شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عُملة المستعمرات الفرنسية في أفريقيا.. العبودية النقدية في العصر الحديث

عُملة المستعمرات الفرنسية في أفريقيا.. العبودية النقدية في العصر الحديث

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

اقتصاد

الاثنين 4 فبراير 201905:26 م
اسمها يحمل دلالتِها، إنها العُملة الأغرب في العصر الحديث، عُملة متداولة في 14 بلدًا إلا أنها لا تُسكُّ في أيّ  دولة من هذه الدولة، بل في دولة بعيدة آلاف الكيلومترات عنها، دولة كانت تستعمر الدول الـ14 المعنية بهذه العملة. اسم عملة CFA يحمل في أحرفه الأولى دلالات خطيرة إذ تعني حرفياً المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، رغم حصول تلك المستعمرات على استقلالها منذ ستينيات القرن الماضي إلا أنها تستخدم عملةً على أراضيها تنعتها بـ “المستعمرات” وتعاملها معاملة المستعمَر ولهذا يطلق عليها بعض أساتذة الاقتصاد في العالم عُملةَ "العبودية النقدية الطوعية"، كونها ما زالت تحمل رموز الاستعمار من حيث اسمُها ومن حيث خضوعُها حقاً لفرنسا وسنشرح كيف. تُسكّ هذه العملة التي تربط 14 بلداً من مستعمرات فرنسا السابقة فيما بينها حصراً في قرية نائية في منطقة فرنسية في كليرمون فيرون في مدينة بوردو، ما يجعلها عملة استعمارية في كل شيء: الاسم، الاحتكار، الاستخدامات، شروط تداولها، وغيرها.

تراشق لفظي بين المستعمرين

أعاد التراشق اللفظي الأسابيع الأخيرة بين إيطاليا وفرنسا إلى الواجهة النقاشَ بشأن عملة CFA حين صرح نائب رئيس الوزراء الايطالي لويجي دي مايو بأن "فرنسا واحدة من تلك الدول التي تتسبب بسكّها عملة 14 دولة أفريقية بحرمانها من التنمية الاقتصادية". بعيدًا عن التجاذب بين اليمين المتطرف الإيطالي وإدارة إيمانويل ماكرون في فرنسا، إلا أن في حديث دي مايو جانباً من الصحة في ما يتعلق باحتكار فرنسا سك عملة  تلك الدول وإن كانت إيطاليا آخر من يقدم دروسًا في احترام المستعمرات السابقة وحقوق الإنسان وتفقير أفريقيا. عملة CFA المتداولة في 14 دولة أفريقية تختصر الأحرف الأولى من اسم colonies françaises d’Afrique أي المستعمرات الفرنسية في أفريقيا. فرضت فرنسا هذه العملة شرطًا قبل منح المستعمرات الأفريقية حق التحرر في ستينيات القرن الماضي وفرضت عليها أن يكون سكّ هذه العملة حقَ  فرنسا الحصري وتدفع مقابله الدول الـ14 نحو 50% من ثرواتها ضريبةً للخزينة الفرنسية. وتزعم فرنسا أن هذه العملة هي عنوان "تعاون" بينها وبين مستعمراتها السابقة، إلا أن مستعمرات أفريقية أخرى اختارت الخروج من سيطرة الاحتلال الفرنسي والحصول على الاستقلال التام بما في ذلك الاستقلال النقدي فاختارت نيجيريا عملة وطنية هي نايرا واختارت غانا عملة سيدي واختارت دول شمال أفريقيا الدينار أو الدرهم فيما بقيت المستعمرات الأخرى ترزخ تحت وطأة فرنسا رغم استقلالها.

تاريخ فرنك CFA

ظهرت منطقةُ التعامل بالفرنك الفرنسي عام 1939 وكانت تمثل مدخولاً  لفرنسا الاستعمارية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وعند نهاية الحرب العالمية الثانية خلقت فرنسا عملة CFA بالإضافة إلى فرنك CFP وهو فرنك مستعمرات المحيط الهادي، ببساطة هي عملة يفرضها المستعمِر على المستعمَر. هذا ما جعل من رجل الاقتصاد الإيفواري نيكولا أغبوهو يسمي هذا الفرنك "النازية النقدية” لأنه يُبيد كل شيء وتتحكم به قوة تتدعي تفوقها على أمم استعمرتها. وفي ستينيات القرن الماضي حين قرر الزعيم الفرنسي شارل دوغول منح المستعمرات الفرنسية في أفريقيا الاستقلال لم يشأ منحها الاستقلال التام بل خلق صيغةَ استعمار جديد تتمثل في ربط المستعمرات اقتصادياً بفرنسا وللأبد.
اسم عملة CFA يعني حرفياً المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، رغم حصول تلك المستعمرات على استقلالها منذ ستينيات القرن الماضي إلا أنها تستخدم عملةً على أراضيها تنعتها بـ “المستعمرات” وتعاملها معاملة المستعمَر ولهذا يطلق عليها بعض أساتذة الاقتصاد في العالم عُملةَ "العبودية النقدية الطوعية".
تُسكّ عملة CFA التي تربط مستعمرات فرنسا السابقة حصراً في قرية نائية في منطقة فرنسية في كليرمون فيرون في مدينة بوردو، ما يجعلها عملة استعمارية في كل شيء: الاسم، الاحتكار، الاستخدامات، شروط تداولها، وغيرها.
فرضت فرنسا عملة CFA شرطًا قبل منح المستعمرات الأفريقية حق التحرر وفرضت عليها أن يكون سكّ هذه العملة حقَ فرنسا الحصري وتدفع مقابله الدول الـ14 نحو 50% من ثرواتها ضريبةً للخزينة الفرنسية
ووضع شروطاِ: أن تُسكَّ عملةُ هذه الدول حصراً في فرنسا وأن تودع 65% من مخزونها من العملة الصعبة في البنك المركزي الفرنسي هذه النسبة انخفضت إلى 50% عام 2005. وهذا المخزون الضخم الذي يعادل نصف ثروات 14 دولة أفريقية ثرية ليس على ذمة هذه الدول ولا يحق لها استغلاله بل هو مخزون على ذمة الاقتصاد الفرنسي وتجني فرنسا أرباحاً طائلة منه ما يعني كذلك أن نصف مداخيل 14 دولة هو بيد فرنسا، وقُدر هذا لمخزون عام 2014 بـ 800 مليار فرنك CFA أي 12 مليار يورو.

قابلية تحويل العملة..ربط إجباري باليورو

تحكُّمُ فرنسا بعملة 14 بلداً يشمل كذلك ربط الفرنك بارتفاع اليورو أو انخفاضه فحين ينخفض اليورو ينخفض الفرنك CFA فاقتصادات 14 لاتملك حق التدخل في سعر صرف عملتها وحتى صادراتها ووارداتها مرتبطة بفرنسا لأن باريس تحدد سعرَ صرف العملة ولهذا انعكاس مباشر على قدرتها التنافسية. باختصار فرنسا تقوم بشكل رسمي وعلني منذ الستينيات بعملية نهب ضخمة لاقتصادات 14 دولة، فرنسا تجني أرباحَ جهود هذه الدول التي عليها ضخ نصف ثرواتها في الخزينة الفرنسية وهذا سبب مباشر لهروب رؤوس الأموال الأفريقية إلى أوروبا والمقدرة بنحو 850 مليار دولار بين 1970 و2008 وفق تقديرات رجل الاقتصاد السنغالي دنبا موسى دنبيلي.

مدراء فرنسيون في البنوك المركزية

ليس هذا فقط بل إن فرنسا تفرض تعيين 4 مديرين فرنسيين في البنك المركزي لدول أفريقيا الوسطى والبنك المركزي لدول أفريقيا الغربية ويتدخل هؤلاء في القرارات بل يستخدمون حق الفيتو في وجه أي قرار لا يصب في مصلحة فرنسا. سيطرةُ فرنسا على عملة الدول الأفريقية مَنَحت المؤسسات الفرنسية كذلك موقعاً استثنائيًّا في اقتصاد هذه الدول ولم يكن لهذه الدول حتى حق إلقاء نظرة على عملتها، كانت فرنسا تمتلك حق تجميع العملة الصعبة المتأتية من بيع المواد الأولية في الدول الأفريقية وهذا كان يمنح المؤسسات الفرنسية موقعا تفاضلياً لبيع منتجاتها في سوق CFA وفي نقل رؤوس أموالها بسهولة إلى فرنسا دون رقابة فيما تفرض فرنسا على الحكومات الأفريقية إيداع أصولها الخارجية في أرصدة الخزينة الفرنسية حتى نهاية السبعينيات.

