بعد أن تطرقنا إلى مفاهيم المجتمع السياسي والتعليم، والتشاركية وتوزيع الثروة ومكافحة الفساد، ثم المعوقات التي تعترضنا إذا أردنا تقليد الديمقراطية الغربية بحذافيرها، نحاول في هذه المقالة الأخيرة من هذه السلسلة، استكمال الخطوات الممهدة للديمقراطية، قبل تطوير خارطة طريق تناسب بلادنا وتتكيف مع الظروف التي تحكم مجتمعنا.
وقبل أن نستكمل توضيح معالم طريق التغيير، علينا افتراض أننا محيطون تماماً بالسبب الرئيس الذي دفع المجتمعات، التي كانت راكدة وهامدة خلال عشرات السنوات، إلى الانتفاض السلمي أو العنيف من أجل إسقاط أو إصلاح الأنظمة الحاكمة. فنحن نسعى هنا فقط إلى استغلال هذا الحدث وانعكاساته لتعبيد الطريق إلى الديمقراطية، وليس للتهليل لتغيير من دون معين فكري، سيؤدي بنا حتماً إما إلى الفوضى أو إلى التطرّف المدمر لمجتمعاتنا.
التنمية الاقتصادية
هي شرط لازم وغير كاف في الطريق نحو الديمقراطية. تتطلب التنمية الاقتصادية المتسارعة:
- التشجيع الصارم للاستثمار: تقديم الخدمات على تنوعها بكلفة متدنية، ضرائب ميسرة، بيع الأراضي بأسعار السوق من دون مزايدات، اختصار المعاملات الإدارية، المكافحة النشطة للفساد، إنشاء محاكم اقتصادية سريعة البت والاستئناف، عدم المبالغة في فرض قوانين عمل جائرة... هذا سيؤدي إلى بعض الأزمات الاجتماعية، وسيتسبب بظهور حركة احتجاجية عمالية ينبغي معالجتها بواسطة قروض تستخدمها الدولة لدعم مشاريع الإسكان، وأسعار المواد الأساسية.
- التركيز على صناعات الأدوية والصناعات الغذائية، ومراعاة البيئة في جميع الصناعات والمؤسسات.
- دعم التصدير بالتركيز على تسويق المنتجات القابلة للعولمة.
- تيسير الترانزيت بأجور متدنية.
- جر المياه من الشمال إلى الجنوب، وإقامة شبكة مياه وطنية تغذيها محطات الضخ من الأنهار ومحطات تحلية مياه البحر.
- خلق عقد طرقات وسكك واتصالات وكهرباء ومياه، والترابط مع عُقَد الخدمات في البلدان المجاورة لتحقيق التكامل، بالإضافة إلى الاستثمار في بنية تحتية حديثة متكاملة.
- تهميش المؤسسات الطفيلية الوسيطة بين المنتج والمستهلك.
- الاكتفاء الغذائي الذاتي، وربما يتطلب الأمر إدخال التقنيات الحديثة في الإنتاج الزراعي.
- تسهيل الإجراءات الإدارية إلى الحد الأقصى وإلغاء الاستثناءات.
- بناء نظم معلومات وطنية، وتنفيذ ترابطها وتنميط الولوج إليها. تتضمن هذه النظم، نظام المعلومات السكاني، نظام الأمن العام، نظام المركبات، النظام العقاري، نظام الرعاية الصحية، نظام المعلومات الجغرافي، وغيرها.
يستفاد من نظام المعلومات السكاني لتنظيم الانتخابات، وفي تصنيف وتنسيق عمليات دعم المواد الأساسية. وقد تتطلب هذه الإجراءات استجرار استثمارات كبيرة من مصادر خارجية، مقابل تسهيلات وشراكات ميسرة قانونياً.
