مهما تعدّدت العناصر الحكائيّة والفنيّة التي تدعو إلى الإعجاب بفيلم (حرب باردة) للمخرج (بافيل بافليكوفسكي)، فإنه يبقى في توصيفه الأساسي فيلم–قصيدة، عن علاقة عاطفيّة، حكاية حب، أراد المخرج وكاتب السيناريو بافليكوفسكي أن يرويها في إطارين يضيفان إلى الفيلم أهمية موضوعاتية، وهما إطاري: السياسة وفني الغناء والموسيقى.
المشاهد الافتتاحيّة الأربعة في الفيلم غنائيّة، الكاميرا ترافق مشروعاً يقوم به (فيكتور، الممثل توماز كوت) برفقة المنتجة (إيرينا، الممثلة أغاتا كوليزا)، المشروع هو تسجيل الأغاني الفلكلوريّة البولونيّة والبحث عن مغنّين ومغنّيات يشاركون في فرقة لأداء أغان تراثيّة، لذلك، فإننا نرى في المشاهد الافتتاحيّة أطفالاً، نساءً وشيوخاً يؤدّون أغان فلكلوريّة، تركّز الكاميرا على عملية التسجيل التي يقوم بها فيكتور وإيرينا لهذه الأغنيات، وكأن المخرج بافليكوفسكي أراد لفيلمه أن يؤدّي دوراً توثيقيّاً لأغان مختارة من الغناء الفلكلوري البولوني.
علينا الانتباه أن موضوعة الأغاني الأساسيّة هي الحب، من كلماتها: (هل حبك هو هبة من الله، أم لعنة من الشيطان؟)، (كيف يمكن للقلب أن يحتمل حبّ هذا الفتى).
على الصعيد السياسي، نحن في بولونيا في العام 1949، البلد الأمّ لما يعرف بـ"حلف وارسو"، الذي خضعت بموجبه العديد من دول أوربا الشرقيّة لنظام الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، فتمّ نسخ نظام الحكم هذا في دول معسكر حلف وارسو، ضمن هذه الظروف السياسيّة والتي تعكس أيضاً الحال الاجتماعي، يحاول الموسيقي وقائد الأوركسترا فيكتور أن يؤسّس فرقة أداء أغان تراثيّة بولنديّة اسمها (مازوركا).
من بين المتقدّمات ليكنّ من أعضاء الفرقة، تحضر الشخصيّة الرئيسيّة الثانية في الفيلم أي (زولا، الممثلة جوانا كوليج)، من اللقاء الأول مع هذه المتسابقة، يظهر فيكتور اهتماماً خاصاً بها، تدخل زولا بين أعضاء الفرقة، ويحاول فيكتور التعرّف على ماضيها، يسألها عن سبب طعنها لوالدها بالسكين، فتجيب زولا: (لأنه اعتقد لوهلة أنني أمي، وأردت أن أظهر له الفرق بيننا)، في إشارة إلى محاولة تحرّش جنسي.
تصبح زولا المغنية والراقصة الأساسيّة في الفرقة، التي بعد فترة تدريب لأعضائها، تقدّم العديدَ من الحفلات الغنائيّة التراثيّة بنجاح، فيتقارب زولا وفيكتور بلقطات جنسيّة تصوّرها الكاميرا بين الحميمة وشدة الشهوة، لكن هذا النجاح التي تحقّقه الفرقة في حفلاتها، يجعلها محطّ اهتمام الدولة، تعترف زولا لفكتور بأنها قدّمت معلومات عنه طُلبت منها من قبل المحققين.
في الفيلم توثيق تخييلي لكيفيّة استغلال الأنظمة الشموليّة للفن التراثي لتبثّ عبره أيديولوجيتها وأفكارها، يقول المسؤول الحكومي: (فرقتكم حقّقت نجاحات كبيرة، إنها فخر للوطن، لكن لماذا الاقتصار على أغاني الحب، ما رأيكم بالغناء عن القائد، الإصلاح الزراعي، والإدارة الحكيمة؟ بالمقابل ستشاركون باسم بولونيا في مهرجانات في ألمانيا وأوربا، وستسافرون إلى العديد من المدن)، ينقسم الجهاز الإداري والفني للفرقة بين مؤيّد ومعارض لأداء أغان البروباغندا.
