منذ بداية عام 2014، أصبحت الأزمة الإنسانية السورية الأكبر على مستوى العالم. وقد انعكس ذلك في آثارٍ كارثية على المجتمع السوري داخل سوريا، وعلى مجتمع اللاجئين خارجها، كما على المجتمعات المضيفة.
ولم يعد بإمكان المنظمات الدولية المعنية أن تؤمّن الموارد المالية اللازمة للتعامل مع هذه الأزمات، مما دفعها إلى انتهاج سياسة إطفاء حرائق تقوم على تأمين المتطلبات الأساسية، وبالحدود الدنيا. فيما أُنهكت المؤسسات الإغاثية والإنسانية السورية والإقليمية، واستُنزفت مواردها في تأمين الغذاء والمسكن لملايين من المحتاجين.وفي ظل ظروف كهذه، فإنّ التفكير بالمستقبل يُشكّل نوعاً من الترف بالنسبة للمختصين بالمجال الاجتماعي، نظراً لاستنزاف جميع الموارد في حصر الآثار الآنية للأوضاع الصعبة التي يعيشها السوريون.
لكن دراسة الحالات المشابهة في دول أخرى تُشير إلى أن تعافي المجتمع من آثار أزمات مماثلة لن يكون سهلاً، حتى لو تأمّنت الظروف السياسية التي تُعيد الأوضاع المعيشية إلى حالتها الطبيعية، وأن الأمر قد يستغرق عقوداً حتى يتعافى المجتمع من آثار الأزمات الحالية، خاصة بالنسبة لبعض المجموعات التي لا يكون من الميسّر إعادتها إلى الحياة الاعتيادية. وسوف نتناول هنا خمس مجموعات ستوثّر بشكل كبير على مستقبل سوريا.
أولاً: فاقدو التعليم
تعرّضت العملية التعليمية لأضرار كبيرة، وخاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، إما بسبب دمار المدارس، أو بسبب انقطاع الدعم عن العملية التعليمية، أو بسبب عمالة الأطفال، والتي تُشكّل العامل الرئيسي في انقطاع 75% من الطلبة عن التعليم.
ويقدّر عدد الأطفال الذين لا يحصلون على التعليم في بداية عام 2014 بنحو 3 ملايين طفل. وفي بداية عام 2015 قدّرت الأمم المتحدة أن نصف الأطفال في سن الدراسة ليسوا منتظمين في العملية التعليمية.
وبالإضافة إلى انقطاع طلبة المدارس عن التعليم، فإنّ كل الطلاب في عمر الدراسة الجامعية الموجودين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لم يذهبوا إلى الجامعات طوال السنوات الماضية. ويعني ذلك بكل تأكيد أن سوريا ستشهد ظهور جيل من الأميين، سيكونون عبئاً على العملية التنموية، ولن يكونوا قادرين على الاندماج مع أقرانهم من المتعلمين.
كما أن انقطاع التعليم العالي في مناطق معيّنة (غالباً في أرياف المدن)، بالتوازي مع انقطاع الأطفال في المناطق نفسها عن التعليم الأساسي، يعني تركيزاً للثقل الاقتصادي والاجتماعي لمراكز المدن على حساب الأرياف، وربما بشكل يفوق الصورة التي كان عليها هذا التفوّق في بداية القرن العشرين.
ثانياً: النازحون والمهجرون
أُجبِر أكثر من نصف السوريين على مغادرة منازلهم كنازحين ولاجئين. ويبلغ عدد اللاجئين السوريين اليوم نحو 4 ملايين، ولا يشمل هذا الرقم غير المسجلين في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ولا الذين ما زالوا في انتظار تسجيلهم.
غادر الكثير من هؤلاء بلدهم قبل نحو أربع سنوات، ولم يعد لدى العديد منهم ما يمكن أن يعودوا إليه، بعد أن فقدوا بيوتهم أو محالهم التجارية. كما أن معظمهم لم يمارسوا أي عمل خلال هذه السنوات، ويعتمدون بشكل كامل على المساعدات.
لن يكون من السهل إعادة إدماج هؤلاء كلهم في سوق العمل مرة ثانية، كما أنهم سيحتاجون إلى برامج تأهيلية خاصة ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية، بعيداً عن المساعدات الإنسانية، والاعتماد الكلي على الآخرين.
ثالثاً: أصحاب البيوت المدمّرة
لا توجد معطيات دقيقة لدى أيّة جهة عن حجم الدمار الذي أصاب المنشآت الخاصة والعامة خلال سنوات الصراع الماضية، ولكن يُقدّر أن مليون و200 ألف منزل على الأقل قد دمّر.
ومع استمرار الحرب وقصف النظام، فإنّ مزيداً من البيوت يتم تدميرها بشكل يومي، حتى أصبحت بعض الأحياء التي كانت مزدحمة في ما مضى غير قابلة للحياة، مثل حي صلاح الدين في حلب وأحياء المدينة القديمة في حمص.
وحتّى لو تمكّنت أيّة حكومة قادمة بعد الاستقرار من جلب مساعدات دولية، فإنّ إعادة بناء هذا العدد من المنازل سيحتاج إلى ميزانية لا تقل عن 60 مليار دولار، وهو رقم لن يكون من اليسير تأمينه، خاصة مع وجود حاجات أخرى لا تقل إلحاحاً. فهناك 5000 مدرسة على الأقل تعرّضت للهدم الكلي أو الجزئي ما يخرجها من الخدمة، كما دُمّر 36% من المستشفيات بالإضافة إلى الطرق والجسور وشبكات الصرف الصحي وشبكات الماء والكهرباء.