دولة القانون
الوصول إلى دولة القانون عملية شاقة، خصوصاً بعد إغراق القضاء بالتأثيرات السلطوية أو الفساد. برغم أن هناك دولاً استطاع القضاء فيها المحافظة على جزء من سمعته، برغم تأثره بالتوجهات السياسية المتناقضة. ولا شك أن التدرج نحو دولة القانون يجب أن يمر بمراحل عدة، أهمها:
- تأسيس مجلس القضاء الأعلى المؤقت
- تأسيس المحكمة العليا المؤقتة
في الدول غير المستقرة أو الخارجة من حرب أهلية، سيكون من الضروري اعتماد مرجعية غير منتخبة في البداية. وأفضل مرجعية ممكنة هي جمعية تأسيسية (100 عضو مثلاً)، من ذوي السمعة العالية والكفاءة من جميع مناطق البلد. تُمارس هذه الجمعية عملها مدة عامين، وتختار حكومة لإدارة البلد، وتشرف على صوغ الدستور المؤقت. وهي التي تختار مجلس القضاء الأعلى المؤقت وقضاة المحكمة العليا المؤقتة بعد التشاور مع كبار القضاة. تسن الجمعية التأسيسية مع مجلس القضاء الأعلى القوانين الناظمة لدولة القانون، وهي التي تشرف على أول انتخابات تشريعية في البلاد، وأول انتخابات رئاسية أو مبايعة ملكية.
الجيش والأمن
يستحسن في أي بلد يسعى إلى نظام ديمقراطي، أن يُنشِئ جيشاً من المحترفين المتطوعين، يصل إلى %1 من تعداد سكانه، وتكون رواتبه جيدة تفوق رواتب المدنيين العاملين في الدولة بالمرتبة نفسها. وفي حال وجود تهديد للبلد، يتم سن قانون تجنيد إجباري لمدة سنة واحدة، ويبقى المجند بعد تسريحه قابلاً للسوق الاحتياطي في حال تعرض البلد إلى عدوان، وتتم قيادة الجيش وإدارة شؤونه وفقاً للدستور. أما الإدارات الأمنية فتُختصر في فروع ثلاثة: الداخلي والخارجي والعسكري. ويكون عدد المنتسبين إليها في حده الأدنى، إذ إن عملها يجب أن يكون فنياً ونوعياً. أما الإجراءات الأمنية الميدانية، فتناط بسلك الشرطة بناء على تنسيق دائم بين الشرطة والأمن، وبعد استصدار أوامر قضائية.
وتقوم الإدارات الأمنية في إطار نشاطاتها، بدراسات تتعلق بسبر المخاطر العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتهدد الوطن. وتدار الإدارات الأمنية وفق ما ينص عليه الدستور.
تداول السلطة وقانون الأحزاب
تداول السلطة مفهوم معروف في الدول الديمقراطية وينص عليه الدستور. في الجمهوريات، يُطبَق هذا المفهوم على الرئاسة ومجلس الشيوخ والبرلمان والحكومة، أما في الملكيات، التي تصبح ملكيات دستورية فينطبق أيضاً على جميع الهيئات التي تُمارس الإدارة الفعلية للبلاد. يحدد القانون الحزب (أو الأحزاب) الفائز في الانتخابات، وإجراءات تداول السلطة. تقوم الهيئة التأسيسية باعتماد قانون انتخاب مؤقت، ثم يتم استبداله بقانون دائم بعد استكمال الهيئات التشريعية والحاكمة بشكل ديمقراطي. يحدد قانون الانتخاب الحصة التمثيلية لكل حزب وفق الأصوات التي حصل عليها، إذا تجاوزت أصواته نسبة معينة يحددها القانون.
يراعي تمثيل الأحزاب كوتا نسائية، وتبقى هذه الكوتا إلى أن ينتفي سبب وجودها. حرية الكلمة وقدسية الرأي حقان أساسيان يكفلهما الدستور. كما يراعى في قانون الحزب أن لا يكون الحزب محصوراً بمنطقة أو إثنية أو دين أو طائفة.
الخدمات المدنية والاجتماعية
تقر الجمعية التأسيسية قوانين مؤقتة للجمعيات والنوادي والنقابات. يتم دعم وتشجيع جميع هيئات المجتمع المدني لتتكون في البلاد سلطة موازية تشارك الحكومة في إدارة المجتمع. جمعيات وفعاليات المجتمع المدني تؤمن حماية مجتمعية حقيقية وتساهم في تنمية الطبقة الوسطى، وهي عماد الاستقرار الاجتماعي والسياسي في أي بلد. جمعيات مثل حماية المستهلك، حماية البيئة، حماية الطفولة، حماية ومساعدة المرضى، الجمعيات الخيرية، مراقبة الانتخابات، الجمعيات الاقتصادية والاجتماعية. الأندية الاجتماعية، أندية ورياض الأطفال الترفيهية والعلمية، بيوت الشيخوخة، أندية الهوايات المختلفة... نقابات العمال والفلاحين وكل النقابات المهنية. كل هذه الهيئات تدافع عن حقوق منتسبيها، وتدعم الحزب أو الأحزاب التي تُضّمِن برامجها الانتخابية مطالبها ومشاريعها. وتساهم هيئات المجتمع المدني في زيادة تماسك المجتمع وترسيخ الديمقراطية الناشئة.
