حارس حديقة المحبّين شخصٌ رقيق القلب، يفتقد الحبّ ويحاول البحث عنه، يتلصص على العشاق في الحديقة ويراقبهم، يتعاطف مع بعضهم وينزعج من البعض الآخر، يفرح مع كل قصة حب جديدة يراها تنمو أمام عينيه، ويحزن مع كل علاقة حب تنتهي.
حارس حديقة المحبّين ليس كبقية الحراس، الذين يطاردون الأحبة في الحدائق ويمنعونهم من تبادل القبلات واللمسات، بل هو يحرس كل لقاءٍ بين حبيبين كملاك أرسلته العناية السماوية. "أريد أن أصرخ في كل العاشقين بالحديقة، لا تخافوا بالله عليكم لا تخافوا، فأنا لست حارساً يترقب (...)، لست حارساً يصطاد القبلات قبل أن تصل إلى الشفاه ليحرر بها محضراً عاطفياً في إدارة الحديقة، ولست أنا الحارس الذي يغضّ الطرف لتمرروا له جنيهات بسرعة البرق إلى يده أو جيبه، بل أنا ملاككم الحارس في ظل إدارة حدائق تطارد العاشقين كما تطارد الهاموش في أرجائها".
حارس حديقة المحبّين يسرد بخفة حكاياته عن طفولته، وحكايات شخصيات عديدة من عائلته، وأصدقائه، وحكايات عشاق الحديقة وزوّارها، مطلقاً على كل شخصية من هؤلاء صفة فريدة يعرّفها بها، من دون أن يذكر اسماً واحداً على امتداد الرواية، حتى هو الحارس نفسه لا نعرف اسمه!
مقالات أخرى:
مراجعة لرواية "عشيقات النذل"
رواية من مصر: "خنادق العذراوات"
مع ذلك ننغمس إلى الأقصى في تلك الحكايات، تمر الصفحات من دون أن نعرف كيف أو متى، ونبقى مأسورين ومشدودين إلى السرد، ينتقل بنا من "الولد النزق"، الذي مزق رسالة حبيبته ورماها، إلى "سلطان العاشقين"، الذي يأتي كل أربعاء مصطحباً بنتاً جديدة. ومن "حارسة حمام النساء السمينة" وزوجها "عامل النظافة النحيف" وقصة زواجهما، إلى صديقه "شاعر قصيدة النثر"، الذي يحفظ هو كل أشعاره ويرددها دوماً. وصديقه الشاعر هذا هو من يعرّفه إلى "الفرنسية البلوند الشقراء"، التي لديها رغبات غريبة في الجنس.
"حارس حديقة المحبّين" شخصٌ مأزوم، لم يعشق من قبل. هو يراقب الحب ويتمنى لو أنه يحب، يحاول أن يبحث عن الحب في أشكال مختلفة، لكنه يتعثر في كل مرة. لا يقدم وليد خيري للقارئ الإجابة عن هذا بشكل جاهز، بل يترك ذكريات بطله تنساب في السرد لترسم ملامح حياة عائلية مشوشة، جعلت منه ما هو عليه اليوم.
فقد ولد لعائلة مات لها قبله ثلاثة ذكور، لذلك حين جاء إلى هذه الحياة ألبسته أمه حلقاً ووضعت له كحلاً في العينين، ونادته باسم فتاة لأن الناس قالوا لأمه إن هذه هي الطريقة الوحيدة لحمايته من الحسد الذي جعلها تفقد أبناءها السابقين.
هكذا عاش طفولة متأرجحة بين الذكورة والأنوثة، "أن تعيش كبنت، حتى لو كانت طفلة، جزءاً من يومك، فهذا بالفعل ليس أمراً سهلاً، بداية من اضطهاد ذكور الأطفال المماثلين لك في السن، مروراً بتعامل الأهل، والتفرقة بين الولد والبنت، بينما الأولاد يفعلون ما يفعلون بكل أريحية".
إضافة إلى ذلك، كان الأب موظفاً في شركة طرة الإسمنت، وكانت "علاوة العمل بتلك الشركة صدراً متحشرجاً بالإضافة إلى سيجارة لم تكن تفارق فمه، لذلك كنا نخاف أن يضحك أبي فتنتابه نوبة من السعال المميت لا تتوقف". لذلك كانت الأم "ربة المنزل المهذبة"، تحظر على أولادها رمي نكتة أمام أبيهم، وكانت تركض مسرعة لتغلق الباب عليه حين يريدون الضحك.
أما الأخ الأصغر "البرنس" فكان يراه "دائماً علقة"، وكان يعترض على الملأ على طريقة حياة أخيه، ويراه "نموذجاً للفشل، ويقول لي: أنت ضيعت عمرك في مهنة وضيعة لا قيمة لها، وفي الوقت الذي أقف فيه بالساعات كحارس للحديقة مقابل ملاليم يكون هو كسب آلاف الجنيهات".
حارس حديقة المحبّين يقطّر كل تلك المعلومات ببطء في صفحات الرواية، فنشعر وكأن حكايته تصارع لتمر من ثقبٍ ضيقٍ، بين كثافة حكايات الآخرين ضمن الرواية، وتخرج معلنةً عن نفسها للقارئ بخجل. خصوصاً أن الكاتب يعتمد تقنية غير مألوفة في السرد، فهو يدرج معلومات علمية عن الكثير من المواضيع التي تتطرق إليها حكاياته. مثلاً يكفي أن تطلب "صاحبة سلطان العاشقين" البيتزا من مطعم قريب، حتى يكون هذا سبباً لسرد معلومات عن هذا الطبق وتاريخ نشأته. ويكفي مرور إشارة للحياة البحرية، حتى تتدفق معلومات هائلة عن الحياة الجنسية للأحياء البحرية. ويكفي ذهاب الحارس إلى نادي رياضي حتى يسرد معلومات عن طرق الرياضة، وأشهر أبطال كمال الأجسام... وغيرها من المعلومات عن "موسوعة غينيس"، و"جائزة نوبل"، والسينما"، و"تاريخ حركات الاحتجاج العاري".
هكذا، نقرأ رواية يسميها كاتبها "رواية معرفية"، ملأى بكمٍّ كبير من المعلومات، تكاد تتجاوز مساحتها مجتمعة نصف مساحة الرواية. غير أن الكاتب يعرف كيف يختار المعلومات المثيرة ويعرف كيف يدرجها في نصّه، بكل "خفة الدم" المطلوبة كي يبقينا مستمرين في متعة القراءة.
"حارس حديقة المحبين"، رواية تخالف ما اعتدناه، وقد تبدو صادمة أو غريبة على الأقل، خصوصاً لمن اعتاد الطرائق التقليدية، لكنها مع ذلك رواية باذخة المتعة، وسردها "خفيف، يكاد يطير من خفته، ليشكّل شخوصاً غير اعتيادية"، كما كتب الناشر على غلافها!
وليد خيري كاتب مصري من مواليد القاهرة 1976، درس الفلسفة في جامعة عين شمس. كتب السيناريو لعدد من الأعمال الدرامية، وله مجموعة قصصية بعنوان "تجاوزت المقهى دون أن يراك أحدهم"، و"حارس حديقة المحبين" هي روايته الأولى.
الناشر: دار العين/ القاهرة
عدد الصفحات: 400
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية على موقع نيل وفرات
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 10 دقائقأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 6 ساعاتحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com