عندما يتكلم أحدهم عن الرقص الشرقي، ينتابنا شعورٌ آلي بالاشمئزاز، بالكاد يكون ملموساً، من هذه المهنة، ونتخيل صورة امرأة غريبة اختطفت وأجبرت على التعري من دون مراعاة حقها في التعبير. قد لا يكون الجميع مدركًا هذه الدلالات، ولكن على الرغم من ذلك، تم وضع هذا الرقص في خانة الطقوس الجنسية التي حافظت على القليل من قيمتها الثقافية. والأمر الأكثر إحباطًا، هو الطريقة التي ينظر بها إلى الرقص الشرقي في المكان الذي نشأ فيه وازدهر. من النادر أن نسمع أحدهم في الشرق الأوسط يتكلم عن الرقص الشرقي كنوعٍ فريد من الرقص، يُحترم ويُقدّر، حاله حال البالية أو الفلامينغو. خسر الرقص الشرقي قيمته ومعها خسر سحره وإرثه العظيم في السينما المصرية، كما انتُقصت قيمته إلى درجة أنّ البعض لا يعتبره نوعًا من أنواع الرقص لا بل طقساً غير أخلاقي تمارسه الفاسقات.
قد تأتي هذا النظرة للرقص الشرقي من الحكايات والأساطير التي جرى إثباتها كحكايات الراقصات الجواري في قصور ملوك السلطنة العثمانية أو عودةً بالتاريخ إلى أيام مصر واليونان والهند حيث استعمل هذا الرقص لعبادة الآلهة والمساعدة على زيادة الخصوبة. وللمزيد من الغموض حول الرقص الشرقي جعلت الغجريات الإسبانيات من هدفه أمرًا غامضًا، فمن جهةٍ يمكن تأديته للإثارة الجنسية، ومن جهةٍ أخرى يمكن أن يكون جزءًا من الطقوس الدينية. لم تبق هاتان النظرتان المتناقضتان للرقص الشرقي بعيدتين إحداهما عن الأخرى بل اجتمعتا لتلدا فنًا جميلًا.
يعدّ السياسي سول بلوم Sol Bloom من نيويورك، أوّل من أعطى اسم Belly Dance للرقص الشرقي، بعد أن وصل هذا النوع من الرقص إلى الولايات المتحدة، عن طريق معرض شيكاغو العالمي Chicago World’s Fair في العام 1893.
قبل انتشار الرقص الشرقي في حانات القاهرة وكباريهاتها في العام 1920، كانت الـ"غوازي" هن من يؤدينّ هذا الرقص أمام الجمهور، بحسب ما وثقه الرحالون الأوروبيون أمثال فلوبير Gustave Flaubert، الذي شاهد المؤديات المصريات البدو اللواتي ترددن إلى شارع محمد علي. كان لهذه المشاهدات أثر في نفس فلوبير، حتى أنّه ذكر الـ"الغوازي" في روايته الخيالية Herodias:
[caption id="attachment_29212" align="alignnone" width="700"] لوحة لـJean-Leon Gerome - رقصة العلمة - 1863[/caption]"رقصت ككهنة الهنود، كفتاةٍ نوبية، ككاهنةٍ من ليديا. التفت من جنبٍ إلى جنب كزهرةٍ يداعبها النسيم، وترنّحت درر أذنيها على موجات النسيم، وتلألأ حرير ثوبها. أمّا ذراعاها وقدماها وثوبها، فقد أشعلت اللهب في صدور الرجال".
اعتبر معظم الرحالين راقصات الجوازي بربريات ورخيصات، مقارنةً بالتخيلات الغربية عن الشرق، المذكورة في فن الأوروبيين المستشرقين وأدبهم. أمّا البعض الآخر كفلوبير وليدي ماري ورتلي مونتاغو Lady Mary Wortley Montagu، فقد رأوا في هذه الرقصات الشعبية مصدراً للجاذبية الفنية. وخلال وجود مونتاغو في القسطنطينية، كتب:
"ما من شيءٍ يمكنه أن يكون أكثر براعةً، إنّه رقصٌ مناسبٌ يهدف إلى إيصال رسالةٍ ما، فالنغمات ناعمة والحركات مصحوبة بتوقفاتٍ ونظرة قاتلة، أما الظهر فقد يلتوي وكأن الراقصة ستسقط أرضاً، لكنها ترتفع من جديد بطريقةٍ فنيةٍ وبارعة".