تبعات خطيرة

التبعية النقدية للدول الأفريقية تُضاعِف ديونَ هذه الدول وكانت سبباً بانهيار احتياطها من العملة الصعبة وارتفاع عجزها التجاري وتضاعف لجوئها إلى جدولة الديون، رغم ثرواتها الضخمة في باطن الأرض وفي الخزينة الفرنسية. في يناير 2017 خرجت حشود مواطنين في بعض العواصم الأفريقية في أبيدجان وباماكو وداكار وكنشاسا وواغادوغو وكذلك في عواصم أوروبية في لندن وباريس وبروكسل تطالب بوضح حد لعملة CFA لأنها قرينة الاستعمار الحديث والتبعية النقدية ونهب ثروات الدول الأفريقية وفرض الإملاءات على سياساتها الداخلية والخارجية نتيجة تحكم فرنسا في اقتصادها وهيكلة مؤسساته. أطلق على ذلك التحرك اسم "الجبهة ضد فرنك المستعمرات الفرنسية في أفريقيا”، ذلك التحرك كان دليلاً  غير مسبوق على نمو الوعي لدى فئات من شعوب الدول الأفريقية بأنها ترزخ تحت وطأة استعمار لا ينوي أن يتوقف، وبأن خيراتها تُنهب ويُحرم منها السكان الأصليون وما ارتباط دولهم بل تبعيتها لفرنسا إلا نقيض ادعاء فرنسا بأنها غادرت المستعمرات منذ عقود. رغم ظهور هذا الوعي وهذه المقاومة الحديثة للاستعمار القديم إلا أن موضوع العملة يبقى من التابوهات في فرنسا، لا تتحدث فيه الدولة الفرنسية بل حتى إعلامها منقسم بشأنه، عاد ليثيره بشكل ما في سياق التراشق الأخير بين روما وباريس. ويحاول بعض الإعلام الفرنسي تمجيد هذا الفرنك  وتقديمه كعملة قوية مكّنت الدول الأفريقية من التبادل التجاري في منطقة التبادل الحر في الاتحاد الأوروبي وزعمت بعض العناوين الصحفية الفرنسية أن هذا الفرنك أكثر العملات استقراراً وهذا تشويه مفضوح للحقائق ومحاولة طمس أكبر عملية نهب ممنهج وجماعي ذهبت ضحيتها الدول الأفريقية. وزعمت بعض الصحف الفرنسية أن معارضة الفرنك ما هي إلا حملة انتخابية لبعض المرشحين في أفريقيا ومدخل للسماح للصين بالسيطرة على القارة الأفريقية.

عبودية حديثة

قبل أن يظهر اليمين المتطرف في إيطاليا ليذكّر فرنسا بأنها تستعمر 14 دولة أفريقية وتسبب فقرها، كان هناك نوع من الوعي الأفريقي الناشئ بأن التبعية النقدية لفرنسا مهينةٌ بل هي شكل من العبودية الحديثة المسكوت عنها. ولعل حادثة إحراق الناشط البنيني سامي كيبا رئيس منظمة  Urgences Panafricanistes ورقة نقدية من فئة 500 فرنك CFA في داكار عاصمة السنغال في أغسطس 2017 أمام حشود من أنصاره الرافضين للاستعمار الفرنسي الحديث حادثة ترسخت في الأذهان وأرسلت إشارات إلى شعوب المنطقة: استفيقوا، والإعلام الفرنسي الذي لم ينتبه لها قبل عامين، اكتشفها في سياق التراشق بين روما وباريس قبل أسابيع قليلة. غير أن الحكومات الأفريقية المدعومة سياسياً من فرنسا غير قادرة على أن تخطو خطوةً إلى الأمام للتخلص من هذه التبعية على الأقل في الوقت الحالي، السنغال مثلاً  اعتقلت سامي كيبا بعد تلك الحادثة ثم قامت بترحيله وكأنها تتبرأ من فعلته. وإلى حد الآن لم تُطلق الدول الأفريقية تلك أيَ  حوار داخلي للتخلص من تبعيتها النقدية لفرنسا لا على المستوى المحلي ولا الإقليمي فيما بينها. وتبدو قضية الهوية الأفريقية ورفض التبعية والدفاع عن السيادة الوطنية مواضيع فاترة  لا تحظى بمتابعة في الداخل الأفريقي ولا في الغرب، مواضيع تقدمها مجموعة صغيرة من الاقتصاديين الأفارقة بعضهم يجوب العالم للتعريف بهذه القضية المسكوت عنها والمجهولة من الجماهير حول العالم، وبالكاد يصدق الناس وجودَ تبعية واستعمار فرنسي ممنهج إلى يومنا هذا. بعض هؤلاء الاقتصاديين نشروا كتباً في هذا المضمار لنشر الوعي بفداحة الظلم التاريخي الذي يكرس الاستعمار وإيقاظ ضمير العالم ليرى كيف يتحكم المستعمر الفرنسي بـ 155 مليون شخص يعيشون في دول "مستقلة" أو يفترض أنها كذلك في تناقض واضح لادعاء فرنسا دفاعها عن الكرامة البشرية ومبادئ الجمهورية القائمة على العدل والأخوة والحريّة.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image