شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
هل يوجد الكون من دون الإنسان؟

هل يوجد الكون من دون الإنسان؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 2 يونيو 201703:38 ص

إنسان أيا إنسان ما أجهلك/ ما أتفهك في الكون وما أضألك/ شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم/ وفاكرها يا موهوم مخلوقة لك/ عجبي! هكذا كتب شاعر العامية المصري الأشهر صلاح جاهين ساخراً من تصور الإنسان لأهمية دوره في الكون. ولكن يبدو أن جاهين على روعة شعره لم يكن على صواب تام في رؤيته للدور البشري في هذا الكون. فالعلم يتساءل عن دورنا في "صياغة" العالم من حولنا.

أكيد أن الكون عظيم الاتساع وأن حجم كوكبنا بالنسبة إليه هو مثل حبة رمل في صحراء شاسعة ما يجعل الإنسان كائناً ضئيلاً يعيش على سطح كوكب "مجهري" بمقياس الكون العملاق. ولكن قبل أن يكتب صلاح جاهين السطور المذكورة أعلاه  بعشرات السنين، كان العلم قد بدأ يتساءل عن دورنا في "صياغة" العالم من حولنا، وهل يساهم الوعي البشري في "وجود الكون"؟ ثم تطور السؤال ليصبح: هل يوجد هذا الكون إن لم نوجد نحن؟ أم أنه مخلوق لنا. هذا السؤال ليس فلسفياً ولا دينياً. إنه سؤال يطرحه علماء الفيزياء في كل العالم، ويبدو أن أحدهم قد وجد الإجابة.

بدأت القصة منذ ثلاثة قرون تقريباً، عندما اكتشف اسحق نيوتن (1642 – 1726) أن الضوء مكون من جسيمات متناهية الصغر، وأصبح هذا التصور المبني على العلم التجريبي نظرية ثابتة لا شك فيها لسنوات عديدة إلى أن جاء العالم الإنجليزي توماس يونغ (Thomas Young (1773- 1829 وقال إن الضوء يسري في الطبيعة على شكل موجات.  لكن نظريته قوبلت في ذلك الوقت برفض شديد لما كانت قد اكتسبته أفكار نيوتن من تكريس علمي.

واضطر يونغ إلى الانتظار حتى قبل وفاته باثني عشر عاماً ليرى انتصار نظريته عندما أقرت أكاديمية العلوم الفرنسية بالطبيعة الموجية للضوء رغم معارضة أغلب أعضائها في البداية، إلا أن التجارب رجحت كفة يونغ في نهاية الأمر. فترى من منهما كان على حق؟ الحقيقة كما يخبرنا بها العلم الحديث أن كليهما كان محقاً.

ليس الضوء مجرد جسيمات ولا موجات، بل هو الاثنتان معاً! هو في لحظة ما موجات وفي لحظة أخرى جسيمات. إلى هنا ليس الأمر شديد الغرابة، وربما يراه البعض عادياً. ولكن هل يظل الرأي هكذا إذا عرفنا أن الضوء يغير من طبيعته الموجية و"يتجلى" كجسيمات عندما نكون "نحن" هناك. فقط عندما يراقب أحدهم الضوء أو حين يتم قياسه أو تصويره بواسطتنا، يتحول فوراً كل جزيء ضوء (فوتون) من موجة إلى جُسيم. وكأن موجات الضوء قد عرفت أن هناك من يراقبها فغيرت من طبيعتها الفيزيائية.

يبدو الأمر عصياً على التصديق. أليس كذلك؟ بل إن الأدهى والأكثر غموضاً هو أن ما ينطبق على فوتونات الضوء ينطبق على الإلكترونات الموجودة في جميع المواد كما أثبت كلاوس يونسن Claus Jönsson في تجارب أجراها، عام 1961، في جامعة توبنجن Tübingen الألمانية.

وربما أول سؤال قد يتبادر إلى الذهن هو كيف استطاع العلماء رصد هذه الظاهرة العجيبة إن كانت المادة تتصرف كموجات فقط في لحظة "الغياب" التام للعنصر البشري المراقب؟ الإجابة أتت عن طريق واحدة من أشهر تجارب الفيزياء الحديثة هي تجربة الشَق المزدوج Double Slit Experiment.

في هذا الفيديو (باللغة الإنكليزية) شرح مفصّل وتبسيطي للتجربة.