المواطنة
قال الرئيس كينيدي في خطاب التنصيب: "لا تسألوا ما الذي ستقدمه لكم أميركا، بل إسألوا أنفسكم أولاً ما الذي ستقدمونه أنتم لأميركا". أما الشيخ المفكر محي الدين بن عربي فقال: "المكان (الوطن)، هو المكانة (تقدير المواطن)". هناك إذاً علاقة جدلية بين احترام الوطن لحقوق المواطن، واحترام المواطن لواجباته تجاه الوطن. لكن مسؤولية احترام المواطنة تقع أولاً على الوطن، أو من يديرونه، فهم الطرف الأقوى في المعادلة.
وتشمل حقوق المواطنة تطبيق جميع شرائع حقوق الإنسان على المواطنين، والتعامل بعدالة مطلقة معهم في حقوقهم السياسية والانتخابية والاقتصادية والقانونية، وتجنب كل مظاهر التمييز بينهم. واحترام شرائعهم ومعتقداتهم الدينية والفكرية، شرط أن لا تسبب إلحاق الأذى بالآخرين. أما واجبات المواطنين تجاه الوطن، فتتضمن طاعة الحكومة المنتخبة، احترام الدستور والقانون وخدمة العلم والتكافل الاجتماعي.
الديمقراطية الناشئة والمحيط الإقليمي
إن أحد المعوقات المألوفة التي تواجه نشوء الديمقراطيات، هي المحيط الإقليمي الذي قد تتناقض التوجهات السياسية لبعض دوله مع النظام الجديد. إحدى نظريات مواجهة هذا الواقع تقضي بتأخير المسار الديمقراطي، والإبطاء في خطواته لتجنب استثارة المحيط وضمان عدم إلحاقه الأذى بما يتم إنجازه. لكن خطورة هذه النظرية تكمن في إمكانية إغراق الإجراءات الديمقراطية في مستنقع من التعديلات والاستثناءات، التي يمكن أن تحيد بالمسار عن أهدافه، وأن تبتدع نظام حكم يبتعد رويداً رويداً عن الديمقراطية المنشودة.
الخيار الأفضل هو أن تعي الدولة الجديدة حجمها الفعلي ووزنها الاقتصادي والسياسي الحقيقي، عملاً بالمبدأ الدارج في اللهجة المحكية في بلاد الشام: "يجب أن تمُدَ لحافك على قد رجليك"، أي أن تمدّ غطاء سريرك على قياس قدميك. فإذا تجاوزت القدمان الغطاء تصبحان معرضتين للخطر، وإذا تجاوز الغطاء القدمين فأنت تستغني عن حقوقٍ تستطيع نيلها. تقوم الدولة الجديدة بطمأنة جوارها أثناء شروعها في التوجه نحو الديمقراطية، وتألو على نفسها بعدم التدخل في شؤون غيرها، وبناء علاقات طبيعية مع جميع الدول أياً كان نظامها الحاكم.
الأساس في هذا الخيار أن تستثير الديمقراطية الناشئة غيرة الشعوب المجاورة لتقليدها من دون أن تستثير سخط أو عداوة حكوماتها. كل المفاهيم الواردة في هذه المقالة والمقالات السابقة تهدف إلى السير بهدوء وحنكة نحو الديمقراطية، وتجنب تشكل مزيج انفجاري في المجتمع، يهدد الوطن ويشجع القوى الخارجية على التدخل في شؤونه والقضاء على منعته واستقراره.
