في معرض (دخلت مرّة في جنينة) المقام في دار النمر – بيروت، يدخل المتلقّي صالة تضمّ تسع سمّاعات للأذن، معلّقة على الحائط بجانب كل منها عمل فني، تجهيز أو لوحة.
خلف كل واحدة من السمّاعات حكاية، جمعها القائمون على المعرض (كريستيل خضر، بيسان الشريف، وائل علي)، ليستلهموا منها أعمالاً فنيّة. تمّ اختيار الحكايات لتتضمّن ما هو متعلّق بالحب، الحرب، الجنس والشهوة. هي حكايات من " مدن ساخنة " على حدّ تعبير الفنانتين، من دمشق، فلسطين، لبنان، ومن بغداد، اجتمعت لتشكّل نماذج عن الحكايات الذكوريّة والأنثويّة والتجارب الحميمة في الرغبة والجنس زمن الحرب، يُضاف لكلّ حكاية عمل فني مرافق.
قميص النوم
الحكاية الأولى بعنوان (قميص النوم)، تقول الراوية فيها: "أنا من عكا، لكني عشت الجزء الأكبر من حياتي في بيت جالا في محيط بيت لحم، ولدت في العام 1938، وبإمكاني إخبار العديد من القصص، لكن المشكلة هي أنني أنسى، لقد نسيت. ربما أصبح عمري كبيراً وأصبحت أقع في النسيان" تروي صاحبة الحكاية كيف أنها لم تتزوّج الشاب الذي تحبه، مفضّلة عرض زواج من آخر يحمل الجنسيّة الأردنيّة، التي تمكّنها - في حال اكتسابها - من السفر إلى لبنان، للقاء أخيها الذي لم تره منذ أن نزح من فلسطين ولجأ إلى لبنان في العام 1948. تروي صاحبة الحكاية الأولى في شهادتها، أن أوّل رسالة كتبتها كانت لحبيبها الذي لم تقترن به، لكنها لم ترسلها له أبداً: "شعرت وكأنني أرتكب خيانة بحق زوجي، وهي خطيئة بنظري، أنا أخاف الله، أبقيت الرسالة في الصندوق، في بعض الأحيان أشتاق لكل ما مضى، أفتح الصندوق، أفتحه بعناية، وأُعيد قراءة الرسالة مرّات ومرّات". يستمدّ هذا العمل الفني عنوانه (قميص النوم) من حكاية أخرى روتها صاحبة هذه الشهادة. في القصّة تدخل قوّات الأمن الإسرائيليّة إلى حارتها في بيت جالا وتعتقل الشبان، كانت هي بقميص النوم عندما جرّ عناصر الأمن طفليها إلى الساحة، وبينما هي تمنعهم من اعتقالهم، رأت نفسها في الساحة بقميص النوم، لقد تمكّنت من إنقاذ أبنيها، لكنها مازالت تذكر تلك النظرات التي وقعت على كتفيها وعنقها، وكذلك الغمز والقبلات التي أرسلها لها أحد عناصر الأمن. اللوحة المرافقة لهذه الحكاية رسم لجسد امرأة بقميص النوم تحاول أن تخفي صدرها عن عين الناظر، كما في التجربة الموصوفة في الحكاية، مركّب عليها وجه الفنانة أسمهان.شهادة من معرض "دخلت جنينة": "لماذا أضعت الأيام بلا متعة حفاظاً على عذريتي؟ من المحزن أنه وأثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، كانت قضية عذريتي كل ما يشغلني"، كانت راوية الشهادة ترتدي لباساً للسباحة، مايوه، تحت ملابسها، وذلك لتحمي فرجها من الإيلاج أو الاحتكاك مع القضيب الذكري.
جبل قاسيون بالنسبة لسكّان العاصمة دمشق، متنفس للعشّاق بعيداً عن الرقابة وأعين الأهالي، يصعد العشاق إلى أعلى الجبل بسياراتهم، إلى منطقة مخفية بين التلال، ويمارسون الحب والجنس في السيارات المغلقة.
