تندر مشاهد تعذيب سجناء الرأي والسياسة أو حتى السجناء العاديين في الأفلام العربية. هذه القلّة تبرّرها حجج وأسباب عديدة يمكننا تلخيصها بمسألة ممارسة السلطات للرقابة في معظم الدول العربية. فقد طال مقصّ الرقابة سيناريوهات ومشاهد في أفلام سينمائية تتحدث عن قمع سجناء سياسيين أو ضحايا اعتقال تعسّفي وتعذيبهم والتنكيل بهم، وذلك لكونها تشكّل وسيلة نقد فاعلة تنقل الواقع إلى الشاشة الكبرى.
"الفن أقوى من الموت والروح أقوى من الريح"، كتب الشاعر أيمن العتوم. كما الشعر والأدب، يُقلق فنّ السينما السلطة. فهو يمتلك القدرة على أن يحضر إلى وعينا، بواسطة المشاهد الدرامية، الممارسات الوحشية الشاذة لنكون شاهدين عليها بالصوت والصورة. ويمتلك القدرة على أن يستحضر أمام أعيننا مجهولين عوقبوا بسبب رأي سياسي حتى تشوهت معالم روحهم، ومعتقلين كُمّت أفواههم وحَطّمت كينونتهم سياط الجلادين حتى تلوّنت بدمائهم ودموعهم.
لهذا لاحقت الرقابة مستقوية بصلاحيات واسعة، وأحياناً كثيرة غير منضبطة تحت سقف القانون، كل فيلم يمكن توظيفه في مقارعة السلطة السياسية الحاكمة وكشف زيف شعارات الديمقراطية التي تتلطّى وراءها.
مواضيع أخرى:
حوارات المعذَّبين والجلادين في السجون السورية
أبرز الأفلام العربية التي تناولت قضايا التعذيب
ومن هنا شاعت ممارسة الرقابة الذاتية التي يلجأ إليها جزء كبير من المخرجين العرب استباقياً، لعلمهم بأن أجهزة الرقابة تتربص بهم، ولتجنّب الدخول في متاهات حذف المشاهد أو منع العرض. فهناك سوابق علّمت المخرجين أن خوض معارك التحدّي والمواجهة ستكون خاسرة سلفاً، خاصةً في فترة السبعينيات الزاخرة بأمثلة اصطدم فيها عالم السينما بقيود الأنظمة الحاكمة.
هذه الرقابة المزدوجة (رقابة الدولة والرقابة الذاتية) قللت بشكل ملحوظ عدد الأفلام السياسية الصريحة في العالم العربي، والتي كانت ستتضمّن بطبيعة الحال مشاهد تعذيب لسجناء رأي وسياسة، على غرار الأفلام السياسة الغربية مثل أعمال المخرج اليوناني الفرنسي Costa-Gavras وأعمال المخرج الإيطالي Elio Petri وأيضاً أعمال هوليوودية لا تعد ولا تحصى تناولت ممارسات أجهزة الكي جي بي السوفياتي والسي آي إيه الأمريكي وغيرها من أجهزة الأمن والمخابرات.
السلطات العربية التي توالت على الحكم حتى الألفية الجديدة كانت متشابهة في الثقافة والممارسة، ومنعت نشوء أرضية خصبة لإنتاج سينمائي صدامي احتجاجي يحاسبها وينتقدها على غرار ما حدث في أمريكا اللاتينية (الأرجنتين وتشيلي مثلاً) بعد اسقاط الديكتاتوريات.
ولكن أخيراً، بدأت المنطقة العربية تشهد حركة "غلاسنوست" بطيئة تكرّس قواعد جديدة لإعلام حرّ وانفتاح وشفافية. فالتغيرات والإصلاحات السياسية في بعض الأنظمة العربية، بعد الانتفاضات الشعبية، جعلت باروميتر الأفلام التي تستعرض التعذيب بحق سجناء الرأي يرتفع بشكل ملحوظ. فقد أعلنت مهرجانات عدّة من بينها أيام قرطاج السينمائية في دورتها السابقة عن عدم عرضها فيلم "صراع" (إخراج المنصف بربوش) الذي أثار ضجة، بقرار واضح وصريح من وزارة الثقافة التونسية. وفي المقابل، أنتج في تونس فيلم وثائقي بعنوان "الحنظل" (إخراج محمود الجمني) هدف إلى محاسبة الانتهاكات في سجون نظامي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
برغم كل ذلك، شذّت بعض الأفلام السياسية والتاريخية عن قاعدة المنع، وتمّ تصوير وعرض بعض المشاهد التي تتحدث عن تعذيب سجناء وذلك للأسباب التالية:
- الأفلام السياسية في عهد الرئيس الراحل أنور السادات انتقدت بشكل صريح عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وبرغم قسوة مشاهد التعذيب التي تضمنتها، لم تعترض الرقابة عليها، بل بالعكس كانت السلطة السياسة آنذاك تحبّذ هذه الأعمال وشجعت المواطنين على مشاهدتها كجزء من تصفية حسابات بين العهد الجديد والمرحلة الناصرية. وأهم تلك الأفلام "الكرنك"، و"وراء الشمس"، و"إحنا بتوع الأوتوبيس".
- في فترة حكم الرئيس حسني مبارك، وافقت الرقابة على مشاهد التعذيب في بعض الأفلام ولكن بشرط عدم التعرض بشكل مباشر للسلطة السياسية، وحصر هذه الممارسات في إطار فردي، أي تصويرها على أنها صادرة عن ضباط وأفراد أمن تصرفوا على هواهم. هذه المشاهد نراها في أفلام مثل "البريء" و"عمارة يعقوبيان" و"اللعب مع الكبار".
- سمحت السلطات بإنتاج الأفلام التاريخية وبالأخص الأفلام التي تستعيد بدايات الدعوة الإسلامية والتي تبرز مدى بطش أهالي قريش وتعذيبهم للمسلمين الأوائل قبل الهجرة إلى المدينة المنورة. من هذه الأفلام "هجرة الرسول" و"الرسالة".
- وظهرت أفلام تتحدث عن الصراع العربي الإسرائيلي وصوّرت ممارسات ضباط وعناصر الجيش الإسرائيلي أو الموساد بحق السجناء العرب من عسكريين ومقاومين ومدنيين. وهنا يبرز على وجه التحديد الإنتاج الفلسطيني وإن كان شحيحاً بسبب ضعف الإمكانات المادية والعراقيل العديدة التي تبرز أثناء تصوير الأعمال السينمائية داخل الأراضي الفلسطينية، لكنه يبقى الأقرب إلى الواقع من ناحية مقاربة موضوع التعذيب الذي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني. ولعل أبرز هذه الأفلام فيلم "عمر" للمخرج هاني أبو أسعد الذي رُشّح لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي لعام 2014 وحاز جائزة Un Certain Regard في مهرجان كان عام 2013.
في المقلب الآخر، برزت أعمال سينمائية عدّة في السنوات العشر الأخيرة اعتمدت على الكوميديا لوصف الحالة السياسية والصراعات والحروب التي قامت وما زالت مستمرة في منطقة الشرق الأوسط. أبرز هذه الأفلام "معلش احنا بنتبهدل" (إخراج شريف مندور، 2005). في أحد مشاهد الفيلم، في مركز النيابة العامة، يثرثر القرموطي (أحمد آدم) وهو يمشي وراء الضابط (أحمد راتب) جاهداً لإقناعه بإطلاق سراحه ثم يقول له ظاناً أنها الطريقة المثلى لتجنّب "التأديب" الجسدي: "أنا عايز أتعامل معاملة مسجون سياسي"، ثم ينظر إلى يساره فيجد غرفة فيها عسكري يضرب سجيناً مقيّداً فيجفل ويسأل: "مين ده؟" فيجيبه الضابط: "ده مسجون سياسي". يشحب وجه القرموطي ويردف قائلاً بهلع: "حضرتك أنا عايز أتعامل معاملة حرامي غسيل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...