في الحفل التالي لفرقة (مازوركا)، نسمع أغنية تمجّد القائد الجليل، المؤدّون والراقصون بالملابس الفلكلوريّة على المسرح، الذي يظهر في عمقه صورة ضخمة لستالين ترتفع أمام الأعين كستارة، هذا الدمج بين التراثي والأيديولوجي يمارس تأثيراً مفيداً للحكومة على الجمهور.يقول المسؤول الحكومي: "فرقتكم حقّقت نجاحات كبيرة، إنها فخر للوطن، لكن لماذا الاقتصار على أغاني الحب، ما رأيكم بالغناء عن القائد، الإصلاح الزراعي، والإدارة الحكيمة؟" من فيلم "حرب باردة"
لفيلم "حرب باردة" أرشيف عن الغناء والموسيقى الفلكلوريّة البولونيّة، واستعراض للأنماط الموسيقيّة والغنائيّة التي انتشرت في أوربا بين الأربعينيات والستينيات، ومحاولة في كشف خبايا العلاقة بين السلطات الحاكمة وفنون الموسيقى والغناء.يستغل فيكتور وجود حفلة للفرقة في برلين، ويخطط مع زولا للعبور إلى الشطر الغربي من برلين والهروب إلى فرنسا، ( لكن من سأكون أنا في فرنسا؟) تتساءل زولا، التي لا تأتي إلى المكان المحدّد للهروب، فيضطرّ فيكتور للرحيل إلى باريس وحده. في باريس، يعبر الفيلم إلى أنماط غنائيّة وأنواع موسيقيّة مختلفة، هي محظورة أو محجوبة في بولونيا، بانتقال الحكاية مع فيكتور إلى باريس تظهر موسيقى الجاز مثلاً، فيعمل هو كعازف بيانو مع فرقة جاز، وبعدها في الستينيات تظهر موسيقى الروك أند رول الأمريكيّة في القسم الأوربي المتواصل مع الثقافة الأمريكيّة. يكتب (شفيق طبارة) في وصف ما تؤول إليه العلاقة بين العاشقان فيكتور وزولا: (في البعد يتعذبان وفي القرب يحترقان. الثنائية مضطربة، التناقضات مؤرّقة، الانزعاج سيّد اللقاءات ورفض الآخر يهيمن.. الرومانسية لا ولن تدوم حتى بعودتهما إلى الحدود المكانية نفسها، هو الخوف الذي رافقنا كمشاهدين منذ البداية، مع اليقين بمأسوية المصير)، هذه هي تنويعات العلاقة العاطفيّة التي نتابعها في دقائق الفيلم التسعين. في إحدى مراحل الفيلم تقتنع زولا بالانتقال للعيش مع فيكتور في باريس، تسجّل ألبوماً حين تحوّل لحن أغنية (القلب) الفلكلوريّة إلى كلمات قصيدة فرنسيّة، لكنها لا ترضى عن التجربة. تقول زولا لفيكتور: (لقد كنت رجلاً في بولونيا، أما هنا فأنت لا شيء). يوصف الكاتب (سامر مختار) أثر الانتقال من بولونيا إلى فرنسا على شخصيتي الفيلم الرئيسيتين: "بينما يرى فيكتور مدينة مثل باريس، متنفساً للحرية، لا تراه زولا سوى وهم، ففي مناخ الحرية الباريسي، وداخل الوسط الفني والثقافي، كان يجب على الآتي من البلدان التي تقع تحت هيمنة الاتحاد السوفياتي، أن يلعب دور الشخص الضحيّة، الذي جاء إلى المعسكر الآخر، لينال الحرية التي كان يحلم بها، وإلا فهو مشكوك في أمره". تعود زولا إلى بولونيا، وبعد سنوات، يقرّر فيكتور العودة خلف حبيبته إلى بولونيا. هو يدرك أن النظام الحاكم هناك لن يرحمه، وسينتقم من هروبه، وهذا ما يحدث، يتعرّض فيكتور للاعتقال والتعذيب، وتُكسر أصابعه ليفقد قدرته على عزف البيانو، أما زولا فقد أصبحت في بولونيا مغنية مشهورة، نسمعها تؤدّي أغنية جاز، مما يشير إلى تسلّل الأنماط الغنائيّة الغربيّة إلى بولونيا في تلك الفترة، تستعمل زولا معارفها لإخراج فيكتور وتحريره من الاعتقال، تقوده إلى كنيسة بولونية قديمة لتجري مراسم قدّاس زواج ثنائي خاص بينها وبينه، بالطريقة التي تعتقد أنه يجب أن يكون عليه الزواج الكنسي. في المشهد الأخير، نجد فيكتور وزولا يعلنان زواجهما في الكنيسة المهدّمة، ويتقاسمان عدداً من الحبوب البيضاء في إشارة إلى انتحار العاشقين، لقد فقدا الموسيقى، الغناء، الاستقامة والقدرة على إقامة علاقة عاطفيّة، خسرا كل شيء إلا رغبة أن يكونا معاً، فيموتان معاً. كاميرا المخرج بافليكوفسكي شاعرية في لقطات الحب، وبارعة في تصوير الحفلات الموسيقيّة وتفاصيل الرقصات الاستعراضيّة، السيناريو يتجنّب الإفصاح بطريقة مباشرة عن مجريات السرد، بل يسعى أكثر للتلميح لبناء الحكاية عند المتلقّي. الفيلم أرشيف عن الغناء والموسيقى الفلكلوريّة البولونيّة، واستعراض للأنماط الموسيقيّة والغنائيّة التي انتشرت في أوربا بين الأربعينيات والستينيات، أما على مستوى الحكاية، فعدا عن قصة الحب الإشكاليّة التي يرويها الفيلم، فإنه لاشك محاولة في كشف خبايا العلاقة بين السلطات الحاكمة وفنون الموسيقى والغناء. الفيلم يعرض في سينما أمبير – ميتروبوليس بيروت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين