في هذا المقال الذي كتبه الأكاديمي الإسرائيلي يوني مندل في موقع "مركز مولاد لتحديث الديمقراطية" بعنوان "العربية في إسرائيل: لغة الربط والفصل" يسرد لنا الكاتب وضع اللغة العربية في إسرائيل اليوم، وكيف نجحت الدولة في أن تنزع عن العربية مكانتها، كلغة تحدث بها اليهود بجانب العرب سابقاً، وتفصلها عن كل ما هو ثقافي وتربطها بما هو أمني واستخباراتي، ومن ثم تحولها إلى لغة العدو.
كان هناك شيء ما محزن ومفرح في آن واحد في عيني حسن أبو زايد، مراسل "صوت إسرائيل" بالعربية. "ما اسمه"، سألني باهتمام ناظراً إلى المتحدث الذي كان يقف على المنصة ويلقي كلماته بالعربية. "آساف دافيد"، قلت، "باحث في الجامعة العبرية". لم يصدق أبو زايد. "ماذا؟" سأل، "هل هو يهودي؟ والله فكرته ابن عرب". "لا بد أن أجري معه حواراً"، قال، "هل بإمكانك أن تأتي به إليّ الآن؟".
نظرت إلى أبو زايد، وإلى آساف الذي أنهى لتوه محاضرته وأخلى مكانه للمتحدث التالي. "هذا مؤتمر"، قلت له، محاولاً الهمس، "ليس جيداً أن يخرجوه في المنتصف، استوقفه للحوار حالما ينتهي"، وافق أبو زايد. على وجهه بقيت ملامح واضحة من الذهول، ابتسامة مخلوطة بالدهشة، كأنه سأل نفسه، كيف يمكن لهذا أن يحدث بحق الجحيم؟
في طريقي للبيت عائداً من جامعة بن جوريون في بئر سبع، من أول مؤتمر يقام هناك باللغة العربية وأكون في عداد منظميه، فكرت أيضاً في كلمات أبو زايد. كان فيها شيء ما مفرح، بالأخص في كون اللغة العربية جعلته يرغب في إجراء حوار مع آساف وإسماع هذا الصوت اليهودي، بالعربية، في لقاء تليفزيوني.
ولكن على الناحية الأخرى، كان فيها أيضاً شيء ما يبعث على الحزن واليأس. دهشته من أن يهودياً يعيش في قلب الشرق الأوسط، وفي دولة لغتها الرسمية هي العربية أيضاً، وهاجرت عائلته إليها من دولة عربية أخرى، وكانت العربية تجري بين عائلته جيلاً وراء جيل، دهشته من أن يهودياً كهذا يمكنه الكلام بالعربية تشير ألف مرة إلى حجم الهوة بين اليهود والعرب في البلاد، في الشرق الأوسط وفي العالم كله، وإلى الهوة المفتوحة بين اليهود واللغة العربية.
انقلاب 1948
لا خلاف على أن العربية توقفت عن أن تكون لغة حية ومحكية بين اليهود في البلاد، وتوقفت عن أن تكون علامة هوية وثقافة لليهود، وأنها، في الواقع، قد تحولت للغة العدو المقيم في البلاد فحسب، ولكل شيء باستثناء أن تكون اللغة التي تربطنا بالمنطقة. أصبحت هي الحد الفاصل بين اليهود وغير اليهود، لغة يُنظر إليها كنقيضة للغة العبرية ونقيضة للثقافة العبرية. حقيقة أن يهودياً يتحدث العربية في إسرائيل - ويفعل هذا ليس للتجسس على العرب ولا للتحقيق معهم ولا لتحليلهم، وهي مهارات عسكرية أساساً ويُنظر إليها بوصفها شيئاً طبيعياً - حقيقة أن يهودياً يتحدث العربية في إسرائيل تعد شيئاً يتجاوز حدود الخيال قليلاً، ولا يمكن اعتباره ممكناً أصلاً. هذه الحقيقة تشهد على الهوة المفتوحة بين التجمعين السكانيين في البلد، اليهودي والعربي، وبين اليهود واللغة العربية.
