لم يكن انتحاراً بل غضباً عارماً. أحرق جورج زريق جسده مُشعلاً شرارة في قلب طفليه.. اختار أن يغادر الحياة في ساحة مدرستهما حرقاً حين عجز عن دفع أقساطها.
نيران جسد جورج أشعلت من جديد غضب المواطن العربي، في العالم الافتراضي وخارجه معيدة إلى الأذهان صورة البائع المُتجول التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010 احتجاجاً على مُصادرة عربته، مُشعلاً نيران شتاء غاضب في ربوع تونس ودول عربية أخرى، لم تخمد إلى اليوم.
رحل زريق يوم الجمعة 8 فبراير بعدما أحرق جسده في باحة مدرسة ابنته، ثانوية سيدة بكفتين الأرثوذكسية، في قرية بكفتين شمالي لبنان، احتجاجاً على عدم منحه إفادة مدرسية لنقل ابنته من مدرستها الخاصة إلى مدرسة أُخرى حكومية أقل تكلفة. نُقل جورج إلى المستشفى لكن النار قضت على 80% من جسده، فانطفأت روحه.
زريق كالبوعزيزي، كان بسيطاً. مُعانتهما ليست غريبة ولا جديدة. واجها الفقر واستسلما أمام "كُفره".
كان زريق قد نَقَل ابنه من مدرسة سيّدة بكفتين إلى مدرسة حكومية أقل تكلفة، فيما ترك ابنته بها. وبحسب ما نقله الصحفي محمد نزال عن عائلة الراحل، قرر زريق في ما بعد نقل ابنته أيضاً إلى مدرسة حكومية بعد مُطاردة المدير له في الآونة الأخيرة، لأنه لم يسدد أقساط مدرستها، ورفض المدير منحه إفادة مدرسية مُشترطاً عليه سداد الأقساط المتأخرة.
هاتفه زريق وأخبره أنه سيُحرق جسده أمام المدرسة إن لم يمنحه الإفادة، لكن المدير لم يصغِ.
كان زريق قد عرض عليه أن يعمل سائقاً له ليتمكّن مِن سداد الأقساط، ولكن طلبه قوبل بالرفض، فيما كانت تعمل زوجته عاملة نظافة في المدرسة لتتمكن من تسديد البعض من الأقساط ولكن المدير خصم منها مرّة أكثر من ثلثي راتبها (نحو 500 ألف ليرة ما يُعادل نحو 300 دولار) بدل المتأخّرات.
الحديث عن مُدير المدرسة قد يبدو بلا فائدة بعدما رحل زريق تاركاً ولديه وزوجته، ولكن اللافت كان بيان المدرسة الذي يتعارض مع "حرق" جورج لنفسه بقولها إنها "تعاطفت معه بسبب أوضاعه الاقتصادية، وأعفته من دفع الأقساط المدرسية، باستثناء رسوم النقل والقرطاسية والنشاطات خارج الصف".
كُلنا سنتولى تعليمهما
وفيما اشتعلت مواقع التواصل بردات الفعل على جورج زريق الذي "أطفأ ناره بناره" على حد تعبير المُمثل يوسف الخال، أعلن وزير التربية والتعليم أكرم شهيب تولّيه مُتابعة تعليم ابنيْ زريق والتحقيق مع إدارة المدرسة.
?s=21كما أعلن النائب في مجلس الأمة الكويتي خلف دميثير العنازي في اتصال مع قناة الجديد تبرعه بمبلغ 10 آلاف دولار لعائلة زريق وتخصيص راتب شهري لها لافتاً إلى أن هذا "أقل ما يمكن أن يُقدمه" لعائلة شخص أحرق نفسه من أجل تربية وتعليم طفليه.
وأعلن وزير الدولة لشؤون التجارة الخارجية حسن مراد عبر حسابه على تويتر تكلّف الوزارة "بإتمام الدراسة الجامعية لأولاد الضحية مجاناً في الجامعة اللبنانية الدولية".
وتعليقاً على المُبادرات الإنسانية قال الصحفي اللبناني جمال فيّاض "التقديمات السخية التي نالها أولاد جورج زريق بعد انتحاره، تعني إنك لازم تنتحر وتموت لنهتم فيك، وطالما أنت عايش، ما إلك معنا إلا الذلّ!"، فيما قال الصحفي اللبناني بيار أبي صعب "انحلت مشكلة جورج بعدما أضرم النار في جسده المتعب. باقي سائر أبناء الشعب المسكين. ممكن حدا يساعدنا لنعملُّن دولة؟"
لازم تنتحر وتموت لنهتم فيك
طُرق الاحتجاج أثبتت عدم فعاليتها
تقول الصحفية اللبنانية دُجى داود لرصيف22 إن المواطن العربي لا يحتاج حرق نفسه ليرتفع صوته وصوت قضيته لكنّه في بعض الأحيان لا يملك خياراً آخر بعد أن أثبتت وسائل احتجاجية عدّة في العالم العربي "عدم فعاليتها"، موضحةً أن ما كان "ينفع" سابقاً، قامت الأنظمة العربية بإعداد خطّة لقمعه قبل حصوله، فلم يعد يؤدي الغرض المطلوب.
وأضافت في حديثها: بما أنّ هُناك حكومة جديدة وبرلماناً جديداً نسبياً، هرع الجميع لمواقع التواصل لتبنّي القضية والتباكي بهدف الظهور كأشخاص جيدين عاطفيين.
ولفتت إلى أن المُساعدات التي وصلت للعائلة "تندرج في باب المزايدة السياسية" مُشيرة إلى أن الحل ليس فقط مساعدة العائلة، إنّما إصلاح نظام تعليمي واقتصادي كامل كي لا يتكرّر وجع جورج.
وقالت لرصيف22 إن الأصوات تعلو كُل مرة عند الكشف عن قضية ما لافتةً إلى أن الإعلام لا يُتابع القضايا كي يخبر الرأي العام أين وصلت، إلا في قضايا قليلة، ولا يعود السياسيون للحديث عنها لأنهم "لا يريدون تسليط الأضواء على نتائج حكمهم المستمرّ منذ الحرب الأهلية اللبنانية"، بحسب قولها، مُضيفة: هكذا تموت قضية لتظهر غيرها، دون إيجاد حلّ للأولى، فتبقى جذور المشكلة متأصّلة.
وأكّدت دُجى أن خبر إشعال جورج النيران في جسده لم يكن لينتشر لولا مجموعة الصحافيين الشباب الذين اطّلعوا على الوكالة الوطنية للإعلام ووجدوا الخبر في "خانة المتفرقات"، ونشروه على فيسبوك، قائلةً إن جورج يشبه اللبنانيين لأن الفقر ومعاناة الأقساط والتعليم هي "مشكلات جامعة" في لبنان، وهو ما فجر هذا التضامن الجماعي.
جورج زريق كمحمد البوعزيزي، كان بسيطاً. مُعانتهما ليست غريبة ولا جديدة. واجها الفقر واستسلما أمام "كُفره".
تقول منى فواز لرصيف22 إن مُشكلة الأوطان العربية رُبما تحل إن شعر من في السلطة أن المرة القادمة قد يتعرض للحرق من قبل مواطن جائع. ما يُعيدنا إلى كلمات زياد الرحباني: أنا مش كافر بس الجوع كافر، أنا مش كافر بس المرض كافر..
لمن ترك ابنته؟
"نحن بحاجة لثورة على ذاتنا، لنرفض الأساليب القمعية والخيارات المفروضة، ولسنا بحاجة لحرق أنفسنا"، يقول الصحفي والمدوّن اللبناني أحمد ياسين لرصيف22، مُتسائلاً: "جورج زريق أحرق نفسه من أجل ابنته، ولكن لمن تركها؟"
ولفت ياسين إلى أن تبرّع النائب الكويتي خلف دميثير العنازي هو لفتة إنسانية تجاه العائلة وصرخة غضب بوجه المسؤولين اللبنانيين المصابين بـ "حالة انفصال عن الواقع"، والمُتجاهلين سوداوية الوضع الاقتصادي الذي أوصل جورج للانتحار حرقاً، وقبله محمد شراب الذي قَتل ولديه وانتحر الشهر الماضي.
فيما قالت الكاتبة ميشلين حبيب: "مش مطلوب من النائب يتكفّل بأقساط أولاد جورج زريق بعد خسارة والدهم، المطلوب من النائب يقوم بواجباته التي من شأنها تمنع حدوث مثل هذه المأساة"، لافتةً إلى أن دفع الأموال والاستنكار على منصّات كتويتر لا تحمي المواطن ولا حقوقه.
لم يُشعل زريق سوى مواقع التواصل
تقول الإعلامية اللبنانية يُمنى فوّاز لرصيف22 إنها "تشك" بأن يتأثر أي حاكم عربي إن أحرق عدد كبير من المواطنين أنفسهم، مُعتبرةً أن لهؤلاء الحُكام "قدرة هائلة على الإنكار وما يقابلها من نفاق تجاه الشعوب". ولفتت إلى أن أمراً واحداً قد يحرّكهم فقط: تدخّل الدول الكُبرى، انطلاقاً من "الخوف على مناصبهم" لا رأفة بالمواطنين.
وقالت إن في حين أشعل البوعزيزي ثورة الربيع العربي، لم يُشعل زريق سوى وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان واستطاع أن يحصل على منح تعليمية لأولاده و"بضعة آلاف لعائلته، لا أكثر"، بحسب قولها.
ولفتت في حديثها مع رصيف22 إلى أن اللافت كان لوم الدولة من قبل السياسيين والمواطنين معاً، مُتسائلة: إن كان الجميع في خانة واحدة، فمن نتهم ومن نحاسب وكيف يتم معالجة الأمر؟
وأكّدت فوّاز أن المواطن العربي الذي يحرق نفسه لن يُحرّك سوى "القليل من المتعاطفين"، ويُشكّل "إزعاج" لدولته لا "صحوة الإنكار"، لافتةً إلى أن مُشكلة الأوطان العربية رُبما تحل إن شعر من في السلطة أن المرة القادمة قد يتعرض للحرق من قبل مواطن جائع. ما يُعيدنا إلى كلمات زياد الرحباني: أنا مش كافر بس الجوع كافر، أنا مش كافر بس المرض كافر، أنا مش كافر بس الفقر كافر والذل كافر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...