فستان العرس
الحكاية الثانية عبارة عن رسالة، لقد عثرت الأم على كتاب إيروتيكي في خزانة ابنتها، وهي ترسل لها رسالة لتسألها عنه: "على غلاف الكتاب هناك رسم مريع، رجل وامرأة عاريان، عاريان تماماً، كان الرجل راكعاً والمرأة مستلقية على ظهرها، ساقاها في الهواء، وذراعاها تلتفّان بعناق على كتفي الرجل، الذي كان يرفع بيديه أردافها". هي رسالة كتبت في 2010 من أم إلى ابنتها. يرافق هذه الحكاية عمل تجهيز فني يمثل فستان العرس كذلك التي تروي عنه الحكاية في أحداثها، وهناك علبة تحتوي على صور من مناطق أحداث الحكاية في بيت جالا – فلسطين.صورة الحب الأول
في حكاية (صورة الحب الأول)، الراوية تهوى تجميع صور النجوم والفنانين وتخفيها عن عيني والدتها، لكن كلّما قامت الوالدة بتنظيف المنزل في فصل الربيع، تعثر على الصور وتمزّقها، وتنهر ابنتها وتصفعها أحياناً، مازالت الراوية تتذكّر كيف كانت تبكي وهي تعيد تجميع نتف الصور الممزّقة. في هذه الشهادة تستعيد الراوية حكاية تجربتها الجنسيّة الأولى، القصّة في بيروت، وجرى الأمر في شقة جميلة حسب وصفها في منقطة قريطم، وكان شريكها هو من استأجر الشقة مع رفاقه، وأقاموا فيها حفلات راقصة، كانت الراوية تحب الرقص، وكانت في الشقة غرفة نوم كبيرة مع سرير بموديل قديم مزركش بورود برتقالية اللون: "على ذلك السرير فقدت عذريتي، لم أكن أعي ما يحصل، ولكن حين انتهينا وذهبت إلى الحمام، رأيت دماً". يقف المتلقّي أمام صفيحة مغناطيسيّة معلّقة على الحائط، تحتها علبة بداخلها قطع من صورة كبيرة، من تلك الصور التي كانت تجمعها صاحبة الشهادة للنجوم والفنانين، على المتلقّي أن يعيد تركيب الصورة على الصفيحة المغناطيسيّة المعلّقة على الحائط، في استعادة لتجربة راوية الشهادة عن ذكراها في تجميع الصور التي كانت تمزّقها والدتها، هو عمل تجهيز تفاعلي يشارك المتلقّي في تركيبه.لباس السباحة
في هذه الشهادة يتداخل الذاتي مع السياسي، خلال دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت عام 1982، كانت الحرب في أوجها، بينما كانت راوية الحكاية تشرع في تجاربها الجنسيّة، بدايةً كانت القبلات، ثم الملامسات، وحكّ الأعضاء الجنسيّة ببعضها دون إيلاج. لكن صاحبة الشهادة تندم في المستقبل، تقول: "لماذا أضعت الأيام بلا متعة حفاظاً على عذريتي؟ من المحزن أنه وأثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، كانت قضية عذريتي كل ما يشغلني"، كانت راوية الشهادة ترتدي لباساً للسباحة، مايوه، تحت ملابسها، وذلك لتحمي فرجها من الإيلاج أو الاحتكاك مع القضيب الذكري. في اللوحة المرافقة لهذه الشهادة، نرى داخل الصورة فتاة مرسومة بطريقة البوب آرت، وحين يحرّك المتلقي القرص الموصول إلى جانب اللوحة، تختلف ملابس السباحة، المايوه، التي يرتديه الجسد الأنثوي في اللوحة.الهاتف