أنهى قيام إسرائيل عام 1948 الحيز الشرق أوسطي الذي عاش فيه اليهود في البلاد. وبدون أن نحول هذا لأمر رومانسي أكثر من اللازم - فمنذ الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي تشكلت في هذا الحيز علاقة عداء بين اليهود والعرب لا علاقات إيجابية - ولكن يمكن القول إنه حينذاك أيضاً، وبالتأكيد قبلها، لم يكن بمقدور اليهود الذين عاشوا في البلد أن يتجاهلوا، وهم غالباً لم يرغبوا في أن يتجاهلوا، حقيقة أن الحيز الذي يعيشون فيه هو عربي في أغلبه. في المقابل، فمع الصراع السياسي الذي اندلع في البلد، ضاق هذا الحيز أكثر فأكثر، وفي هذا الإطار زاد التمييز بين اليهود والعرب، وبين العمل العبري والعمل العربي، وبين اللغة العبرية واللغة العربية.
في عام 1948، بعد إقامة إسرائيل، وُجد لأول مرة حيز في الشرق الأوسط كان اليهود فيه أغلبية والعرب أقلية، لم تكن العربية لغة الأغلبية ولا نُظر إليها هكذا، ولا حتى لغة المنطقة أو اللغة المحكية للحيز، ولا حتى لغة من المفيد معرفتها من أجل الانتماء للحيز. أصبحت إسرائيل جزيرة في قلب الشرق الأوسط. صحيح أنها كتبت على الورق "يد للسلام والجيرة الطيبة لكل الدول المجاورة وشعوبها"، ودعت الدول العربية "للشراكة وتبادل المساعدة مع الشعب العبري المستقل في أرضه"، ولكنها على أرض الواقع فعلت كل شيء، سياسياً، اجتماعياً، وفي بناء الخطاب الذي يعرّفها، من أجل الابتعاد عن المنطقة وثقافتها والشعوب التي تعيش فيها واللغة السائدة التي ميزتها وسكانها حتى ذلك الحين - مسلمين، مسيحيين ويهوداً على السواء - اللغة العربية.
ليتعلم العرب العبرية، ونحن نتعلم الرياضة
طرفة تعود إلى عام 1949، عندما اجتمع أعضاء "لجنة الساعات" في وزارة التعليم لتحديد عدد ساعات التعليم المخصصة لكل مادة في المدرسة العبرية، يمكنها أن تدلنا على الوضع الجديد للعربية بين اليهود. وقتذاك، استمراراً لطرد مئات الآلاف من الفلسطينيين ومغادرتهم خوفاً، وبعد أن قامت الدولة وأصبح اليهود فيها هم الأغلبية، ولم يُسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إليها، ناقش أعضاء اللجنة موقع اللغة العربية داخل المدرسة العبرية في الواقع الجديد المتشكل لتوه.
موشيه دفنا، الذي مثل موقف التيار الرسمي في وزارة التعليم كان شديد الصرامة في رأيه. وفقاً له، فداخل الحيز الجديد الذي عاش فيه اليهود كأغلبية، لم تعد هناك حاجة للاهتمام بلغة الإقليم وبلغة العرب من مواطني إسرائيل، الذين تحولوا بين ليلة وضحاها لأقلية. قال دفنا: "لو أردنا الاهتمام بجيرتنا مع شعوب العرب، فأحسن لنا أن نخلص للتعليم الجسدي والتمرينات، فدائماً سيكون عددنا أقل من البلدان العربية في محيطنا". لمّح دفنا في كلماته للعلاقات الجديدة التي تحددت بين اليهود والعرب في الشرق الأوسط، وفي إطارها فالتأكيد على خلق جيل من التلاميذ الذين يمثلون اليهودي القوي، ذي العضلات، الرادع والمخيف، سيكون أفضل من جيل من اليهود متحدثي العربية الذين سيسارعون إلى التفاهم والنقاش والحوار، وأصلاً الاندماج - أو محاولة الاندماج - في المنطقة. وأضاف دفنا: "لو كان الحال هكذا، فأنا أقترح أن يتكيفوا هم، العرب، معنا ويتعلموا العبرية".
شرح دفنا كيف أنه في الواقع الجديد أصبحت العربية لغة غير عملية بالنسبة ليهود البلد، ولهذا فلم يكن ثمة رغبة حقيقية في تعلمها، ولكن كان أيضاً على الدراسات العربية أن تُدفع للهامش، وربما عندئذ، وفق كلامه: "سننجح في التخلص نهائياً من الشعور بالدونية الذي خبرناه في المنفى".
لغة أجنبية ثانية
هكذا، تبلورت العلاقة الإسرائيلية باللغة العربية. وفق هذا المنهج، فالعربية هي لغة الضعفاء. هي لغة المنفى، أو بشكل أكثر صرامة، هي لغة الأجنبي، اللغة التي لا يكفي محوها، وإنما يجب محو العلاقة بينها وبين اليهود، وكذلك محو قدرتها على الربط بين اليهود والعرب.
