ما إن تتفتح أعيننا على الدنيا، حتى تلصق خريطة العالم في وجهنا لنحفظها غيباً، ونحفظ معها تاريخ البلدان العظيمة بانتداباتها واحتلالاتها. لكن ما نجهله منذ طفولتنا، هو أن خريطة العالم تلك مرسومة وفق قواعد نرجسية، تعطي المواقع الفضلى لبعض القارات التي ترى أنفسها ذات شأنٍ أرفع من القارات المرمية أسفلها، أو تلك المبعدة إلى أقصى حدود الصورة المستطيلة. ولكن من قرّر رسم خريطة العالم كما هي عليه اليوم؟
توجد اليوم أكثر من خريطة واحدة موحّدة للكرة الأرضية، على عكس ما ظنناه لمدى عقود، لأن من رسم الخريطة هو ببساطة الإنسان، لا قوة الطبيعة. تدفقت الخرائط على مدى الأجيال وفق المعتقدات والسياسات والحروب الاقتصادية والدينية والعقائدية التي حكمت كل زمنٍ منها. وربما سيأتي يوم يعيد فيه نظامٌ سياسي جبّار على الساحة العالمية رسم الخريطة وفرضها على العالم، أو على القسم الأضعف منه.
إذا عدنا إلى الخرائط العالمية البدائية كما رسمها الإنسان القديم، نقع على تجسدات غريبة للواقع الذي كانت تمر به الأرض أو أجزاء منها. مدينة القدس مثلاً، وضعت في وقتٍ مضى في منتصف خريطة العالم بالضبط، نتيجة النفوذ الديني القوي للصليبيين خلال القرون الوسطى، لتكون بذلك المحور الروحي للأرض أجمع. “Die gantze Welt in ein Kleberbalt” عنوانٌ لخريطة مثيرة للاهتمام وجدت في القرن السادس عشر، تعكس المفاهيم اللاهوتية في القرون الوسطى، وتضع القدس في قلب العالم، عند تقاطع 3 قارات. الخريطة مستوحاة من ورقة نبتة البرسيم، شعار النبالة. وبمزج بين الخيال والجغرافيا، تم رسم قارات العالم القديم على شكل 3 بتلات، وتصوير إنكلترا والدول الاسكندنافية كجزر في المحيط الشمالي، في حين يفصل البحر الأحمر آسيا عن أفريقيا، ويملأ البحر المتوسط الفراغ بين أفريقيا وأوروبا.
خريطة أخرى تعبّر عن الحقبة التي كانت تحكم فيها الديانة المسيحية في القرن الثالث عشر، هي خريطة ايبستورف “Ebstorf”، التي تهدف لتعليم التاريخ المسيحي للمؤمنين. الخريطة تلخّص أهم الأحداث الدينية والروحانية والأساطير التاريخية، وتجسّد أنسيكلوبيديا بصرية تحصر الجغرافيا والتاريخ في إطارٍ ديني مسيحي. المساحات الجغرافية مرسومة وفق أهمية الأحداث الدينية التي شهدتها أرضٌ معينة، في رسمة كروية تتوسطها القدس بطبيعة الحال. الأرض في هذه الخريطة مجسدة على أنها جسد المسيح، يعلوها في الشرق رأس المسيح، قرب الفردوس. ذراعه تحتضن الأرض وشعوبها، حتى “الوحشية” منها في أفريقيا، وفق الاعتقاد السائد آنذاك. الشرق الأوسط في النصف، آسيا في الأعلى جهة الشرق، أفريقيا نحو اليمين أي الجنوب، وأوروبا في الشمال الغربي، أسفل اليسار.
يعدّ محمد الإدريسي، عالم الجغرافيا وراسم الخرائط والخبير في علم الحيوان والنبات والمسافر الكبير، صاحب أكثر خرائط الكرة الأرضية القديمة تكاملاً، وقد وضعها في القرن الثاني عشر. شهرته في رسم الخرائط آنذاك دفعت ملك صقلية لأن يطلب منه رسم خريطة للعالم. بعد أعوام من العمل المكثف، أنهى الإدريسي خريطة للعالم منقوشة على قرص من الفضة، مقلوبة رأساً على عقب مقارنةً بالخريطة المعتمدة حالياً، أي أن الجنوب فيها موجود أعلى الخريطة. يمكن التعرف بسهولة على البحر المتوسط وأوروبا وآسيا وأفريقيا، مع شبه الجزيرة العربية في الوسط.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو كيف آلت الأمور إلى أن أصبح الشمال يعلو خريطة العالم، وكيف انقلبت المعايير لتصبح القارة الأوروبية والولايات المتحدة في القسم الأعلى والأهم منها؟ تلك الوضعية للخريطة تم اعتمادها ابتداءً من القرن السادس عشر، بفضل الرسمة التي ابتكرها بطليموس Ptolemy. لأسباب أضاعها التاريخ، وضع بطليموس الشمال في الأعلى، ومن هنا انطلقت سياسة الخرائط وكثرت الاقتراحات حول من يحتل وسط الخريطة، شمالها ويمينها. تم التوافق على وضع الولايات المتحدة في مكانة الشرف، في الموقع الأعلى الشمالي من الخريطة، وهو ما جعل أفريقيا تتمركز وسط الخريطة، وهذا أمرٌ لم يتماشَ مع السياسات في تلك الحقبة، وربما ساهم في تصغير حجمها بنسبة 14 مرة عما هي عليه في الواقع. بطريقة عنصرية مقصودة كانت أم لا، القارة الأفريقية انتقلت إلى القسم السفلي من الأرض بينما تقلّص حجمها نسبةً للقارات الأخرى، أمرٌ لم يعطه أحدٌ أهمية آنذاك.
ولكن حديثاً، تم إعادة رسم القارة الأفريقية وحدها، لتتسع لـ13 دولة، كمساحة جغرافية، منها الولايات المتحدة والصين واليابان والهند وأوروبا الشرقية بأكملها. أفريقيا ينقصها 30 مليون كلم مربع كما هي مرسومة في الخريطة المعتمدة، في وقتٍ تم تضخيم أوروبا المتمركزة في الوسط. ذلك القسم أسفل الكرة الأرضية، كما هي مرسومة حالياً، قد عانى ولعقودٍ طويلة من فقرٍ ومشاكل مروعة، ولربما كان ذلك النقص في العدالة متأتياً، بطريقة لا واعية، من تمركزه في أسفل القارات العظيمة.
في أواخر السبعينات من القرن الماضي، قام الأسترالي ستوارت ماك آرثر Stewart McArthur برسم الخريطة المعتمدة اليوم رأساً على عقب، كتحدٍ لمعاييرنا المعتادة وقبولنا بالنظرة الأوروبية والغربية للأرض. تلك الخطوة الجريئة تساهم في التأكيد على أن الأوروبيين هم وحدهم من قرروا كيفية حمل الخريطة العالمية، وفق المكانة العظيمة التي اتخذتها مع حلفائها، في ما يسمى المركزية الأوروبية Eurocentrism.
منذ حقبة الاستعمار نظر الأوروبي للعالم على أنه مفتوح للاحتلال، وللعالم الثالث، كما قرروا تحديده مع الغرب، على أنه ضعيف ويحتاج لإعادة صياغة حضارته. ذلك التفكير الناتج عن المركزية الأوروبية له يدفي إعادة رسم خريطة العالم كما هي معتمدة اليوم، إذ أن كل شيء يدور من حولها، وكل قارة يحدد موقعها وفقاً لبعدها عنها. هل تظنون أنه عن طريق الخطأ، يتم تعليمنا تاريخ وإنجازات أوروبا والولايات المتحدة بالتفاصيل المملة، في وقتٍ بالكاد تذكر فيه قصص آسيا وأفريقيا والهند والصين؟
لكن اليابان المهمشة في الخريطة المعتمدة اليوم، لم تستسلم على سبيل المثال للمعايير العالمية السائدة، فاعتمدت بدورها خريطة نرجسية تتوسط فيها اليابان العالم، في حين تبدو باقي القارات بعيدة عنها وكأنها تنتمي لكوكبٍ آخر: أميركا على اليمين، أفريقيا على الشمال، والمحيط الهادي له مكانة عظيمة في الخارطة. هذه هي الحقيقة الوحيدة التي يعرفها اليابانيون.
ربما يكون قلب خريطة العالم رأساً على عقب فكرة مثيرة للاهتمام، في الصفوف كان أو في غرف النوم، لأن ذلك سيعطينا نظرة أخرى للعالم كما عرفناه حتى اليوم، بعيداً عن الانحباس في صورة واحدة معممة له.
نشر هذا المقال على الموقع بتاريخ 25.07.2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع