منذ استقلال البلاد سنة 1956، ظلّ ملف الثروات الطبيعية في تونس أحد أهم الألغاز التي لم تسمح الأنظمة المتتالية بالخوض فيه أو حتى مجرد مناقشته. ولبثت الأجهزة الدعائية الرسمية تروّج لفقر تونس من الثروات الطبيعية وأن الثروة الوحيدة هي القدرات البشرية وكفاءة المواطن.
ولكن، بعد ثورة 14 يناير، وسقوط جدار الخوف والحجب والقمع، بدأت مختلف مكونات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، وإن بدرجة أقل، تلحّ على اعتماد الشفافية في تناول هذه المسألة والكشف عن حقيقة الثروات الطبيعية لتونس وكيفية تصرف الدولة فيها طوال هذه العقود.
الإدارة الغامضة للموارد الطبيعيّة في تونس
خلال الأشهر الأخيرة، تحولت مسألة الثروات الطبيعية إلى واحد من أهم المواضيع التي حظيت باهتمام الرأي العام. وأثناء تتالي انكشاف الأسرار والفضائح حول ما تعرض له الشعب من تغييب وتلاعب، بدأت الحقائق التي تناولتها بعض وسائل الإعلام والجمعيات والخبراء في استنهاض الوعي الجماعي لشعب غرق في المشاكل الاقتصادية والاجتماعيّة. وقد تمحورت النقاشات حول ثلاثة محاور هي قطاع النفط والغاز، والملح، ولغز منجم سراورتان الفوسفاط.
برغم ضعف القدرة الإنتاجية النفطية لتونس، فإن المسألة كانت تتعلق بالأساس في كيفية إدارة تلك الموارد. فحتّى وإن كانت إرادات النفط والغاز ضعيفة، تبقى ملكاً للشعب التونسي وثروة وطنية يجب أن تخضع للمراقبة والتقسيم العادل.
تعود مشكلة هذا القطاع إلى التساهل المدهش والغريب في إسناد تراخيص التنقيب والاستغلال وانعدام الرقابة على أنشطة تلك الشركات ومدى تقدّم عمليات التنقيب أو العائدات الحقيقية للاستغلال. فقد كشفت وثيقة نشرتها شركة النفط Candax في مايو 2013 والحاصلة على امتياز استغلال حقل “ربّانة"، عن انتهاك خطير في حقل "مزران 1" المجاور الذي تمّ حفره بين 15 أكتوبر 2003 و5 ديسمبر 2003، إذ تؤكّد الوثيقة أن هذا الحقل قد دخل فعلاً مرحلة الاستغلال، وأن ما ينتجه تخزّنه شركة HBSفي خزان نفط في جرجيس، مع العلم أن هذه الشركة لم تحصل إلا على رخصة تنقيب لا غير.
أمّا على مستوى الغاز، فأثناء تنظيم الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة بالاشتراك مع وزارة الصناعة والطاقة والمناجم في 23 أبريل 2014، طاولة مستديرة حول الطاقة كامتداد للحوار الوطني في شأن هذا القطاع، شكّك عدد من المشاركين في الأرقام التي قدّمتها الحكومة، معبّرين عن استحالة شرح أو تبرير الزيادة الكبيرة في ميزانية دعم الطاقة في مثل هذا الوقت القصير. وقد أبدى آخرون عدم رضاهم إزاء ارتفاع أسعار الكهرباء الموردة من قبل الشركة التونسية للكهرباء والغاز، والتي ترجع إلى سوء إدارة المؤسسات العموميّة العاملة في مجال الطاقة.
حثّ البعضُ السلطات على التحقّق من صحة الأرقام التي تقدّمها منذ شهور، خصوصاً بعد نشر دائرة المحاسبات في ديسمبر 2012 تقريراً عن سوء الإدارة في قطاع الطاقة. هذه المرة تضمّنت الوثيقة المنشورة على الموقع الرسمي لدائرة المحاسبات أكثر من 40 صفحة. وقد مكّنت عمليات المراقبة التي تقوم بها الدائرة من تحديد العديد من أوجه القصور في قطاع الغاز، والتي تمثّلت في الإدارة الارتجاليّة للموارد الطبيعية ووجود مافيا تستفيد من موارد الطاقة على حساب المصلحة العامة.