خارطة الطريق نحو الديمقراطية في الدول المتجددة
تصمم هذه الخارطة على أساس التوجه نحو الديمقراطية على مرحلتين:
المرحلة التمهيدية:
تدوم من 3 إلى 5 سنوات، وتهدف إلى تهيئة الظروف الأولية الضرورية لبناء الديمقراطية المستقرة. تشمل هذه المرحلة الإجراءات التالية:
- في الدول المضطربة، إيقاف الاشتباكات والبدء بالمصالحة الوطنية.
- في جميع الدول، اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية المائة (مثلاً)، بالتوافق بين ممثلي جميع المناطق في البلد (وجهاء، ناشطون سياسيون، رجال أعمال، شيوخ عشائر، ممثلون عن المهن، عمال وفلاحون، رجال دين...الخ). وقد يشارك نحو ألف ممثل في هذه العملية.
- اختيار قضاة المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، وأعضاء المحكمة المؤقتة العليا.
- اعتماد دستور مؤقت.
- سن القوانين الجديدة.
- تشكيل الحكومة المؤقتة.
- شن حملة تدريسية وإعلامية لإدخال مفاهيم المجتمع السياسي، والتربية الوطنية.
- تطوير مناهج التعليم وإدخال مفاهيم التشاركية وفرق العمل.
- إلغاء المحسوبيات وتشجيع التنافس النزيه.
- الشروع في البناء التدريجي للبنية التحتية.
- ترخيص الأحزاب.
- بدء الانفتاح الاقتصادي المتوازن، وإطلاق استثمارات التنمية الاقتصادية.
- الهيكلة التدريجية للجيش وإدارات الأمن.
- تنظيم انتخابات لاختيار رئيس للبلاد (أو مبايعة ملك)، بعد سنتين من بداية المرحلة التمهيدية. كذلك تنظيم انتخابات مجلس النواب ومجلس الشيوخ.
المرحلة المستقرة:
تبدأ باعتماد دستور دائم والتصديق عليه من قبل الشعب.
- اعتماد النصوص النهائية للقوانين.
- إجراء استفتاء تفصيلي حول ثوابت السياسة الخارجية لكل دولة.
- اعتماد المصالح الاقتصادية كأساس للتعامل مع الدول الأخرى. واعتماد التنافسية من أجل الدخول في نظام العولمة.
- انتخاب رئيس جديد للبلاد ومجلس نواب ومجلس شيوخ، بعد أربع سنوات من الانتخاب الأول.
- تثبيت وتدعيم أسس النظام الجديد.
حاولت في هذه المقالات "الطريق إلى الديمقراطية"، رسم الخطوط العامة لاستراتيجية مستقبلية ومأمولة لدولنا في المنطقة، وذلك بأسلوب مبسط، مع بعض التفاصيل التي تتطلب مراجعة وتصويب من قبل المختصين في كل مجال. وجدير بالذكر أنّ نجاح أي دولة في الانتقال الديمقراطي يعتمد إلى حد كبير على العوامل التالية:
- تحقيق سلامها الداخلي.
- توحيد شعبها ضد الحركات التكفيرية والفوضوية.
- إيمانها العميق بالمواطنة وحقوق الإنسان والديمقراطية.
- التزامها الصارم بمبادئ دولة القانون.
- احترامها لحضارتها وحضارات الآخرين.
هذه العوامل ستجعل الدول الديمقراطية الأخرى تساعدها في تسريع خطواتها نحو الديمقراطية، وفي شملها في النظام العالمي المتقدم Inclusivity in the World Order. أما الدول التي تفشل في هذا المضمار، فستحكم على نفسها بالبقاء ضمن الأمم المستهلكة، ومن يملك موارد بينها فسيبقى يستهلك حتى تنفذ موارده، أما من يفتقر إلى موارد، فسيغوص أكثر في ظلمات الفقر والتخلف.
وبما أن ثورة المورثات - الجينات - قد اقترب أوانها، وهي ستغير وجه العالم، فإنّ على شعبنا أن يدرك أن بقاءه كحضارة وأسلوب حياة، أصبح محكوماً بسرعة انطلاقه في الطريق إلى الديمقراطية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين
Jack Anderson -
منذ أسبوعشعور مريح لما اقرا متل هالمقال صادر من شخصك الكريم و لكن المرعب كان رد الفعل السلبي لاصحاب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعانا بشكُر حضرتك جدا جدا جدا جدا علي المقاله المهمه والرائعه دي
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعمقال قوي. أحييك عليه.