يسيطر فهمنا التقليدي لجغرافيا دول المشرق العربي على طريقة تحليلنا لما يجري فيها من أحداث قد تكون تأسيسية لجغرافيا جديدة تماماً لا أحد يعلم تفاصيلها النهائية بدقة، لأنها ستُرسم بالدماء. هذا الوعي التقليدي بالجغرافيا يمنعنا من فهم ما يجري حولنا ويدفع البعض إلى إطلاق مواقف سياسية أقل ما يُقال عنها أنها صارت تنتمي إلى الماضي.
المسألة ليست بسيطة بلا شك. وقراءة الأحداث السياسية بالارتباط مع جغرافيا جديدة لم تتشكّل بعد، هو أمر في غاية الصعوبة، خاصة حين يكون تحديد "المدى الحيوي" للجماعات الطائفية والقومية مدار صراع حاد يوقع يومياً آلاف الضحايا. الأمر المؤكد الوحيد هو أن المواقف المبنية على المعطيات الجغرافية الكلاسيكية، أي على حدود الدول الوطنية التي رسمها الانتدابان البريطاني والفرنسي، في بدايات القرن الماضي، باتت مواقف منفصمة عن الواقع المتحرّك.عصر الجغرافيا المتحرّكة افتتحته الجماعات الإسلامية المتشدّدة التي تتبنّى إيديولوجيات أممية إسلامية بدءاً من تنظيم القاعدة الذي رفض ربط نشاطه بأيّة حدود جغرافية ثم أنشأ لامركزيات عابرة للدول كـ"القاعدة في جزيرة العرب" التي تربط بين اليمن والسعودية. وعندما برز نجم تنظيم "الدولة الإسلامية"، كانت فكرة الجغرافيا القديمة قد صارت عملياً في خبر كان. لذلك لم يكلّف نفسه عناء تسويغ جغرافيا دولته التي أعلنها رغم أنها تكسر حدوداً ثابتة منذ حوالى مئة سنة. فبحسب وعيه لفكرة الحدود، صار هذا الكسر عادياً جداً.
ومن ناحية ثانية، وبشكل أساسي بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، لم تعد القوى السياسية والميليشيات الشيعية تبني سياساتها على أسس الجغرافيا التقليدية. وعندما بدأت الثورة السورية أخذ كسر التقاليد الجغرافية بعداً جديداً نوعياً، فصار عادياً أن تقاتل ميليشيا شيعية عراقية في العراق وسوريا، في الوقت نفسه، كما صار حزب الله اللبناني جزءاً ثابتاً من خارطة الانتشار العسكري على الأرض السورية.
لعلّ أول من تنبّه إلى هذه المتغيّرات كانت مراكز الأبحاث والقرار التي راحت ترسم خرائط جديدة للمنطقة. ولكن العرب لم يتفاعلوا، بشكل عام، مع هذا الأمر إلا من خلال مقولة المؤامرة الغربية التي تحاك ضد وحدتهم. علماً أن هذه الخرائط بنيت بشكل أساسي استناداً إلى حقيقة الصراع بين الجماعات القاطنة في هذه المنطقة واحتمالات الصراعات المستقبلية بينها.
ومما يزيد من تعقيدات الأمور أن الدول التي تبحث عن نفوذ في هذا المدى الجغرافي المتحرّك، راحت، منذ وقت طويل، تعقد تحالفات مع الجماعات المتصارعة لا مع الدول المركزية كما كان الحال في السابق. وهذه الجماعات لها وجهات نظر متضاربة حول مداها الحيوي أي حول الحد الأدنى للجغرافيا التي تضمن لها العيش بسلام.
وآخر المؤشرات حول هذه الحقيقة القديمة هو مشروع القرار الذي قدمته لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي، والذي يشرّع إمداد أكراد وسنّة العراق بالسلاح من دون المرور بسلطة بغداد المركزية. والمهم في القرار هو أن تخطي الحكومة المركزية مشروط برفض هذه الحكومة القيام بهذه المهمة بنفسها.
وهذا الشرط لافت جداً لأنه، إلى تأكيده مجدداً أن هيمنة جماعة على جماعات أخرى بحجة السلطة المركزية صارت فكرة تنتمي إلى الماضي، فهو يحدّد دوراً جديداً للسلطات المركزية في أيّة دولة إتحادية متنوّعة قومياً أو طائفياً، ألا وهو ضمانها بنفسها الشروط الموضوعية للامركزيتها. وهذا يعني أن استمرار الدول بحدودها الحالية قد يستمر، ولكنه سيكون مسألة شكلية تغلّف حقيقة تقاسم الجماعات المتصارعة للنفوذ والتوصّل إلى نوع من ترسيم حدود جديد لمناطق انتشار ونفوذ الجماعات، ترسيم ستحميه قوى عسكرية لامركزية.
كثيرون يقرّون بحقيقة هذه المتغيرات ولكن حين يحللون الأحداث الجزئية يتناسونها ويعودون إلى قواعد التحليل الكلاسيكية المبنية على فكرة الدول الوطنية بحدودها الدولية وبسلطتها المركزية. هكذا، بعد طرد الجيش السوري من إدلب وجسر الشغور، راح البعض يتحدث عن ولادة تحالف سياسي عسكري سيشكل نواة للنظام السوري المستقبلي وسيقاتل على جبهة النظام السوري الحالي وعلى جبهة ثانية تنظيم داعش. وتحدث البعض عن اقتراب مقاتلي المعارضة (جيش الفتح) من مناطق الساحل السوري العلوي غير مدرك أن اختراق هذه المناطق ممنوع في أيّة معادلة سياسية دولية-إقليمية قد تنشأ.
عدم البناء على المعطيات الجديدة يُنتج مواقف سياسية كاريكاتورية أبرزها أخيراً إعلان الائتلاف الوطني السوري نيته نقل بعض مقاره من تركيا إلى إدلب، فما كان من جبهة النصرة (عمود جيش الفتح) إلا أن سخرت منه. واللافت أن مَن سخر من طرح الائتلافيين هو سعودي الجنسية وليس سورياً.
لا شك في أن هزيمة النظام السوري في إدلب كانت مدوّية ولكن في السياسة لها معنى واحد: المعادلة الآخذة في التبلور تتطلب المزيد من الانكفاء الجغرافي للنظام السوري وما يمثله عصبياً، أي العلويين. ولكن في المقابل قد تتطلب المعادلة نفسها إبعاد المقاتلين الإسلاميين عن الحدود اللبنانية وإقامة منطقة عازلة بين مناطق نفوذهم وبين حدود لبنان الدولية في انتظار مصير هذه المنطقة الذي سيتحدد في نهاية الحرب السورية. ومن هنا قد يحقق النظام السوري وحليفه حزب الله اللبناني انتصاراً مدوياً كالذي حصل في إدلب.
فبين منطقة القلمون السورية والحدود السورية-الأردنية مروراً بالعاصمة دمشق، منطقة صغيرة نسبياً قياساً على مساحة سوريا ولكنها تساوي ضعفين إلى ثلاثة أضعاف مساحة لبنان. وفي هذه المنطقة تنويعات طائفية وقومية كثيرة وسيتحدد مصير النفوذ فيها في آخر مراحل الحرب، خاصة في ما خصّ أقصى جنوبها حيث مناطق الدروز. وغير بعيد عن هذا الجنوب الأقصى للمنطقة، تقع محافظة الأنبار العراقية السنية التي يعني خروجها من تحت سلطة حكومة بغداد كسراً لما أسماه الملك الأردني الهلال الشيعي. هذه المنطقة متحركة جداً ولن يُسمح لطرف واحد بالسيطرة عليها قبل ولادة خرائط النفوذ الجديدة للمشرق العربي.
على كل حال، هذه ليست سوى بعض تعقيدات المشهد الحالي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...