تقدّم "سلوى جرّاح" في روايتها الأخيرة صورة عن عراق الخمسينيات من القرن الماضي وما تلاها، من خلال حكاية أسرة صغيرة تعيش في بغداد، تكشف من خلالها أثر التحولات السياسية العاصفة التي جرت على المجتمع والناس.
تسرد الرواية "بديعة عبد الرحمن الكيال"، بعد أن تعلن أنها رسامة لكنها قررت أن تكتب حكاية أسرتها. هذه تجربتها الأولى في الكتابة، وقررت أن تكون "بلا رتوش الرسام، الذي يمس بريشته زاوية في لوحته، ليغيّر بعضاً من ملامحها أو منظورها، ودون أن أستعين بمهارات الكاتب، الذي قد يمحو سطوراً تخجله، أنا لا أحتاج لكل ذلك لأني سأكتب عن نفسي وحياتي وأهلي وأصحابي".
تستعرض "بديعة" قصة حياتها منذ طفولتها، إذ كانت تعيش في حي المنصور ببغداد، مع أسرتها: أخواها توفيق وسامي، ووالدها تاجر الأقمشة المعروف، وأمها معلمة المدرسة، وجدّتها "أم عبد الرحمن". تبرز موهبة "بديعة" في الرسم منذ صغرها، وتكون محط اهتمام جميع معلمي الرسم الذين تناوبوا على تدريسها، إلى أن تكبر وتقرر دراسة الفن في الجامعة، ثم تصبح بعد ذلك فنانة معروفة ومشهورة.
ترصد الرواية المراحل التي مرَّ بها تاريخ العراق السياسي، منذ أن كان مملكة ثم أصبح جمهورية. تتالت الانقلابات العسكرية خلال فترة قصيرة لا تتجاوز عشر سنوات، لتجد "بديعة" نفسها، وهي الطفلة، عاجزة عن فهم كل تلك المتغيّرات السريعة. "أشياء كثيرة تغيّرت من حولي أهمها اختفاء صورة الملك فيصل الثاني من كل الأماكن، وتغيّر النشيد الذي كنا نردده "مليكنا مليكنا نفديك بالأرواح" إلى لحن جديد لم أسمعه من قبل. ثم عادت الحياة إلى سابق عهدها، لكن الأهل والجيران كانوا يرددون حكايات غريبة".
تركّز الكاتبة في روايتها على عالم الأسرة بكل ما فيه من دفء وحميمية، وتفاصيل عيش، فترسم جو العائلة الذي يجمعها الأب الحكيم والأم الحنون. لكن التغيّرات التي تحصل في البلاد لا بدّ أن تنعكس على كل أفراد المجتمع، وتالياً على كل أسرة. فبعد وصول حزب البعث إلى السلطة، وبدئه بملاحقة كل من ينتمي إلى أحزاب معارضة، وإعطائه امتيازات واسعة لمن ينضم إليه، حتى لو لم يكن يستحقها، تفاجأ الأسرة أن "سامي" أصبح عضواً في ذاك الحزب. يغدون حذرين من الحديث أمامه عن أي موضوع سياسي خشية أن ينقله إلى رؤسائه، وفي ذلك إشارة ذكية وحقيقية إلى الدور الذي يلعبه الاستبداد في تفرقة الناس، وخوفهم بعضهم من بعض، حتى داخل العائلة نفسها. "همس أبي: قولوا لتوفيق أن لا يتناقش بالسياسة مع سامي، ترى الحزب أهم من الأخ والأخت والأم والأب. يمكن أن يكتب عنه تقرير يوديه للسجن".
تنبني الرواية على مجموعة من المشاهد التي يشكّل كل منها فصلاً قصيراً، إذ تعتمد "جرّاح" على هذه الطريقة في السرد، لتنتقل بحرية بين بضعة أزمان وأمكنة. بطلتها تعيش في باريس مع زوجها وابنتيها الشابتين، بعد أن أصبحت فنانة معروفة تدرّس الفن في "معهد العالم العربي" في باريس، ومن هناك تقص حكايتها، متذكرة تفاصيل الطفولة والمراهقة والشباب، والعلاقة الأولى التي عاشتها حين كانت طالبة جامعية.
أحبّت "جواد" الشاب الوسيم، وابن الأسرة الفقيرة، الذي كان مفتاحها للتعرف إلى عالم مختلف عن عالمها، حيث الناس الفقراء الذين يعيشون في المناطق الهامشية. تلقي الكاتبة الضوء من خلال هذه العلاقة على مدى ترابط النسيج الاجتماعي العراقي آنذاك، إذ لم يكن اختلاف الطائفة عائقاً أمام أي اثنين متحابين، "صمت جواد لحظة وعاد يقول ممازحاً: "تريدين شيخ سني لو شيعي ترى آني شيعي عمارتلي وإنتي سنية؟"، ابتسمت، فالفكرة لم تشغل تفكيري مطلقاً، بل لم يكن فيها أي غرابة، هي حكاية جدي وجدتي معكوسة!". هذا الحب لا يُكتب له النجاح، إذ يضطر "جواد" للهرب إلى موسكو، وهو المنتمي إلى الحزب الشيوعي، بعد أن يبدأ الحزب الحاكم بملاحقة جميع المنضمين إلى أحزاب أخرى.
تحكي "بديعة" عن الخسارات والانكسارات التي عاشها العراقيون بعد وصول "صدام حسين" إلى الحكم، ومدى الطغيان الذي مارسه، وكيف أشعل الحروب مع الدول المجاورة. حروب كان يمولها النفط العراقي والشباب العراقيون الذين أصبح الموت زائراً يومياً لبيوتهم. تروي كيف بدأ الناس يرحلون عن بلادهم مجبرين، متشتتين في أصقاع الأرض وكأن "التشرد من الوطن سيكون قدر العراقيين لسنين وسنين قادمة".
سلوى جرّاح ولدت في حيفا في فلسطين، لكنها تعلمت وكبرت في العراق. تعيش في لندن منذ أواخر السبعينيات، إذ عملت مدة اثنين وعشرين عاماً في هيئة الإذاعة البريطانية BBC، وقدّمت فيها العديد من البرامج الإذاعية. لها خمس روايات: "الفصل الخامس"، "صخور الشاطئ"، "أرق على أرق"، "بلا شطآن"، و"صورة في ماء ساكن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع