطال قرارات الاستئثار بالخدمات وفتح باب المنافسة الشريفة ليقدمها من يستحق ذلك.
- عدم التلاعب بالمواصفات وبعمليات الإستلام في المناقصات الحكومية.
- تأهيل الجهات الرقابية لأعلى سوية فنية ممكنة.
- العمل على تعيين أصحاب السمعة والكفاءة في مواقع اتخاذ القرار (السمعة والكفاءة قبل الولاء).
حاولت في المقالين السابقين، مراجعة الخطوات التمهيدية لبناء الديمقراطية، من وضع أسس المجتمع السياسي إلى التعليم والتشاركية وبناء الانسان إلى مكافحة الفساد والمحسوبية. مع توضيح صعوبة تقليد الديمقراطية الغربية من دون تحقيق مستلزماتها.
في مقالتي الأخيرة في الطريق إلى الديمقراطية، سأعمل على تصميم خارطة طريق تقود بلداً عربياً بشكل تدريجي إلى نظام ديمقراطي منسجم مع تقاليده وأسلوب حياته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...