في شباط من العام 2012، يظهر طفلٌ سوريٌ في قرية «بنّش» في ريف إدلب، لا يتجاوز الثامنة يعتلي أكتاف مجموعة من الرجال الملفّحين بالرايات السوداء، وهو يغني الأغنية التي عرفت بعدها باسم (بالذبح جيناكم)، تبايع الأغنية زعيمَ تنظيم النصرة الجولاني.
الطفل ابن الثماني سنوات يتغنّى بجريمة الهجوم على برج التجارة العالمي الذي جرى في نيويورك 11 سبتمبر 2001: "دمّرنا أميركا بطيارة مدنيّة، برج التجارة غدا كومة ترابية". كما أن الطفل يهدّد أهالي قريتين قريبتين من بنّش بأغلبية سكانية شيعيّة مهدّداً إياهم بالذبح، محرّكاً يده كما لو أنّه يقوم بالذبح. اشتهرت الأغنية باسم (بالذبح جيناكم)، وكانت مؤشراً دقيقاً على المدى الذي بلغه توغّل العنف في ثقافة الطفولة السوريّة.
لم تمض أيام قليلة على ظهور أغنية الطفل في هذا الفيديو، حتى أنتج الخطاب السلطوي العسكري السوري أغنية تماثلها في مستوى الكلام الهجومي الموجّه، العنيف، البذيء، والداعي إلى القتل والعنف، دون أن ينسوا استعمال الطريقة نفسها في توظيف طفل للغناء في الفيديو، كما فعلت الحركة الجهاديّة.
ظهر الفيديو الثاني لطفل يجلس مع مجموعة من مجموعات الفرقة الرابعة التابعة للجيش السوري، والمعروفة بوحشيّتها، وهو يغنّي ويتوعّد الثورة والثوار بشتائم جنسية وإيحاءات وتهديدات باعتداءات جنسيّة.
وعند سؤاله إن كانت داعش قد فرضت على طلاب مدارسها ترديد شعارات صباحية دينيّة بدلاً من تلك الشعارات القومية التي كانت تردّد في المدارس السورية سابقاً، أجاب الباحث وسيم السلطي: "لم تفرض شعارات صباحيّة، إنما النظام التعليمي الذي أسّست له داعش كان يُلزم الأطفال في كل صباح وفي أثناء الأنشطة التعليميّة و(الترفيهيّة) والمسابقات ترديد التكبيرات مع رفع سبابة الإصبع الأيمن وترديد مقولة "دولة الإسلام" وتكون الإجابة من الأطفال "باقية" إلى جانب الزيّ الموحّد".
حين المقارنة بين عدّة مدن حرم أطفالها من الموسيقا مثل كابول – أفغانستان، أو الرقة ودير الزور في سورية، والموصل ومدينة الصدر في العراق، نلاحظ ظاهرة تتكرّر بين هذه المدن، ألا وهي تلازم غياب الآلات الموسيقيّة وتحريمها، مع انتشار الأسلحة بدلاً عنها. في كلّ تلك المدن أُنشِئت معسكرات تدريبيّة للمقاتلين الأطفال، ترافق تحريم الموسيقا مع انتشار السلاح بشكل دائم.
يروي وثائقي (الجيل الخامس) عن وليد من دير الزور، كان وليد في السادسة عشرة من عمره حين اتبع مناهج ومعسكرات تدريب تنظيم الدولة داعش، ومع اندحار التنظيم من دير الزور، أمكن لصانعي الوثائقي التحدّث معه عن تلك التجربة. يروي عن تجربة القتل، واللعب بالجثث كما لو أنها لعب أطفال،
ما يهمّنا هو علاقته مع الأغاني الجهاديّة التي كان يسمعها في فترة حكم التنظيم ومعسكرات التدريب، حين سأله مقدّم الوثائقي عن الأمر، لا يخفي وليد مشاعره، إن الإنصات مجدّداً لتلك الأغاني ستؤثّر به بشكل كبير، بنوع من الحنين، يمنع وليد مقدّم الوثائقي من تشغيل المسجلة بأغان جهادية لأنها مازالت تمارس تأثيراً عليه، يقول: "إذا سمعت أنشودة كل شي بيرجع، برجع بحس بدّي كون مع التنظيم"، يبدو مفعماً بالحماس الباطني حين يتحدّث عن ذلك.