ولا تقتصر أزمة سكان هذه البيوت على تهدّم بيوتهم وانتظار إعادة الإعمار، فتقدير القيمة الحقيقية للمنازل في حاجة إلى لجان مختصة يعوزها وقت طويل حتى تنتهي من أعمالها، كما أن المالكين والمستأجرين سيجدون أنفسهم أمام معضلة قانونية لإثبات طبيعة العقود التي كانت تربطهم قبل تهدم بيوتهم، بالإضافة إلى فقدان الكثير من عقود التمليك، نتيجة لاستهداف السجل العقاري في أكثر من مدينة، وأهمها السجل العقاري في حمص، والذي استهدفته صواريخ النظام في 1/7/2013، لتحرق كل السجلات فيه.
رابعاً: جيل المقاتلين
يُعدّ العمل مع الكتائب العسكرية أحد الأبواب المحدودة المتاحة للشباب للحصول على عمل في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. ولا يُعرف عدد المقاتلين في كل الفصائل المعارضة، ولكن العدد لا يقل بكل التقديرات عن مئة ألف. هذا في الوقت الذي يشترك الآلاف من مؤيدي النظام في ميليشيات عسكرية منخرطة في المعارك الدائرة.
ولن يكون ممكناً لأيّة حكومة مقبلة دمج كل هؤلاء الأشخاص في جيش الدولة، ولن يكون من السهل على هؤلاء المقاتلين التخلّي عن السلطة التي تعوّدوها خلال السنوات السابقة، أو حتى العودة إلى الحياة المدنية الاعتيادية.
علماً أن هؤلاء المقاتلين شاركوا، أو شاهدوا على الأقل بشكل يومي، الكثير من أعمال العنف، وبالتالي فإنّ عودتهم إلى الحياة المدنية دون تأهيل مناسب سوف تكون مصدراً للعنف الاجتماعي وحتى الأسري.
خامساً: المعوّقون
لا توجد أرقام موثوق بها لعدد الجرحى والمعوّقين في سوريا، لكن التقديرات تُشير إلى أن 5-10% من السكان في المناطق الملتهبة يُعانون من إصابات، كما أن تقديرات حقوقية تلفت إلى أن كل برميل متفجّر يسقط في منطقة سكنية يؤدّي، أقله، إلى إصابة خمسة أشخاص بإعاقات جسدية مختلفة، علماً أن عام 2014 وحده شهد سقوط ما يزيد عن 11000 برميل. وتؤكد التقديرات الدولية وجود ثلاثة أطفال معوّقين مقابل كل طفل مقتول خلال الحروب.
وسيعاني هؤلاء الأشخاص من ظروف اقتصادية صعبة، نتيجة للارتباط المعروف بين الإعاقة والفقر، إذ تقل إمكانية حصول هؤلاء على فرص عمل مناسبة، كما تقل إمكانية حصولهم على فرص التدريب والتعليم مقارنةً ببقية أفراد المجتمع، وخاصة في الدول النامية، التي مرت بحروب أهلية.
وسيزيد العبء الاقتصادي على أسر هؤلاء الأشخاص، نظراً للعناية الصحية واليومية التي يحتاجونها، خاصةً إذا لم تؤمن الدولة رعاية مادية لهم، وهو أمر لم يكن متوفراً في سوريا قبل عام 2011، ولا يتوقع حصوله في سوريا المستقبلية المحمّلة بأعباء مادية كبيرة.
كما يتوقع تعرّض هؤلاء الأشخاص للعنف، بالإضافة إلى الاحتمالية المرتفعة لتعرّضهم للتمييز السلبي في المجتمع، وخاصة في ظل غياب المرافق الصديقة للمعوقين، وضعف ثقافة التعامل مع المعوّقين في المجتمع.
سوريا: أي مستقبل؟
سترزح أيّة حكومة مقبلة في سوريا تحت أعباء مادية ضخمة، تبدأ من تكاليف إعادة الإعمار، ولن تنتهي بطلبات التعويض للضحايا والمعتقلين والمفقودين، وذلك بالتوازي مع أزمات سياسية واجتماعية ناتجة من مخلفات سنوات الأزمة التي لا يُعرف إلى اليوم متى ستنتهي وكيف.
ولن يكون بإمكان الموارد المحلية، الاقتصادية منها والبشرية، تلبية الاحتياجات الضخمة وغير الاعتيادية على كل الصُعد، وبالتالي فإنّها بحاجة إلى خطّة مارشال دولية تُساعدها على العودة إلى مسار التنمية، وإن ببطء.
عدا أن الاحتياجات المستقبلية تتطلّب تغيّراً حالياً في سياسات المؤسسات المانحة، الدولية والمحلية، للانتقال من تلبية الاحتياجات الآنية، من الغذاء والدواء والمساعدات غير الغذائية، إلى المساعدات الإنمائية التي تُشجّع المستهدفين على الدخول إلى سوق العمل، بدلاً من الاعتياد على ثقافة تلقّي المساعدات، ودعم المشاريع الإنمائية الصغيرة داخل سوريا وخارجها لتوفير فرص عمل للشباب، ودعم مشاريع التعليم على وجه الخصوص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...