تأتي هذه الحكاية من بغداد، تعود الذكريات فيها إلى الحرب العراقيّة الإيرانيّة 1981، وبسبب صعوبة الظروف، وعدم توفّر أماكن مناسبة للقاء، كان للهاتف المنزلي الثابت دور في التواصل والتعارف. صاحب هذه الشهادة ذكر يروي قصّته: "كان الهاتف أهم الأغراض في المنزل لأنه يسمح لنا بالتعرّف على الآخرين، عبر الهاتف كانت تتمّ عمليات التعارف لأن اللقاءات في الأماكن العامة كانت صعبة. كان في منزلنا هاتف ثابت يقع في منتصف البيت ما يتوجّب إجراء الحوار بلغة مرموزة". يقول الراوي: "كان هناك فتيات يتصلن بي دون أن ينطقن بحرف. ألو؟ ألو؟ فأسمع همهمات، وشوشات قادمة من الطرف الآخر للسمّاعة، وحين يطول الصمت كنت أعمد إلى إلقاء النكات، وكنت أسمع الضحكات، ضحكات أنثوية". يروي الشاهد كيف أن الأنثى التي تتواصل معه على الهاتف منذ سبعة أشهر، هي جارته في السكن، وهي أم لثلاثة أطفال، كان زوجها يقضي نهاره في العمل وكان يمكن الدخول إلى منزلها بسهولة، "بقينا نمارس الحب وقوفاً في المطبخ لثلاث سنوات، حين أنهيت مرحلتي الدراسيّة، مازلت أذكر حتى الآن شعرها الذي كان مبلولاً، أتذكّر وجهها قريب مني، وأتذكّر رائحتها". العمل الفني المرافق لهذه الشهادة، هو هاتف معلّق على حائط الصالة، على المتلقّي أن يرفع سماعته إلى أذنه ليسمع الحكاية، بجانب الهاتف هناك عدسة مجهريّة، عند النظر عبرها يرى المتلقّي صورة لصدام حسين وعلم العراق، مثل تلك الصور التي كان يرفعها صاحب الحكاية في المسيرات التي كانت تنظمها الدولة العراقيّة لأجل الرئيس في حينها، عند النظر إلى هذه الصورة عبر العدسة المجهريّة، تبدو الأشكال موشوريّة وموشّاة بألوان قزحيّة.فيلم البورنو
يروي صاحب هذه الحكاية، مغامراته الجنسيّة الأولى في الثامنة عشرة من عمره، هو وأصحابه الخمسة الذين يهربون من المدرسة، ويذهبون إلى نزل أم وليد، أشهر بيت دعارة في بغداد حينها حسب وصفه. هناك تعرّف على جسد المرأة للمرّة الأولى. تالياً في شهادته حكاية الحب الأولى مع طالبة من صفّه، يصف علاقته بها بأنها "من الحب الحقيقي"، إلا أن اللقاءات الجسديّة لم تكن تتعدّى القبلات والملامسات. كان تأتي إلى منزله دون علم من أحد، يمضيان الوقت في سماع الموسيقى، في مشاهدة التلفاز وطلبات الطعام، وكانا يشربان العرق مع العديد من الأحاديث الطويلة، وقبل أن ينتهي النهار المدرسي كان عليه إعادتها، كان يتركها قبل الوصول إلى منزل أهلها لتكمل السير وحدها، مدّعيةً أمامهم أنها عائدة من المدرسة للتوّ. لكن عائقاً كان يقف أمام علاقة الحب هذه، وهي رغبة صاحب الشهادة بالسفر خارج البلاد للدراسة، وهذا ما فعله، ولم يرجع بعدها إلى بغداد أبداً، لقد حرص على التخلّص من كل الذكريات المتعلّقة بتلك المرحلة، محاولاً نسيان الماضي، مازال بين الفترة والأخرى يقابل الأصدقاء القدامى، لكن في مدن الهجرة المتفرّقة: الأردن، إنكلترا، كندا ولبنان. يسمع المتلقّي هذه الحكاية عبر سمّاعات الأذن، يجد نفسه واقفاً أمام مربّع خشبي يشبه صندوق الدنيا الذي ينظر فيه الناس ليشاهدوا صوراً متلاحقة ومتتاليّة، على جانبه مانويل يمكن تحريكه وبالتالي تحريك المشاهد المستوحاة من الحكاية التي رويت على أذن المتلقّي سماعاً.الليغو Lego