وغابت كلياً تلك الموضوعات الأكثر أهميّة التي يمكن لأغاني الأطفال أن تتضمّنها، عن حب المعرفة مثلاً، عن الاكتشاف، والمغامرة، وقيم ومفاهيم أخرى تتسرّب عادة لشخصية الطفل عبر غنى عوالم أغاني الطفولة، التي تحوّلت مع برامج مسابقات الغناء التلفزيونيّة إلى موضوعة وحيدة لا غيرها : الحب.
تكتب المختصّة الموسيقية إلهام أبو السعود في مقال بعنوان (أغنية الطفل في وسائل الإعلام):
"في عصرنا الحاضر وما يتمتع به من تقنيات إعلاميّة هائلة وواسعة الانتشار يتأثّر الأطفال تأثراً كبيراً لا يمحى بأغاني الكبار التي تقدّم لهم في البيت والشارع ووسائل النقل والإعلام، وكل ذلك يتمّ في زمن غابت فيه أغنية الطفل المعبّرة عنه والمناسبة لعمره وإدراكه، نرى استغلالاً حقيقياً للطفولة في أبشع أنواع الاستغلال وخاصّة تشجيع الأطفال ذوي الموهبة والأصوات الطفوليّة الجميلة على تقديم أغنيات الكبار في النوادي الليليّة وبرامج الإذاعة والتلفزيون... إن أطفالنا مع كلّ الأسف لا يجدون ما يغنّونه مما هو موجّه لهم نتيجة لعدم وجود ما يجذبهم، فيردّدون ألحان الإعلانات والدعايات التجاريّة التلفزيونيّة وغيرها من أغاني الكبار، والتي هي على كل حال في حاجة إلى إعادة نظر فكري وفني".
في مقاله "ذا فويس كيدز اكتشاف للموهبة أم متاجرة بالطفولة؟" يبين محمد السعدني أن وراء رغبة الطفل أو موهبته في الغناء هناك توتر كبير يعيشه في تلك التجربة: "خلف مشهد غناء الطفل هناك كرنفال تسويقي، معلنون يتهافتون لترويج بضاعتهم من خلال البرنامج ووقت عرضه. بالتوازي مع مشهد يصارع فيه الأطفال لتحقيق حلم الشهرة، تدور الأموال دورتها، ويُساق الطفل لمشهد، ولا شك، سيؤثر على سلوكه مستقبلاً دون اختياره، حيث يُعرض الطفل كبضاعة تسويقيّة تمرّ عبر مراحل التقييم، فلا يشترط أن يكون صوتك جيداً لتفوز، لكن عليك أن تقنع الجمهور بالتصويت لك، والإقناع لا يشترط فيه موهبة الصوت، فهل هذه المسابقات تسعى للكشف عن المواهب، أم هي متاجرة بالأطفال عبر منطق يحكمه السوق؟"
في المقالة ذاتها يبين محمد السعدني أن المدافعين عن هذا النوع من البرامج، يؤكدون باستمرار على أهمية الشهرة للموهبة الفنيّة المشاركة، لكن عند سؤال المشاهير أنفسهم إن كانوا يعتقدون أنّ تجربة الشهرة جيدة لأطفالهم، فقد فضّل كثير من المشاهير العرب والأجانب النأي بأطفالهم بعيداً عن أضواء الشهرة لما ارتأوا في ذلك من حفاظ على استقرارهم النفسي. رغم تسابق المصوّرين في الحصول على صور للمشاهير مع أطفالهم فإن عدداً منهم يجهد بالفعل في إبقاء أطفاله بعيداً عن أضواء الصحف والمجلات.
تقول الأخصائيّة النفسيّة د. ياسمين علي: "إن المشكلة في هذا النوع من البرامج أن القبول لدى الطفل يُترجم إلى عدد المشاهدات والتفاعل، وإن الضوء الذي يتمّ تسليطه على الأطفال نتيجة الشهرة المبكّرة قد لا يساعد الطفل في النضج والنموّ بطريقة سليمة؛ إذ إن أساس الاضطرابات النفسيّة هو عبارة عن إدراك خاطئ للذات، سواء كان هذا الإدراك عن طريق إعطاء الذات قدراً أكبر أو أقلّ من قدرها، أو فهم الذات والحياة بصورة مختلفة".