مقالات أخرى
الرقص عند المصريين، احتفال وعبادة
عن العلاقة بين الرقص الشرقي والسياسة
ويتحدث الراحل إدوارد سعيد في مقالٍ بعنوان Homage to a Belly Dancer، عن الرقص الشرقي بأكثر أشكاله أصالةً، عندما يستذكر حياة أحد أهم الراقصات الشرقيات وأكثرهن شهرة، الراقصة المصرية تحية كاريوكا. فكاريوكا وساميا جمال شاهدتان على زمنٍ تطور فيه هذا الرقص الشعبي ليصبح أكثر خصوصيةً ورسميةً. اعتادت راقصات الغوازي الرقص في حانات شوارع مصر لكسب عيشهن، إلّا أن الراقصات اللواتي تدرّبن على أيدي عرّابة الرقص الشرقي بديعة مصابني، رقصن في الشوارع ذات الحانات المحترفة والخاضعة للضوابط. فمع مصابني استطاعت الطبقة الراقية في المجتمع المصري الاستمتاع بمشاهدة راقصات محترفات، خلافاً لما كان عليه الحال لدى راقصات الشوارع. فالموسيقى التي رقصت عليها تلميذات مصابني بطيئة وغير منتظمة النغمات، على عكس الموسيقى الشعبية المعروفة بالبلدي، التي رقصت على أنغامها الغوازي.
[caption id="attachment_29214" align="alignnone" width="700"] تحية كاريوكا - 1930[/caption]يسلط إدوارد سعيد في مقالته الضوء على ميزة خاصة للرقص الشرقي، غالباً ما تجاهلها معاصروه، هي "عدم الإكثار من الحركات تماماً كما في مصارعة الثيران، وهنا يكمن جوهر الرقص الشرقي". يضيف سعيد في مقالته أن "المبتدئات والمقلدات البائسات من اليونان والأميركان فقط هن من لجأن إلى الالتواء المثير والقفز، بهدف الإثارة الجنسية تماماً عكس ما فعلته كاريوكا". ويتذكر سعيد يوماً شاهد فيه كاريوكا ترقص عندما كانت مراهقة، ويقول إنّها "لم تقفز أبداً ولم تمايل ثدييها ولم تهتز حتى، بل كانت براعتها تكمن في أداء كلاسيكي عظيم".
استطاعت كاريوكا وهي ترقص أن تفرض سيطرتها على المكان الذي تؤدي فيه، كما استطاعت سرقة انتباه جمهورها من دون تعمد ذلك. هذه هي القوة المسيطرة على العقل لرقص كاريوكا الشرقي، الذي من خلاله استطاعت أن تلمع عبر مئات الأفلام التي قدمتها، خلال فترة سيطرتها على العصر الذهبي للسينما المصرية.
لم تكن التقنية التي تستعملها لتحريك خصرها المرن، أو طريقة التواء جسدها، أو محاولة إغراء الجماهير جنسياً سبب تميزها عن بقية الراقصات، بل جاذبيتها والتناغم بين جسدها وروحها اللذين جعلا من جمهورها بمن فيهم سعيد جزءاً من هالتها. استطاعت كاريوكا أداء الرقص بشكلٍ مبهر من دون السماح لأحدٍ أن يعاملها كسلعةٍ أو أن يشبهها بدميةٍ متحركة، أو حتى أن يشعر بأنه يملك الحق في لمس جسدها، وهذا يدل على شجاعةٍ لمسها سعيد على المسرح:
[caption id="attachment_29217" align="alignnone" width="697"] تحية كاريوكا على غلاف مجلة الاستديو عام 1948[/caption]"ارتسمت على وجهها ضحكة وكان فمها مفتوحاً أكثر من اللازم لكي تبتسم، وكأنها كانت تتأمل سراً جسدها وتستمع بحركاته، لكنها سرعان ما تخفي ضحكتها لحظة إدخال مشاهد مسرحية تافهة على عرضها ورقصها، كأنها تخصص هذه الضحكة للحظات التركيز على الأفكار التي تراودها وهي تستمتع برقصها".
تماماً كأم كلثوم، التي تمتعت بصوتٍ قوي مشحون بالعواطف، استطاعت كاريوكا، التي يتعدى مجدها في الثقافة العربية كونها فقط راقصة، أن تظهر مدى قوتها وبراعتها من خلال رقصها. لم تتوقف كاريوكا عند حدود الرقص بل انخرطت في العمل السياسي في مصر من خلال الحركات السياسية التي انضمت إليها، وهذا ما دفع إدوارد سعيد إلى تسميتها بالـ"عَلمة" أي المرأة المثقفة. كانت كاريوكا ناشطة مفعمة بالشغف، لدرجة أنها دخلت السجن في الخمسينيات من القرن الماضي لانضمامها إلى حزب جمال عبد الناصر، الذي كان آنذاك معارضاً للرئيس. ومع ارتفاع حدّة التحفظ الديني، تغيرت نظرة المجتمع المصري لكاريوكا ومهنتها، ولم يعد الجميع يتقبل فكرة "العَلمة" حتى يومنا هذا.