هذه التجربة ترتكز في الحقيقة على تجارب توماس يونغ الأولية ولكنها طُوّرت بفضل التكنولوجيا، إذ جرى استخدام مدفع صغير لإرسال فوتونات ضوئية عبر شقين في لوح صلب، وخلف اللوح تم وضع فيلم حساس على الضوء (يشبه ما كان يستخدم في الكاميرا سابقاً) حتى يتمكن العلماء من معرفة موقع سقوط الفوتونات بدقة. والنتيجة: إذا جرى وضع كاميرا أو أية وسيلة أخرى للرصد أو القياس، كانت فوتونات الضوء تسقط على الفيلم كجسيمات وتترك كل منها أثراً لنقطة على اللوح. لكن في حالة غياب أي عملية رصد، كانت الفوتونات تترك على الفيلم أثراً يشبه الأمواج تماماً.

ولحسم المسألة على نحو شبه تام، قرر العلماء إرسال فوتون واحد فقط بعد الآخر من المدفع لتلافي احتمال تداخل أو تأثير متبادل بين الفوتونات. لكن النتيجة لم تتأثر: عند المراقبة تتصرف المادة مثل جسيمات وفي غيابها مثل موجات. ولكن ماذا يعني هذا؟

يعني ببساطة أن كل فوتون على حدة تصرف كموجة في لحظة مروره من الشقين، أي أنه مر في اللحظة نفسها من الشقين معاً، وهذا مستحيل رياضياً وفيزيائياً، لكنه حدث عملياً في تجارب استمرت عشرات السنوات في مختلف مختبرات عدّة.

جون ويلر (John Wheeler (1911- 2008 أحد أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين يقول إن النتيجة العلمية لهذه التجارب تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الإنسان ليس مجرد مخلوق مهمل في هذا الكون، بل إن مجرد وجوده بدون أن يمارس أي فعل، يغير من طبيعة الكون كله. من هنا طرح السؤال الأخطر: ماذا لو لم نكن موجودين؟ هل كان الضوء سيتصرف كموجات فحسب؟ هل كانت المادة ستوجد في صورتها الموجية فحسب؟ أم أن الكون كله ربما كان موجوداً فقط لأننا موجودون؟

قرر ويلر تطبيق التجارب المخبرية نفسها على مقياس كوني عملاق، وصمم تجربة ذهنية تهدف إلى تحليل الضوء المقبل من نجم في أطراف الكون في رحلة طويلة جداً إلى كوكبنا، لكنه يصطدم في طريقه بمجرتين كبيرتين (تعملان عمل الثقبين في اللوح الصلب الموضوع أمام المدفع في المختبر). ووضعت ألواح عملاقة لاستقبال الفوتونات المهاجرة على نحو يحاكي التجربة تماماً.

وهنا تأتي المحطة الأكثر غرابة، فرغم الاختلاف الكبير في ظروف التجربتين فإن النتيجة واحدة. وتم إثباتها تجريبياً كما تصورها ويلر تماماً عام 1984 فيما سمي بتجربة الاختيار المتأخر Wheeler's delayed choice experiment.

يقول ويلر إن ما حدث هنا أمر خارج عن مفاهيم المنطق العادي، لأننا يجب أن نتذكر جيداً أن هذا الضوء الذي وصلنا من الطرف الآخر للكون لحظة التجربة، كان قد رحل عن نجمه ربما قبل ملايين السنوات ومر بالمجرتين كذلك منذ سنوات بعيدة. ويعني هذا أن رصدنا لوصول الضوء إلى الأرض غيّر من مسار وطريقة ترحاله في الفضاء في الزمن الماضي.

يبدو الأمر جنونياً بالطبع. لكن ويلر بعد سبعة عقود من العمل العلمي يقول إن تلك ببساطة هي الحقيقة كما نعرفها الآن: وجودنا علمياً يؤثر في هذا الكون، حاضره ومستقبله وماضيه كذلك، وأن الكون حتماً سيختلف لو اختفى الجنس البشري. بل يمكن أن نستنتج أن الوعي البشري، إذا كان قادراً على أعادة تشكيل الحقائق الفيزيائية في هذا الكون، فربما كان غيابه يعني غياب الكون ذاته.

يقول جون ويلر إن أقصى ما يمكننا قوله الآن هو إن هذا الكون "يبدو" كما لو كان موجوداً قبل وجودنا بعشرة مليارات سنة. أما إن كان موجوداً بالقطع قبل أن نَعِيَه أم لا، فهذا ما لا يمكن الجزم به.

نشر الموضوع على الموقع في 09.02.2015


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image