أظهرت التحقيقات التي أجرتها لجنة التحقيق الوطنية حول الفساد والاختلاس، استناداً إلى وثائق عُثر عليها في مكتب رئيس الجمهورية المخلوع بن علي، وجود شبكة من المتورطين في ممارسات مشبوهة في علاقة بالمؤسسات العموميّة التي تعمل في قطاع الطاقة، وهذا بالتواطؤ مع مقيمين في الخارج.
اللغز الثاني الذي لم ينكشف إلا بعد 14 يناير، تمثّل في قطاع إنتاج الملح الغذائي. بعد بضع ساعات من المصادقة على الدستور الجديد، وإزاء الضغط الشعبي والسياسي الرامي إلى دفع الحكومة لمراجعة اتفاقات وعقود استغلال الموارد الطبيعية من قبل الشركات الأجنبية في إشارة واضحة إلى مسالة استغلال الملح التونسي وملابسات استغلال شركة "كوتوزال" COTUSAL الفرنسيّة للملاحات التونسيّة، لم يكن أمام مهدي جمعة من خيار سوى إعلان أنّه بصدد مراجعة المسألة والتدقيق فيها.
يعد ملف “كوتيزال” من أقدم الملفات المتعلقة بالاستثمارات الفرنسية في تونس، إذ تمثّل هذه الشركة واحدة من ست شركات تستخرج الملح في البلاد. ولكنها كانت تحتكر القطاع إلى حين ظهور المنافس الأول في السوق سنة 1994. وقد شرعت هذه الشركة الناتجة عن اندماج أربع شركات تستغل ملاّحات هي: خنيس، سيدى سالم، صفاقس (طينة) ومقرين، بموجب مرسوم 6 أكتوبر 1949.
لم تكن تلك المشكلة الوحيدة لعقد استغلال الملاّحات في تونس من قبل شركة “كوتوزال”، إذ إن المادّة 11 من اتفاقيّة 1949 تُعدّ أكبر نقطة استفهام تحيط بنشاط الشركة في تونس. تنصّ المادة على “سداد حقوق استغلال الأملاك العامة بقيمة 1 فرنك للهكتار الواحد سنوياً لجميع المناطق التي تشملها رسوم الامتياز للمجال العام”.
وبرغم أنّ الاتفاق قد خضع للتعديل في ثلاث مناسبات آخرها 15 يونيو 1975، إلاّ أن التعديلات اقتصرت على مراجعة مساحة سطح امتياز الاستغلال، مرتين لمزيد من التوسع، ومرة لتقليصه دون أن تشمل مسالة العائدات الماليّة ونصيب الدولة فيها، إذ من غير المعقول أن تظل عائدات الاستغلال دون تعديل منذ نحو 60 سنة. ورغم تعهّد رئيس الحكومة الجديد بمراجعة تلك الاتفاقات والعقود، فإن الرأي العام فوجئ بإسناد امتياز استغلال "سبخة الغرة" للشركة العامة للملاحات التونسية كوتيزال. وهو يغطي مساحة تبلغ 11200 هكتار وتدوم صلاحيته
هذه الملفّات الكبرى التي تظلّ دون إجابات محدّدة من الحكومة، تطرح أكثر من تساؤل حول مدى جديّة هذه الأخيرة في معالجة الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد.
صرّحت السيدة فوزية باشا، أستاذة القانون المختصة في العقود النفطية، بأن حجم التحفظات التي أثبتها تقرير دائرة المحاسبات من خلال أعمال التدقيق على 7 رخص فقط من سنة 2005 إلى سنة 2010 بلغت 142 مليون دولار غير مستخلصة من الشركات الأجنبية العاملة في القطاع النفطي، فما معنى الجهود الحكومية للتدين والتسوّل من الدول الكبرى، في حين يكمن الحل في معالجة حقيقية للتجاوزات التي تضرب الاقتصاد التونسي نتيجة أخطاء وسياسات تراكمت على مدى عقود؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...