كوني راقصة شرقية نصف عربية غربية، لا يمكن للمرء التخيل أنني تربيت على احترام صوت أم كلثوم أو تقدير إرث الرقص الشرقي الكلاسيكي. لكنني تعلمت كيف أقدر الجاذبية الفنية للآلات الموسيقية التي تعزف موسيقى الرقص الشرقي، حتى أنني لا استطيع الآن الرقص بطريقةٍ جميلة من دون عزف العود. متجاهلةً السمعة السيئة التي يحملها الرقص الشرقي اليوم، أجد فيه قدسية وحريةً جميلة، وهذا ما يجعلني أفقد الإحساس بالأمور التقنية والبنيوية والعقلانية، وعوضاً عن ذلك، أُخرج الحقيقة من حركاتي في الفضاء الذي خلقته. أيام دراستي في مجال الصحافة شعرت أن الرقص الشرقي سيؤثر سلبًا على مسيرتي الأكاديمية، ولكنني كنت أرقص على مسرح الجامعة، كونه المكان الوحيد الآمن المتاح لي حينذاك. لقد شاهدني والداي من المقاعد الأمامية وأنا أرقص، لم أفكر في تحدي الصورة النمطية المعادية للمرأة التي تؤدي الرقص الشرقي، بل كنت أفكر في كيفية تأثيره على سمعتي، وكيفية إلحاقه الضرر بمسيرتي الأكاديمية، وهذه أفكار لم تخطر في بالي وأنا أؤدي نوعاً آخر من الرقص.
لقد أثر الصراع للحفاظ على سمعة "العَلمة" على سمعة كاريوكا شخصياً خلال سنواتها الأخيرة في عصر السينما المصرية الذهبي. أعلم أنه بعد تخرجي لن أستطيع أن أؤدي الرقص الشرقي خارج الحرم الجامعي، لأن هذا النوع من الفن تلطخه سمعة الإثارة الجنسية، ولأنه ليس لدي مساحة احترافية لأرقص فيها. قد تبدو المحافظة على أصالة الرقص الشرقي واسترجاعها في عالمٍ يسيء فهمه أمراً غير واقعي. لقد أزعجتني تعليقات بعض الجمهور غير الشرق أوسطي، وبعض أصدقائي، فقد سألوني لماذا يفتقر أدائي إلى الحركات السريعة، ولماذا يبدو رقصي صامتاً؟ ما دفعني إلى التأكد من أن قبول هذا النوع من الرقص واعتباره أكثر من طريقة للتسلية الجنسية أمرٌ يصعب على البعض.
[caption id="attachment_29221" align="alignnone" width="700"] تحية كاريوكا وفريد الأطرش[/caption]تصف كارين فان نيورال Karin Van Nieuwark في كتابها A Trade Like No Other، هذا الفن بأنه "سيف ذو حدين، وما يثير القلق أكثر أنّ هذا النوع من الفن المهدد بالانقراض قد تكون له عواقب غير محسوبة". في آخر مقابلةٍ لكاريوكا مع إدوارد سعيد قبل وفاتها عن عمر الـ79، بدت بصورةٍ محافظةٍ دينياً بعد مرور سنوات على اعتزالها، ومع أنّها ارتدت حجاباً أسود، لم تتنكر لمسيرتها، بل أبدت احتراماً لهذا النوع من الفن، إذ اعتبرت الرقص كالوجود في معبدٍ ما كما قالت لسعيد، إن "حياتي كراقصة جميلة وقد أحببتها".
تقول الأستاذة في جامعة نورث كارولينا أندريا ديجون Andrea Deagon في مقالتها: The World’s Oldest Dance، التي تتحدث عن أصول الرقص الشرقي: "علينا النظر إلى عالمٍ متطورٍ ومعقدٍ ومتغير يضم جميع أنواع الرقصات". من المؤكد أنّ الرقص الشرقي سيتطور في المستقبل على أمل أن لا يبوح بالسر الذي جعل منه مميزاً. للمحافظة على الرقص الشرقي يجب التركيز على جماليته من الناحية الفنية، والابتعاد عن الإغراء الجسدي، وبهذه الطريقة وحدها يمكننا أن نأمل بأن تقدم الراقصات الجديدات أسلوباً جديداً متأصلاً، وأن تورّثه للأجيال المقبلة. لعلها الطريقة الوحيدة لكي يعود الرقص الشرقي إلى شكله الأصلي، ويرتفع عن سمعته الحالية لمرتبة أرقى.
هذا المقال ترجمة مختصرة عن النص الأصلي المنشور باللغة الإنغليزية على موقع Reorient، مجلة تعنى بالثقافة والفن المعاصر في الشرق الأوسط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...