وتضيف د. ياسمين علي: "إن نضوج الذات يلزمه بيئة هادئة وغير مشحونة بالضغوطات أو الاهتمام المبالغ فيه، وإن هذا الزخم الذي تحدثه الشهرة المبكّرة في حياة المراهق قد تدفعه إلى إدمان الاهتمام المثار حوله وفهم نفسه من خلال هذا الاهتمام وعدم تصورها بدونه، كما أنه ليس من حق الوالدين أن يقحما طفلهما الصغير الذي لم يبلغ سن الرشد في تجربة بهذه الكثافة في سنّ لا يمكنه فيه أخذ قرار كبير كهذا بشأن حياته"
تتابع سامية علام في مقالها "تريدون الشهرة لأطفالكم، هل يدفعون الثمن؟" الطفل أحمد السيسي الذي أبهر الملايين خلال مشاركته في الموسم الأول من برنامج The Voice Kids لصغر سنه، 8 سنوات فقط، ولحضوره اللافت وصوته الجميل، ورغم أن السيسي أكّد للصحفيين أنه سعيد بجوّ الشهرة من اهتمام الزملاء وتدافع الناس لالتقاط الصور له، وكذلك الحفلات التي يحييها، فقد بدا غير مدرك لسؤالنا بشأن تأثير الشهرة عليه، فهو يرى أن "المدرسة كلها باتت تعرفني والجميع أصحابي".
أما منى السيسي، والدة أحمد، فهي أكثر إدراكاً لما يحدث وتقول: "أحزن عليه كثيراً بسبب تجمّع الجمهور حوله في كل مكان، وهذا ما يمنعه من اللعب في النادي أو الاستمتاع بأي نزهة معنا، وطالما طلب العودة للمنزل لغضبه من ذلك. لكنه سرعان ما يتذكّر نصيحة الفنان تامر حسني بألا يظهر ما بداخله أمام الجمهور مهما كان تعبه".
وقد اضطرّت الأسرة لنقل نجمهم الصغير من مدرسته بعد البرنامج بسبب استغلال غير مقصود له من خلال إجراء المقابلات الصحافية معه داخل الفصل وإبعاده عن دراسته وغضب مدرّسيه منه لعدم انتظامه في المواد المختلفة وانشغاله بتدريبات الموسيقا، فضلاً عن عدم قدرته على الاستمتاع بفترة "الفسحة" لتجمّع زملائه حوله بغرض الغناء لهم.
وتكشف كيف تشجّع الكثير من الأغاني على الولع الجنسي بالأطفال، سواء من خلال كلمات الأغنية، أو من خلال الفيديو الكليب المرافق لها، أو كلاهما معاً، يغنّي عمرو دياب مثلاً: "يا ريت سنك يزيد سنتين عشان سنك كدة صغير، يزيد لكن في تكوينك مفيش ولا حاجة تتغير، قوامك هو هو يكون ولونك يبقى نفس اللون. أنا لو بس مش طيب مافيش ولا حاجة تمنعني".
في التسعينات راجت أغنية "زتي عنك هالمريول" لزين العمر، وهي تخاطب طالبة مدرسة، يطلب منها التخلّص من المدرسة والزواج منه. والمضحك أن زين العمر يعترض على رفض أهل "حبيبته" زواجها منه لصغر سنها وينتقده: "إمك ما بدا تعطي وبيّك خبرتو القصة قلي ما بجوز بنتي بعدا ما خلصت درسها، الله يقطع عمر الدرس بدي ياكي إنتي"، وعلى منوالها ظهرت أغنية حسين الديك "ناطر بنت المدرسة".
من استغلال الطفولة في بثّ الثقافة المسيحية عبر فنّ التراتيل الكنسيّة، إلى استعمال الأطفال في حفظ الألحان الموسيقيّة قبل ابتكار لغة التنويط الموسيقي، إلى القسوة التي تلجأ إليها العائلات الراغبة بالثراء من موهبة موسيقيّة لدى أبنائها، كذلك عمليات خِصاء الأطفال لمجرّد الحصول على صوت محدّد من أنواع الأصوات، العمليّة التي استمرّت ممارستها لثلاثة قرون.
كلها حالات يبدو فيها الفن الموسيقي وبالاً على عالم الطفولة، كذلك استغلال الطفولة في الأغاني الإيديولوجيّة، الجهاديّة، والإرهابيّة، برامج المسابقات وأخيراً اطلعنا على أغاني البيدوفيليا الرائجة في الثقافة العربيّة. كانت هذه لمحة عن المصير المأساوي التي تعانيه الطفولة في بعض الظواهر المتعلّقة بالفنّ الموسيقيّ.
حين يكون الفن الموسيقي وبالاً على عالم الطفولة: استغلال في الأغاني الإيديولوجيّة، الجهاديّة، والإرهابيّة، وبرامج المسابقات وأغاني البيدوفيليا الرائجة في الثقافة العربيّة
إلغاء مادة الموسيقى
في بحثه المعنون "الأطفال في ظلّ تنظيم الدولة" يبيّن الباحث وسيم السلطي، الوسائل، والأساليب، والتنظيم الهيكلي الذي أسّسه تنظيم الدولة "داعش" بغاية تجنيد الأطفال واستقطابهم إلى إيديولوجيته في المناطق التي خضعت لسيطرته، وطبعاً كان لمنظّري التنظيم ومفكّريه أن يلغوا المناهج التربويّة التي كانت متبعة سابقاً، وأسّسوا لمناهج جديدة تتوافق مع رؤيتهم الفكريّة والإيديولوجيّة. ما يهمّنا هنا هو إعلان القائمين على مناهج التعليم في تنظيم الدولة بإلغاء المناهج المدرسيّة لمادة الموسيقا. فقد أصدر التنظيم تعميماً موجهاً إلى المؤسسات التربويّة والتعليميّة في المناطق الخاضعة لسيطرته في سوريا ينصّ على إلغاء مناهج عدد من المواد الدراسيّة الموضوعة من قبل النظام سابقاً في مقدمتها التربية الموسيقيّة والتاريخ والتربية الإسلاميّة. إذن، لقد عاش أطفال مدن برمّتها محرومين من الموسيقا، مثل مدينة الرقة، ودير الزور، والموصل. من الواضح أن الحركات المتشدّدة دينياً، ألغت الموسيقا من مناهجها المدرسيّة، لكن هل استبدلتها بدروس تلقين أغان أو أناشيد جهاديّة؟ يبدو السؤال هامّاً عند المقارنة بينها وبين أساليب المناهج التربويّة للأنظمة الشموليّة القوميّة. يجيب الباحث وسيم السلطي، على هذا التساؤل: "خلال بحثي في موضوع تجنيد الأطفال لم يرد ذكر تخصيص التنظيم دروس خاصّة للأناشيد، وإن وجدت فهي من دون موسيقا وتعتمد على انتقاء الخامات الصوتيّة الجيدة لتأسّس عليها فنون الخطابة والإلقاء، ولكن يمكن الحديث بأن التنظيم استعاض عن الأناشيد بموضوع تعليم الأطفال فن الخطابة وحفظ الأحاديث والقرآن".النظام التعليمي الذي أسّست له داعش كان يُلزم الأطفال في كل صباح وفي أثناء الأنشطة التعليميّة و"الترفيهيّة" والمسابقات ترديد التكبيرات مع رفع سبابة الإصبع الأيمن وترديد مقولة "دولة الإسلام" وتكون الإجابة من الأطفال "باقية"
وعند سؤاله إن كانت داعش قد فرضت على طلاب مدارسها ترديد شعارات صباحية دينيّة بدلاً من تلك الشعارات القومية التي كانت تردّد في المدارس السورية سابقاً، أجاب الباحث وسيم السلطي: "لم تفرض شعارات صباحيّة، إنما النظام التعليمي الذي أسّست له داعش كان يُلزم الأطفال في كل صباح وفي أثناء الأنشطة التعليميّة و(الترفيهيّة) والمسابقات ترديد التكبيرات مع رفع سبابة الإصبع الأيمن وترديد مقولة "دولة الإسلام" وتكون الإجابة من الأطفال "باقية" إلى جانب الزيّ الموحّد".
حين المقارنة بين عدّة مدن حرم أطفالها من الموسيقا مثل كابول – أفغانستان، أو الرقة ودير الزور في سورية، والموصل ومدينة الصدر في العراق، نلاحظ ظاهرة تتكرّر بين هذه المدن، ألا وهي تلازم غياب الآلات الموسيقيّة وتحريمها، مع انتشار الأسلحة بدلاً عنها. في كلّ تلك المدن أُنشِئت معسكرات تدريبيّة للمقاتلين الأطفال، ترافق تحريم الموسيقا مع انتشار السلاح بشكل دائم.
