هل فكرت يوماً ما هي اللغة؟ وما الذي تعنيه بالنسبة لك ولكل بني البشر؟ يقول المفكر وعالم اللغويات الأمريكي نعوم تشومسكي Noam Chomsky إن أكثر الناس يُعرِّفون اللغةَ بأنها وسيلة للتواصل بين البشر وأنها تطورت وتفرعت إلى آلاف اللغات لتؤدي تلك الوظيفة الأساسية، لكن هذا مجرد خطأ شائع.
صحيح أننا استخدمنا اللغة في التواصل بعضنا مع بعض، وهي بلا شك فائدة عظيمة لكنها ليست ما يميز اللغة ولا ما يمكن أن يصفها وصفاً علمياً دقيقاً. فاللغات بالأساس، طبقاً لتشومسكي، وسيلة للتعبير عن الأفكار ولخلق الأفكار أيضاً. أي أن استخدامنا للغة بعينها (كالعربية مثلاً) يؤثر على الطريقة التي نبني بها أفكارنا، وينعكس ذلك على واقعنا بشكل مادي ملموس ومباشر.
تشرح أستاذة اللغويات في جامعة كاليفورنيا ليرا بوروديتسكي Lera Boroditsky الاختلاف الذي يمكن أن يحدث في أساليب التفكير من شخص لآخر بسبب اللغة الأم التي يتحدث بها، منبهةً إلى أن في العالم اليوم زهاء سبعة آلاف لغة، وأن كلاً منها تعكس طريقة مختلفة في التفكير ورؤية الأشياء.
وتضرب مثلاً فتقول إن أغلب اللغات الحيّة تحدد اتجاهات الحركة بإيجاد علاقة بينها وبين الجسم البشري فتقول مثلاً لشخص يسألك عن أقرب مستشفى "تجده على اليمين بعد قليل". أنت تقصد هنا أن المستشفى هو إلى ناحية ذراع ذلك الشخص اليمنى. لكن هناك لغات أخرى مثل لغة السكان الأصليين لأستراليا تحدد الاتجاهات في كل شيء، كبيراً كان أو صغيراً، بالجهات الجغرافية الأصلية الأربعة. فيقول أحدهم مثلاً: "انتبه هناك نملة تمشي على ساقك الجنوبية". ولأن ذلك الشعب يتكلم بهذه الطريقة، فإن جميع أفراده حتى الأطفال يكونون على وعي تام بالطرق والإتجاهات دون بذل أي مجهود، بينما لو جربت أنت أن تسأل شخصاً حولك عن الشمال الشرقي فسوف يحتاج في الأغلب إلى بوصلة لتحديد ذلك.
لكن هذا المثل، وإن كان يوضح الفكرة، قد يبدو بعيداً في أثره عن الحياة العملية. فلنلق إذن نظرة على ورقة بحثية رائعة قدّمها الأمريكي كيث تشين Keith Chen عام 2013 في جامعة ييل الأمريكية وأثبت فيها كيف أن اللغة التي نتحدث بها تُحدث الفرق ليس على مستوى السلوك الشخصي فحسب، ولكن أيضاً على مستوى الاقتصاد بالنسبة للدول.
مواضيع أخرى:
علمياً، السفر عبر الزمن ممكن
ما يقوله العلم: الإنسان مسيّر أم مخيّر؟
يُفرّق تشين في بداية بحثه بين نوعين من اللغات: الأولى هي اللغات المستقبلية، أي اللغات التي يفرّق أصحابها في حديثهم عادة بين الحاضر والمستقبل، فيُقال: "سوف أزور والدتي غداً"، ومن هذه اللغات العربية والإنغليزية واليونانية والإيطالية والروسية. أما النوع الثاني فهو اللغات غير المستقبلية، وهي التي يتكلم متحدثوها عن المستقبل عادة بصيغة الحاضر نفسها، ومنها الألمانية والفنلندية والصينية. فنقول مثلاً: "أزور والدتي غداً".
هذا الفرق الضئيل في طريقة تركيب الجملة بين لغة وأخرى يتسبب بتباينات ملحوظة في أساليب الحياة بين الأشخاص والعائلات. وحسب الدراسة، فإن نسبة ما يدّخره الأشخاص من الأموال التي يكسبونها سنوياً في البلاد التي تتحدث لغات لا مستقبلية كان أكبر بشكل ملحوظ بالمقارنة مع البلاد التي تتحدث لغات مستقبلية، وكان هذا مؤثراً في الاقتصاد الكلي للبلاد. وبيّن أن العائلات التي تتشابه في جميع الظروف تقريباً وتعيش في البلدان نفسها تميل إلى الادخار بنسبة 30% أكثر إذا كانت تتحدث لغة لا مستقبلية.
والسر في ذلك، كما يعتقد تشين، أنك إذا كنت تتحدث عن المستقبل طوال الوقت بصيغة الحاضر فسوف يجعلك ذلك واعياً بوجوده مثل الحاضر تماماً، وبالتالي فإنك سوف تفكر فيه أكثر من الشخص الذي يفرق لغوياً بين الحاضر والمستقبل. فلدى الأخير، تنعكس هذه التفرقة على تفكيره وسلوكه، ويصعب عليه أن يتمثل المستقبل في ذهنه كما يعي الحاضر، وبالتالي يجد صعوبة في أن يختار التنازل عن بعض رفاهيته الشخصية في الوقت الحاضر ليدخر وينفق في مستقبل ليس له حضور قوي في ذهنه أصلاً.
ولم تقف أبحاث تشين عند الاقتصاد فقط، بل نجح في إيجاد صلة بين هذين النمطين من التفكير الناجمين عن طبيعة اللغة، وبين العادات الصحية. ومرة أخرى كانت النتائج تشير إلى صحة الفرضية وتؤكدها: فنجد أن ميل أصحاب اللغات غير المستقبلية إلى ممارسة الرياضة والحفاظ على لياقة بدنية جيدة أعلى بشكل ملحوظ من أصحاب اللغات المستقبلية. ويمكن تفسير هذا إذا نظرنا إلى التدريبات الرياضية التي تتطلبها اللياقة البدنية على أنها مشقة "في الحاضر" من أجل وضع أفضل "في المستقبل".
وأخيراً نجحت فرضية تشين مرة أخرى في التنبؤ بنسب المدخنين في هاتين المجموعتين من الدول. فكانت أقل بنسبة ضخمة تصل إلى 24% عند أصحاب اللغات اللامستقبلية. والعلاقة كما يشرحها كيث تشين تنطلق من أن التدخين هو حصول على متعة في الحاضر مقابل ألم في المستقبل، أي أنه عكس فكرة الادخار تماماً.
ولدينا ملاحظة أخيرة لم تذكرها الدراسة، إلا أنها واضحة في كل الإحصاءات التي اعتمدتها وهي أن الدول الأكثر إبهاراً للعالم وقدرة على تحقيق معجزات اقتصادية في القرن الماضي هي دول تتكلم شعوبها لغات غير مستقبلية. ويبدو أنه بعكس اسمها، سوف يكون المستقبل أفضل بالنسبة لأهلها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...