استمراراً لكلام دفنا، واستمراراً لنقاشات اللجنة، اتُخذ قرار بأن تُدرس العربية في البلاد كلغة أجنبية ثانية. لغة أجنبية ثانية، تعبير أشعر دائماً بالرغبة في تكراره، لأجل التأكيد أنه في المنظومة التعليمية المقامة في قلب الشرق الأوسط العربي، في المكان الذي تعد فيه لغة المنطقة هي العربية، واللغة الأولى لسكانه الأصليين هي العربية، ولغة الأصل الثقافي لقطاع كبير من يهوده هي العربية، فهذه المنظومة التعليمية اختارت التعامل مع العربية فقط كلغة أجنبية، وأكدت على ثانويتها في قرارها أن تكون العربية "لغة أجنبية ثانية".
"أجنبية" اللغة العربية، الرغبة في أن تكون الدولة غير عربية، تنظر غرباً، للعالم لا للشرق، هي الواقعة في قلب قلب الشرق، خلقت مفارقة خضعت لها العربية في المجتمع اليهودي/ الإسرائيلي الحديث. تشكلت العربية كلغة تدرس طوال سنوات من خلال الرغبة في الفصل، وليس الرغبة في الربط. لغة تشجع المؤسسة استخدامها كلغة ثقافة، مجتمع ولقاءات، ما دام هذا يحدث في إطار منهج الإرشاد لقسم المستعربين في جهاز الشاباك الأمني. لغة لم يكن هناك من يريدها في وزارة التعليم ودُفعت للهامش لأن تعلمها أمر غير عملي. لغة يدين "بقاؤها" كموضوع دراسي في المدارس حتى اليوم لـ"منقذيها" في الخمسينيات – رجال المؤسسة العسكرية، والمناهج الاستشراقية، وسلاح الاستخبارات ومكتب رئيس الوزراء.
مقالات أخرى
من الصحافة العبرية: تعلمنا جيداً كيف نصف الاحتلال لا مقاومته
كيف ساعدت إسرائيل جيش الإمام في حرب اليمن في الستينات؟
صحيح أن اللغة العربية نجت من الإبادة في وزارة التعليم الإسرائيلية بفضل المبرر السياسي/ الأمني لتعلمها، وبفضل اللوبي السياسي/ الأمني الذي أرادها وأحس بنقص عدد متحدثيها، ولكنها في الطريق توقفت عن أن تكون لغة. تبلورت كلغة ذات علاقة قوية بسلاح الاستخبارات والخطاب الأمني الإسرائيلي، وعلى المتحدثين بها أن يمشوا في دوريات عسكرية بين اليهود والعرب، ولكن بالتأكيد ليس عليها أن تندمج وتصبح جزءاً من الحيز.
مكانها في إسرائيل كلغة ذات رصيد ثقافي، مرتبط أيضاً بالبحث والدراسة والأدب والثقافة والمسرح والأكاديميا أو العلم، مكانها هذا أخذ يضعف حتى أوشك أن يختفي تماماً. اختفى لدرجة أن الفلسطينيين في البلد يشعرون بالخوف عندما يلتقون يهوداً يتحدثون العربية، وخاصة إذا كانوا شباباً، فبالنسبة لهم، اليهودي متحدث العربية هو بالأساس مشتبه فيه كرجل استخبارات، إن لم يثبت غير ذلك.
اللغة العربية نُسيت وأُنسيت في إسرائيل، في المجتمع اليهودي، كلغة حية ومستقلة، تتكلم وتتنفس وتحاضر وتكتب مقالات، كما فعل آساف. كذلك في المجتمع العربي في البلاد، وبالتأكيد خارج البلاد، يصعب تخيل الواقع الآخر، الذي يتفاخر فيه اليهود بلغتهم العربية، يتشاركون مع العرب المعرفة والاهتمام باللغة، ويرغبون على نحو طبيعي وبدون حضور الشيطان الأمني أن يتحدثوا بها، ويتعلموها، ويتعاملوا معها كجزء من كيانهم، ومن هويتهم كيهود وسكان في المنطقة. حتى نصبح ذات يوم جزءاً من المكان الذي نعيش فيه، فعلى العربية أن تعود لتأخذ مكانها من الاحترام في المشهد اللغوي لسكان البلد. أما الآن، سواء من جانب اليهود أو العرب، وحتى في إذاعة "صوت إسرائيل" بالعربية، يصعب تخيل حدوث هذا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ 3 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ اسبوعينتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه