في نوفمبر الماضي، اشتكى اثنان من قادة طائرات "بوينغ 737 ماكس 8" من مُشكلات واجهاها مع زملاء آخرين في نظام عمل الطيّار الآلي أثناء الإقلاع. وبحسب ما كشفت بيانات الحكومة الفدراليّة حول تقارير الحوادث، فإن الطيّارَيْن أعربا عن مخاوفهما من انحدار الطائرة المُفاجئ بعد تشغيل نظام الطيار الآلي بثانيتين أو ثلاثة، بينما كانت الرحلة تُستأنف بشكل عادي عند إيقافه. حينها، لم تخرج مثل هذه الشكاوى إلى العلن، أما بعد الحادث التراجيدي الذي شهدته أثيوبيا ومعها العالم، فقد فُتح "الصندوق الأسود" للـ"بوينغ ماكس" لتجد الشركة أن الطراز الذي شكّل مصدر فخر لها عند التسويق قد فاجأها بضربة جوهريّة، كلفّت الشركة خسارة 24 مليار دولار ومقاطعة وتضييقات واسعة. حادث الرحلة الأثيوبية على مأساويته (157 ضحية) لم يكن الوحيد الذي يشهده الطراز الأحدث والأكثر تطوراً الذي أدخلته "بوينغ" إلى الخدمة عام 2017. في أقل من عامين، وبفارق خمسة أشهر فقط، وقع حادثان مع الطراز نفسه، ففي أكتوبر الماضي، تحطمت "بوينغ 737 ماكس 8" في إندونيسيا بُعيد دقائق أيضاً من إقلاعها، وقُتل الـ189 الذين كانوا على متنها. بقي سبب سقوط طائرة "ليون إير فلايت 610" الأندونيسيّة مجهولاً بينما التحقيقات حوله مستمرة، كما هو الحال مع سقوط الطائرة الأثيوبيّة. واليوم، أكد متحدث باسم شركة الخطوط الإثيوبية اليوم أن إثيوبيا ستُرسل الصندوقين الأسودين للطائرة إلى أوروبا ليتم تحليل بياناتهما، لأن بلاده "لا تملك المعدات المناسبة لتحليل محتوى الصندوقين".
ردّ عالمي مُدوٍّ
بانتظار التفسير الفنّي لسبب تحطّم الطائرتين، تُواجه الشركة أصعب لحظاتها على الصعيدين المالي والتسويقي. بحسب شبكة "بلومبرغ"، فإن شركة "بوينغ" قد خسرت 24 مليار دولار من قيمة رأسمالها في السوق، جراء التحرّك العالمي ضدّها، مُسجّلة أكبر خسائرها منذ هجمات 11 سبتمبر 2001. وبحسب وسائل الإعلام، يُجمع العديد من خبراء الاقتصاد على أن تداعيات هذه الكارثة ستترك آثاراً مباشرة على الاقتصاد الأمريكي، ويُرجّحون أن يتم توظيفها في الحروب التجارية التي يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لبلورتها ضد دول المنافسة كالصين وروسيا. وكانت إدارة الطيران المدني الصيني أول المبادرين لحظر الطراز مثار الشبهة، وتبعتها هيئة الطيران المدني الأوروبية التي منعت تحليق طائرتي بوينغ "ماكس 8" و"ماكس9" في أجواء الدول الأوروبية. وكذلك، قرّرت كل من ماليزيا وسنغافورة والهند وأستراليا وقف تحليق تلك الطائرات بشكل كليّ أو فرض قيود صارمة، والحال نفسه مع تركيا التي علّقت رحلات هذا الطراز. وانضمت أيضاً دول عربيّة لقرار المقاطعة من وقف رحلات وحظر التحليق في المجال الجوي، ومنها الإمارات وسلطنة عمان ولبنان والكويت والبحرين ومصر، بموازاة صدور قرارات مماثلة من البرازيل والأرجنتين والمكسيك. وحدهما الولايات المتحدة، وهي البلد الأم لشركة "بوينغ"، وكندا بقيتا على الوضع السابق لوقوع الحادث، وسط تمسّك شركة "بوينغ" بموقفها وهو: "الثقة التامة في سلامة أسطول الطائرات من هذا الطراز". وبينما أوضحت الشركة أن إدارة الطيران الاتحادي الأميركية "لم تتخذ أي إجراء إضافي في هذا التوقيت"، أفاد موقع "ياهو فاينانس" الأمريكي أن معدل الحوادث المميتة للطائرة "بوينغ 737 ماكس" هو الآن ثاني أعلى معدل في العصر الحديث.تصميم خاطئ أم مُعقّد؟
تتباهى الشركة بأنها باعت 250 طائرة "ماكس" العام الماضي، بينما تجاوزت الطلبات على هذا الطراز - الذي عُرف بأنه الأسرع مبيعاً لها على الإطلاق - نحو الخمسة آلاف طلب. تُعرف طائرة 737 بتاريخها الطويل، فمنذ تدشين أول "بيبي بوينغ" بمحركين عام 1967، تطورت لتكون أفضل الطائرات التجارية مبيعاً في التاريخ. أما في معرض تسويقها للطراز "ماكس 8"، فقد وصفت الشركة الطائرة بأنها مزوّدة بتقنيات عالية وممشى منفرد وتستوعب ما يصل إلى 200 راكب. وفيما صُمّمت لتوفر لخطوط الطيران مدى أكبر وتوفير استهلاك للوقود أفضل مقارنة بطرازات سابقة، بقيت ميزتها الأساسيّة في الخطة التسويقية "نظام الأمان التلقائي". نظام الأمان التلقائي نفسه هو الذي تحوّل إلى مثار جدل. بحسب وكالة الأنباء الفرنسيّة، فقد طلبت إدارة الطيران الفدراليّة من المُصنّع الأمريكي إجراء تعديلات قبل نهاية الشهر المقبل، على:1- برنامج التحكم المُسمى "نظام تعزيز خصائص المناورة" المُصمّم لتفادي سقوط الطائرات، 2- كُتيّب تدريب قادة الطائرات.فيما صُمّم طراز "ماكس" لتوفير استهلاك للوقود أفضل مقارنة بطرازات سابقة، بقيت ميزته الأساسيّة "نظام الأمان التلقائي". هذا النظام نفسه هو الذي تحوّل إلى مثار جدل بعد تحميله مسؤولية كارثتين بشريتين
عام 1995، تحطمت طائرة أمريكية في كولومبيا، بعدما اعتقد الطيارون أنهم يتوجهون في النقطة الصحيحة بفضل "النظام الآلي"... إشكاليّة التكنولوجيا الذكيّة ومحاذير الثقة بها تعود بقوة إلى دائرة النقاشمن جهته، شرح محلّل شؤون سلامة الطيران ديفيد سوسي في مقابلة له مع "سي أن أن" أن "بوينغ 737 ماكس" مُزوّدة بأمر حديث يتعلق بكيفية استجابة الطيار الآلي، فعندما ترتفع مقدمة الطائرة عالياً جداً فإنها تدفع مقدمة الطائرة للأسفل، حتى عندما يكون نظام الطيار الآلي غير مُفعّل، والكثير من الطيارين ليسوا معتادين على هذا الأمر". يُعيدنا كلام سوسي إلى ما كان ذكره أحد الطيارين في شكواه من طراز "ماكس" لجهة عدم حصوله (الطيار) على تدريب كافٍ لقيادته. وقال: "أعتقد أنه من غير المعقول أن يكون لدى الشركة المُصنّعة والاتحاد الفدرالي وشركات الطيران طيارين يحلقون بطائرة دون أن يكون لديهم التدريب الكافي حولها، ودون أن تتوفّر لهم الموارد المتاحة والوثائق الكافية لفهم الأنظمة شديدة التعقيد التي تُميّز هذه الطائرة عن الطرازات السابقة".
لا تخافوا من "ماكس"... من أين تأتي الطمأنينة؟
"لا تخافوا"... هذا ما طلبه جون غابر في تحليل مُطوّل له نشرته "فاينانشال تايمز"، مُقلّلاً من "الخوف العالمي" الذي رافق قضية "بوينغ". برأي غابر، فإن الشركة والمنظمين الأمريكيين على حق في طمأنتهم للعالم بشأن قدرتهم على إصلاح الطراز المعنيّ بالمشكلة باستخدام برامج جديدة، أجهزة استشعار أفضل وتأمين المزيد من التدريب. يُشدّد غابر على عدم الحاجة لإيقاف تشغيل أجهزة الكمبيوتر والعودة للاعتماد على البشر كي يتحملوا المسؤولية الكاملة، إذ أثبتت البرامج قيمتها منذ إطلاق طائرة A320 عام 1988، وهي أول طائرة من الجيل الرابع والتي تطير "عبر الأسلاك" (إزالة كل الأسلاك التي تصل بين قمرة القيادة ودفة التوجيه وأجنحة الهبوط والصعود وأجهزة التشغيل والسيطرة، لتحل محلها أجهزة الكومبيوتر). ومن شأن هذه التقنيّة الحؤول دون قيام قائد الطائرة أو مساعده بإجراء أية مناورات خطرة، وضمان بقائهما ضمن حدود القيادة الآمنة. عامل الأمان هذا هو بالذات كان مصدر الكثير من الحوادث والمتاعب، ومع ذلك يُحاجج غابر بأن الطيران غدا أقل خطراً مع مرور الزمن وتقدّم التكنولوجيا لا سيما برنامج الطيران عبر الأسلاك. برأيه، لا تحتاج "بوينغ" إلى إعادة تصميم طائراتها بالكامل والحد من "تورط" أجهزة الكمبيوتر في أنظمة الطيران، فذلك "لا معنى له". الأخلاقيات المطلوبة هنا، حسب غابر، هي حصراً أن يكون الطيارون مدربين تدريباً كافياً وأن يمارسوا الطيران يدوياً إذا لزم الأمر. من جهته، أكد جايمس فالوز في "أتلانتيك"أن صناع الطائرات أنفسهم قد استثمروا في سلسلة تطوير في الطرازات وصولاً إلى737، رغبة منهم بإجراء تحسينات مستمرة: محركات أفضل وأكثر فاعلية، إلكترونيات طيران محسّنة، وبطبيعة الحال، المزيد من المقاعد (والمزيد من المقاعد).أن نترك الخيار للخوارزميات
لقد حصلت طائرات 737 على هيكل جسدي أطول على مر السنين، لاستيعاب المزيد من الركاب، وهذا جزء من الدراما التي تنطوي عليها مشكلة أحدث طراز. تحتوي طائرات "ماكس" الجديدة هذه على محركات مختلفة عن طرازات 737 السابقة: محركات أكثر قوة وأكثر كفاءة. ولكن نظراً لأن هذه المحركات الجديدة أكبر فعلياً من الإصدارات السابقة، فهي مُثبّتة في مكان مختلف قليلاً على الأجنحة، وتداعيات هذا التحول معقدة للغاية. في المقابل، تُعامل طائرات "ماكس" الجديدة إلى حدّ بعيد مثل طائرات 737 السابقة بحيث لا يُطلب من الطيارين الحصول على شهادة منفصلة كاملة تُخوّلهم قيادتها، مع ذلك ينبغي لهم أن يتعاملوا بشكل مختلف بما فيه الكفاية عن 737 بعد إضافة نظام جديد: "نظام التحكم الآلي" للسيطرة عليها. وفي الجانب الأبرز، إذا اكتشفت أجهزة استشعار النظام أن مستوى الطائرة أصبح مرتفعاً بشكل خطير، مما يؤدي إلى هبوط محتمل، فإن أدوات التحكم الآلية ستتدخل لدفع أنف الطائرة إلى أسفل، أيا كان ما يعتزم الطيار فعله في ذلك الوقت. في الطائرات، يطرح عامل التكنولوجيا المتطورة إشكاليات من طراز أن الأنظمة الآليّة بطريقة أو بأخرى سوف تحدد بشكل خاطئ مكان الطائرة، أو ما يحدث لها ، أو ما هي المناورة الأكثر أماناً، وبالتالي تأخذ "الطائرة" بذكاء شديد نحو الموت. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك تحطم الخطوط الجوية الأمريكية في كولومبيا عام 1995. حينها، اعتقد الطيارون أنهم دخلوا في الطريق الصحيح عبر نظام الطيار الآلي للطائرة. بسبب الاختلاط في أنظمة وضع العلامات، دخلوا فعلياً في نقطة الطريق الخاطئة، بينما توجهت الطائرة بإخلاص نحو "الهدف المُختار"، لتتحطم بعد سقوطها من ارتفاع 9800 قدم. في حادث تحطم طائرة "Lion Air"، يبدو أن الطيارين استمروا في محاولة سحب أنف الطائرة نحو الأعلى، بينما نظام الحماية المؤتمت MCAS يدفع به إلى الأسفل. النظام الآلي فاز في النهاية، والسؤال الذي لم تتم الإجابة عليه بعد حول هذا الإشكال هو سبب عدم قيام الطيارين بإيقاف هذا النظام أو تعطيله. هل هذا ما حدث في قضية الخطوط الجوية الأثيوبية كذلك؟ هل حاول الطيارون تجاوز أو تعطيل النظام؟ هل وقعوا على حين غرّة ودون علم بما كان يفعله هذا النظام؟ هل كانوا مدركين تماماً لما يحصل، لكن ما زالوا غير قادرين على تغيير المسار القاتل؟رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...