الحكاية في دمشق، في التسعينيات، نعود مع الفتاة إلى سنواتها الخمس عشرة، لقد تأخّرت عليها الدورة الشهريّة الأنثويّة، بدأت تشعر بالقلق، وتحوّل الأمر لكابوس، كانت تشعر بالغيرة من صديقاتها من حولها يتحدثن عن أجسامهن ودوراتهن، وحين قلقت أمها من الأمر، أخذتها إلى الأطباء، ودخلت الراوية في نظام الدورة الشهريّة بعد سنة من ذلك. القصّة تبيّن كيف أنها شعرت بالاختلاف والعزلة حين تأخّرت عليها دورتها الشهريّة الطبيعيّة. لكن اسم العمل الفني، ليغو، مستمدٌّ من حكاية ثانية ترويها هذه الشاهدة. كانت في موعد مع شاب للذهاب إلى جبل قاسيون، وهذا الجبل بالنسبة لسكّان العاصمة دمشق، متنفس للعشّاق بعيداً عن الرقابة وأعين الأهالي، يصعد العشاق إلى أعلى الجبل بسياراتهم، إلى منطقة مخفية بين التلال، ويمارسون الحب والجنس في السيارات المغلقة. كانت صاحبة الحكاية على موعد مع حبيبها للذهاب هناك، لم تكن تملك حذاء كعب، وكانت ترغب أن تظهر طويلة القامة، فوضعت قطع من الليغو داخل حذائها لتبدو أطول، لكن قطع الليغو صعّبت عليها الرحلة، إذ كانت تؤلمها. حين يسمع المتلقّي هذه الحكاية، ينظر أمامه إلى العمل الفني المرافق، وهو لوحة معدنيّة على شكل حذاء، تخرج منه قطعة من قطع الليغو الملوّنة، الكتلة النافرة من الليغو تشكّل المنازل التي يمكن رؤيتها للناظر من العاصمة دمشق إلى جبل قاسيون، كتلة من الأبنية تبدو أنوارها من بعيد في أغلب شوارع المدينة.الصدرية
"كان ذلك في العام 1990، كنت في الرابعة عشرة من عمري حين قبّلت صبياً للمرة الأولى، سميته "صبي القبلة"، هي ذكرى مضحكة لأن الصبي كان مضحكاً". تجري أحداث هذه الحكاية في ساروجا – دمشق، كان المجتمع محافظاً، وقد تعرّضت صديقة صاحبة الحكاية للتعنيف من أخيها لأنه رآها مع شاب، لكن الصديقتين لم تتوقفا عن الهروب من أعين الرقابة لملاقاة الصبيان، لقد تعلّقت بأحد الشبان وراحت تتردّد سرّاً إلى شقته، كان يومها عيد ميلاده حين قالت له: "بمناسبة يوم ميلادك، سأمنحك عذريتي كهدية" تروي صاحبة الحكاية عن المرة الأولى التي بلغت فيها النشوة، كانت خائفة لأنها كانت تصرخ، لم تكن تعرف عن الأمر سابقاً، تصف الأمر بالصعب، بين رغبتها في الصراخ، وبين خشيتها من أن يصل صوتها إلى الآخرين، لأنها كانت تشعر دوماً بأن الجيران يمكن أن يتعرّفوا على صوتها. هذه الحكاية بعنوان (الصدرية)، نسبة إلى الملابس الداخليّة التي كانت ترتديها راوية الحكاية في قصتها، فالعمل الفني المرافق لها هو مجموعة من الصور الفوتوغرافيّة التي تصوّر صدراً أنثوياً يرتدي صدريات مختلفة، التصوير بالعدسة الواقعيّة، لا تلاعب بمحتوى الصور أو بمستويات الإضاءة، عدد كبير منها مصفوف بطريقة الأكورديون على الحائط أمام المتلقّي الذي يستمع إلى الحكاية.حكايات الحب في بلاد ساخنة
العمل الفني التاسع والأخير، نسمع فيه حكاية عن الفنّانتين المشاركتين في تحقيق المعرض، أي كريستيل خضر وبيسان الشريف. نسمع حكاية كل منهما، وعن الأفكار التي ألهمتهم لتجميع الحكايات وابتكار الأعمال الفنيّة المرافقة لها في هذا المعرض. على الحائط بجانب السمّاعات، تعلّق شاشة تعرض فيديو، نرى فيه وجه المغنية أسمهان بالألوان المائية يتلاشى رويداً رويداً، ليُعاد تشكيله من جديد. من إحدى أغاني المغنية أسمهان 1912 – 1944، استلهم المعرض عنوانه (دخلت مرة في جنينة)، التي أصدرتها العام 1939، وهي الأغنية التي ألهمت بيسان وكريسيل المفهوم العام للمعرض، حكايات الحب في بلاد ساخنة. أعمال المعرض في المقال، من تصوير سالي قسطون.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...