يروي وثائقي (الجيل الخامس) عن وليد من دير الزور، كان وليد في السادسة عشرة من عمره حين اتبع مناهج ومعسكرات تدريب تنظيم الدولة داعش، ومع اندحار التنظيم من دير الزور، أمكن لصانعي الوثائقي التحدّث معه عن تلك التجربة. يروي عن تجربة القتل، واللعب بالجثث كما لو أنها لعب أطفال،
ما يهمّنا هو علاقته مع الأغاني الجهاديّة التي كان يسمعها في فترة حكم التنظيم ومعسكرات التدريب، حين سأله مقدّم الوثائقي عن الأمر، لا يخفي وليد مشاعره، إن الإنصات مجدّداً لتلك الأغاني ستؤثّر به بشكل كبير، بنوع من الحنين، يمنع وليد مقدّم الوثائقي من تشغيل المسجلة بأغان جهادية لأنها مازالت تمارس تأثيراً عليه، يقول: "إذا سمعت أنشودة كل شي بيرجع، برجع بحس بدّي كون مع التنظيم"، يبدو مفعماً بالحماس الباطني حين يتحدّث عن ذلك.
برامج مسابقات المواهب
على خطى برامج أوربيّة وأمريكيّة تبحث عن المواهب الفنيّة والغنائيّة، حقّقت الفضائيات العربيّة مجموعة من برامج على هذا النوع منها: المواهب العربيّة التي أنتجته قناة MBC سنوياً منذ العام 2011، وكذلك The Voice Kids، الذي حقّقت منه القناة الفضائية ذاتها MBC موسميين في العام 2016 والعام 2017، وقد حققت حلقات مواهب الأطفال نجاحاً كبيراً، وحصدت الكثير من الأرباح الماليّة، وقرّرت زيادة رأس المال الإنتاجي لبرامج مواهب الأطفال في السنة اللاحقة. لكن زيادة تكلفة الإنتاج جعل دقيقة التصوير والبث التلفزيونية عالية التكلفة، مما جعل كامل برنامج المسابقة يُكتب كسكريبت، ينفّذه الجميع، من المقدمين إلى لجنة التحكيم، إلى الأطفال المشاركين أنفسهم وعائلتهم. لقد عرف صانعو هذا النوع من البرامج الوصفة العاطفيّة وكوادر الكاميرا ولحظات الموسيقا التصويريّة التي تؤثّر بالمتلقّي، وحرصوا على تحقيقها بدقّة وبمبالغة أكثر في كلّ حلقة عن التي سبقتها. يشجّع بعض المفكّرين العرب هذه البرامج التي يعتبرونها تساعد في اكتشاف مواهب فنيّة لدى الأطفال ويتم إبرازها، لكن هنا لابد من التوقّف عند نوعية الأغاني التي يؤدّيها الأطفال كي يفوزوا بالمسابقة، إنها أغان للبالغين، تدور موضوعاتها في فلك الحب، العشق، الذوبان، والهيام، وهكذا تُحرم الطفولة العربيّة من التنويعات التي تحويها أغاني الأطفال الخاصّة بهذه المرحلة، ويُدفع الطفل العربي إلى تبنّي خطاب البالغين العشقي والعاطفي، وبالتالي الخطاب الخالي إلا من قصص الحب والفراق والذوبان.في أغاني برامج مسابقات المواهب غابت كلياً تلك الموضوعات الأكثر أهميّة التي يمكن لأغاني الأطفال أن تتضمّنها، عن حب المعرفة مثلاً، عن الاكتشاف، والمغامرة، وقيم ومفاهيم أخرى تتسرّب عادة لشخصية الطفل عبر غنى عوالم أغاني الطفولة، التي تحوّلت مع برامج مسابقات الغناء التلفزيونيّة إلى موضوعة وحيدة لا غيرها : الحب.
وغابت كلياً تلك الموضوعات الأكثر أهميّة التي يمكن لأغاني الأطفال أن تتضمّنها، عن حب المعرفة مثلاً، عن الاكتشاف، والمغامرة، وقيم ومفاهيم أخرى تتسرّب عادة لشخصية الطفل عبر غنى عوالم أغاني الطفولة، التي تحوّلت مع برامج مسابقات الغناء التلفزيونيّة إلى موضوعة وحيدة لا غيرها : الحب.
تكتب المختصّة الموسيقية إلهام أبو السعود في مقال بعنوان (أغنية الطفل في وسائل الإعلام):
"في عصرنا الحاضر وما يتمتع به من تقنيات إعلاميّة هائلة وواسعة الانتشار يتأثّر الأطفال تأثراً كبيراً لا يمحى بأغاني الكبار التي تقدّم لهم في البيت والشارع ووسائل النقل والإعلام، وكل ذلك يتمّ في زمن غابت فيه أغنية الطفل المعبّرة عنه والمناسبة لعمره وإدراكه، نرى استغلالاً حقيقياً للطفولة في أبشع أنواع الاستغلال وخاصّة تشجيع الأطفال ذوي الموهبة والأصوات الطفوليّة الجميلة على تقديم أغنيات الكبار في النوادي الليليّة وبرامج الإذاعة والتلفزيون... إن أطفالنا مع كلّ الأسف لا يجدون ما يغنّونه مما هو موجّه لهم نتيجة لعدم وجود ما يجذبهم، فيردّدون ألحان الإعلانات والدعايات التجاريّة التلفزيونيّة وغيرها من أغاني الكبار، والتي هي على كل حال في حاجة إلى إعادة نظر فكري وفني".
في مقاله "ذا فويس كيدز اكتشاف للموهبة أم متاجرة بالطفولة؟" يبين محمد السعدني أن وراء رغبة الطفل أو موهبته في الغناء هناك توتر كبير يعيشه في تلك التجربة: "خلف مشهد غناء الطفل هناك كرنفال تسويقي، معلنون يتهافتون لترويج بضاعتهم من خلال البرنامج ووقت عرضه. بالتوازي مع مشهد يصارع فيه الأطفال لتحقيق حلم الشهرة، تدور الأموال دورتها، ويُساق الطفل لمشهد، ولا شك، سيؤثر على سلوكه مستقبلاً دون اختياره، حيث يُعرض الطفل كبضاعة تسويقيّة تمرّ عبر مراحل التقييم، فلا يشترط أن يكون صوتك جيداً لتفوز، لكن عليك أن تقنع الجمهور بالتصويت لك، والإقناع لا يشترط فيه موهبة الصوت، فهل هذه المسابقات تسعى للكشف عن المواهب، أم هي متاجرة بالأطفال عبر منطق يحكمه السوق؟"
في المقالة ذاتها يبين محمد السعدني أن المدافعين عن هذا النوع من البرامج، يؤكدون باستمرار على أهمية الشهرة للموهبة الفنيّة المشاركة، لكن عند سؤال المشاهير أنفسهم إن كانوا يعتقدون أنّ تجربة الشهرة جيدة لأطفالهم، فقد فضّل كثير من المشاهير العرب والأجانب النأي بأطفالهم بعيداً عن أضواء الشهرة لما ارتأوا في ذلك من حفاظ على استقرارهم النفسي. رغم تسابق المصوّرين في الحصول على صور للمشاهير مع أطفالهم فإن عدداً منهم يجهد بالفعل في إبقاء أطفاله بعيداً عن أضواء الصحف والمجلات.
تقول الأخصائيّة النفسيّة د. ياسمين علي: "إن المشكلة في هذا النوع من البرامج أن القبول لدى الطفل يُترجم إلى عدد المشاهدات والتفاعل، وإن الضوء الذي يتمّ تسليطه على الأطفال نتيجة الشهرة المبكّرة قد لا يساعد الطفل في النضج والنموّ بطريقة سليمة؛ إذ إن أساس الاضطرابات النفسيّة هو عبارة عن إدراك خاطئ للذات، سواء كان هذا الإدراك عن طريق إعطاء الذات قدراً أكبر أو أقلّ من قدرها، أو فهم الذات والحياة بصورة مختلفة".
وتضيف د. ياسمين علي: "إن نضوج الذات يلزمه بيئة هادئة وغير مشحونة بالضغوطات أو الاهتمام المبالغ فيه، وإن هذا الزخم الذي تحدثه الشهرة المبكّرة في حياة المراهق قد تدفعه إلى إدمان الاهتمام المثار حوله وفهم نفسه من خلال هذا الاهتمام وعدم تصورها بدونه، كما أنه ليس من حق الوالدين أن يقحما طفلهما الصغير الذي لم يبلغ سن الرشد في تجربة بهذه الكثافة في سنّ لا يمكنه فيه أخذ قرار كبير كهذا بشأن حياته"
تتابع سامية علام في مقالها "تريدون الشهرة لأطفالكم، هل يدفعون الثمن؟" الطفل أحمد السيسي الذي أبهر الملايين خلال مشاركته في الموسم الأول من برنامج The Voice Kids لصغر سنه، 8 سنوات فقط، ولحضوره اللافت وصوته الجميل، ورغم أن السيسي أكّد للصحفيين أنه سعيد بجوّ الشهرة من اهتمام الزملاء وتدافع الناس لالتقاط الصور له، وكذلك الحفلات التي يحييها، فقد بدا غير مدرك لسؤالنا بشأن تأثير الشهرة عليه، فهو يرى أن "المدرسة كلها باتت تعرفني والجميع أصحابي".
أما منى السيسي، والدة أحمد، فهي أكثر إدراكاً لما يحدث وتقول: "أحزن عليه كثيراً بسبب تجمّع الجمهور حوله في كل مكان، وهذا ما يمنعه من اللعب في النادي أو الاستمتاع بأي نزهة معنا، وطالما طلب العودة للمنزل لغضبه من ذلك. لكنه سرعان ما يتذكّر نصيحة الفنان تامر حسني بألا يظهر ما بداخله أمام الجمهور مهما كان تعبه".
وقد اضطرّت الأسرة لنقل نجمهم الصغير من مدرسته بعد البرنامج بسبب استغلال غير مقصود له من خلال إجراء المقابلات الصحافية معه داخل الفصل وإبعاده عن دراسته وغضب مدرّسيه منه لعدم انتظامه في المواد المختلفة وانشغاله بتدريبات الموسيقا، فضلاً عن عدم قدرته على الاستمتاع بفترة "الفسحة" لتجمّع زملائه حوله بغرض الغناء لهم.
الأغاني البيدوفيلية
في مقالها اللمّاح بعنوان "موسيقى بيدوفيلية: أغاني الكبار حين تسيء للأطفال"، تعرّف سارة القضاة ظاهرة البيدوفيليا أو الغلمانية بولع البالغين جنسيّاً بالأطفال.تشجّع بعض الأغاني العربية على الولع الجنسي بالأطفال (الـ"بيدوفيليا")، سواء من خلال كلمات الأغنية، أو من خلال الفيديو الكليب المرافق لها، أو كلاهما معاً
وتكشف كيف تشجّع الكثير من الأغاني على الولع الجنسي بالأطفال، سواء من خلال كلمات الأغنية، أو من خلال الفيديو الكليب المرافق لها، أو كلاهما معاً، يغنّي عمرو دياب مثلاً: "يا ريت سنك يزيد سنتين عشان سنك كدة صغير، يزيد لكن في تكوينك مفيش ولا حاجة تتغير، قوامك هو هو يكون ولونك يبقى نفس اللون. أنا لو بس مش طيب مافيش ولا حاجة تمنعني".
في التسعينات راجت أغنية "زتي عنك هالمريول" لزين العمر، وهي تخاطب طالبة مدرسة، يطلب منها التخلّص من المدرسة والزواج منه. والمضحك أن زين العمر يعترض على رفض أهل "حبيبته" زواجها منه لصغر سنها وينتقده: "إمك ما بدا تعطي وبيّك خبرتو القصة قلي ما بجوز بنتي بعدا ما خلصت درسها، الله يقطع عمر الدرس بدي ياكي إنتي"، وعلى منوالها ظهرت أغنية حسين الديك "ناطر بنت المدرسة".
من استغلال الطفولة في بثّ الثقافة المسيحية عبر فنّ التراتيل الكنسيّة، إلى استعمال الأطفال في حفظ الألحان الموسيقيّة قبل ابتكار لغة التنويط الموسيقي، إلى القسوة التي تلجأ إليها العائلات الراغبة بالثراء من موهبة موسيقيّة لدى أبنائها، كذلك عمليات خِصاء الأطفال لمجرّد الحصول على صوت محدّد من أنواع الأصوات، العمليّة التي استمرّت ممارستها لثلاثة قرون.
كلها حالات يبدو فيها الفن الموسيقي وبالاً على عالم الطفولة، كذلك استغلال الطفولة في الأغاني الإيديولوجيّة، الجهاديّة، والإرهابيّة، برامج المسابقات وأخيراً اطلعنا على أغاني البيدوفيليا الرائجة في الثقافة العربيّة. كانت هذه لمحة عن المصير المأساوي التي تعانيه الطفولة في بعض الظواهر المتعلّقة بالفنّ الموسيقيّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع