العمل مصدر العيش، منه يأتي الإنسان بطعامه ولباسه ومسكنه وثمن فواتير تبدأ وتكاد لا تنتهي في مجتمع يبدو كلما "تمدّن" ازداد وحشيةً بطحن الإنسان تحت أسنان آلته.
هبة، وأحمد، وهدى: شابتان وشاب تغّلب حسّهم الفني على "الوظيفة" فحوّلوا هواياتهم إلى مصدر رزق إضافي يمنحهم الفرح والسعادة وينشرها حولهم، حرفهم أيضاً لا تخلو من رسالةٍ إنسانيّةٍ سامية، تحرّكهم نحو جمهور/ زبون ذوّاق، يبحث عن المختلف والمميّز وسط المُستهْلك والمُكرّر.
هنا لقاءات معهم، يجمعها خيط الشغف بما يقومون به، محدثين، بدون شك، إضافة مجتمعيّة، مخفّفين، عنهم وعنّا، ضرر البلاستيك والنايلون على الصحّة والذوق.
تعمل هبة الأعور مبرمجة في شركة، إلا أنّ الصبية الحائزة على ماجيستير في الكومبيوتر، واللامعة في مجالها، بقيت تحلم بالتحرّر من الوظيفة التي تسجنها بين أربعة حيطان، تسع ساعات في اليوم. دفعها فضولها للبحث عبر غوغل عن مشروعٍ منزلي مسلٍّ، يؤمّن لها دخلاً معقولاً وبنفس الوقت يمكن تطويره مع الزمن، فوجدت ضالّتها في صناعة الشمع المُعطّر.
لكن ما الجديد الذي تقدمه وعلى ماذا تراهن من أجل النجاح، ما دام الشمع المُعطّر يُغرق محلّات الهدايا وحتى السوبر ماركتس؟
شمعة" مرة ونصف أكثر من غيرها، أي ثماني ساعات.
ترعى هبة مصلحتها إلى جانب ممارستها لوظيفتها كما لو أنها طفل صغير ينمو وسط أفراد أسرة نقلت لهم حبّها بالعدوى، فصار أخوها يساعدها، أختها ومؤخّراً ابن خالها ضمن شركةٍ جادّةٍ يتعاون أفرادها في التصنيع، البيع والتسويق. بدأت بفتح قنواتها عبر الأقارب، ومنهم إلى المعارف ثم إلى مطاعم بيروتيّة تضيء الشموع كل مساء فوق طاولتها، فاختاروا "شمعة" لخصائصها الصحيّة والمفيدة، تطمح الشركة وتخطّط من أجل توسيع التوزيع في كل لبنان والخارج، وتلبّي توصيات الهدايا التذكاريّة (personalized) للمناسبات الخاصّة، فيبتكر الفريق قوالب تُحاكي الحدث المُراد الاحتفاء به، كما انطلقت لتشكل جزءاً من المعارض المحليّة التي تُقام خلال الأعياد، حاملة في كل مرّة رسالة العودة إلى الطبيعة - الأم.
أما هي فتستخدم شمع الصويا المُستخرج كاملاً من النبتة نفسها والقابل للتحلّل طبيعياً، تمزجه بعطور فرنسيّة غير مُصنّعة، مُسْتَخلَصة من اللافندر، العود المُبخّر، زهر الليمون، التفاح مع الحامض الأخضر والفانيلا التي تضيف إليها حبوب البن ليخرج من تزاوجها أريج ناعم.
انتقت هبة أنواعها الخمسة فقط بعناية، مقدّمةً النوع على الكمّ، مختارة ما هو أكثر شعبيّة، لكن الأهمّ ما هو باعث لسلام الروح والنفس، ولا يربك حاسة الشم. وهي لا تهمل التفاصيل، فتستقدم الفتيل من اسبانيا، لأنه قطني، بدون زنك ولا رصاص، فهَمُّ تجارتها أوّلاً هو الحفاظ على صحّة المرء والبيئة التي يعيش فيها، كلّ هذه العناصر تجعل مدّة اشتعال "هنا مقتطفات واقعيّة من أحلامٍ ترجمها أصحابها إلى واقع فريد، هم محاربون بلا أسلحة لما يسمّى "ظروف البلد"، وهي ظروف لم ولن تبشّر بفرج قريب، لا سياسيّاً، ولا اقتصاديّاً، ولا ثقافيّاً. أَوَلَيْسَ من الأجدى أن يخلق المواطن عالمه فيها، مصغياً إلى صوته الداخلي فقط؟من "شمعة" إلى "لمبة" (LAMBA) حيث لأحمد ترّو، الآتي من عالم الكاميرا والفلاش، أسلوبه الخاص في اللعب بالظلّ والنور. عندما بلغت أزمة النفايات ذروتها في لبنان، عام 2015، وتفجّر حراكٌ شعبي حالمٌ بمستقبل أفضل، "شعشعت" الفكرة في رأس أحمد فراح يجمع زجاجات البيرة، يقصّ كعوبها ويصقل أطرافها، لتغدو أكواباً ملونة، معتمداً فقط على التعلّم الذاتي عبر الإنترنت. ثم انتقل ليعيد تدويرها، مع زجاجات الويسكي والنبيذ الأنيقة، إلى ثريات ومصابيح تزيّن البيوت والحدائق بدفءٍ وحميميّة، وأحياناً إلى بعض الأثاث. وحده، بدأ بتصميم وتنفيذ قطعه، ومع المثابرة، حصل على منحة لمشروعه من الأونيسكو، فتمّ تدريب 60 مشاركاً ومشاركةً للخروج بأفكارهم التي تعكس تطلعاتهم. مكّنه المشروع من تطوير قطعه أسلوباً ومضموناً مُدخلاً إليها غصون الزيتون، التحف القديمة، مشغولات الكروشيه والخط العربي الأصيل، يحيي من خلاله أبيات شعرٍ وكلمات أغانٍ من ذاكرة الوجدان الشعبي ويضفي على الكل ثيمة الفن الشرقي. لمبات "لمبة" إيكولوجيّة بالطبع، توفّر الطاقة وتعزّز، بدورها، الهدف النبيل الأساسي. أما من أين يحصل على القناني، إذ يحتاج إلى كميات كبيرة منها، فهو يتوجّه مباشرةً إلى المكبّات ومعامل الفرز، ويتفق مع البارات لتعطيه ما تريد التخلّص منه مقابل الإشارة إلى مساهمتها في الدعم. يقول أحمد أنه يسعى ليكون الشغل اليدوي (handmade) بجودة عالية، له وظيفة فعّالة، يتخطى إطار الديكور ولا يكتفي بمبدأ الحفاظ على التراث، بل ينافس سلع المصانع، لذلك هو يستخدم الأسلاك والمقابس الكهربائية الأصليّة ويسهر على تفاصيل اللمسات الأخيرة في التوضيب داخل علب خشبية لا تؤذي الأرض. وعن التسويق، فهو يرى أن قلّة قليلة من الجهات تثبت عملياً اهتمامها بإعادة التدوير، ولا تستخدم المصطلح ككليشيه للفت الأنظار فقط دون خطّة مدروسة لتنشيط البيع والشراء والتوعية الحقيقيّة حول أهمية الموضوع، من هذا المنطلق، وبالرغم من مشاركته بمعارض، إلا أنه يفضّل نشر أعماله عبر صفحة "لمبة" على فيسبوك لأن متتبعيها من محبّي النوع والراغبين باقتنائه. درست هدى ألطي تصميم الأزياء وهي على درايةٍ مسبقةٍ أنها لن تصبح أبداً خيّاطة بكل معنى الكلمة، فالمكوث طويلاً وراء الماكينة لا يشبه شخصيتها الديناميكيّة، ولا يعنيها الوصول إلى النخب البرجوازيّة. تنقّلت بعد تخرّجها بين متاجر البرندات الشهيرة، ليس لأن الثبات داخل مؤسسة أفضل، بل لمراكمة معرفة وخبرة توّجتها بالعمل داخل بوتيك راقٍ للأرتيزنا لمدة سنة ونصف، حيث اكتشفت أسرار المهنة، كما صقلتها في ورشات عمل لتجهيز الواجهات الجذّابة وترتيب البضائع على الرفوف. افتتحت منذ فترةٍ قصيرةٍ محلّها في منطقة النويري، الشعبية نسبياً، متبنيّة مبدأ سدّ ثغرة في سوق لا يجرؤ معظم تجّاره على تقديم غير التقليدي (funky) للمرأة والفتاة. أو بالعكس، قد يكون لدى هؤلاء ثمة انطباع أن هذه الموديلات حكر على المحلّات الباهظة. أطلقت عليه اسم "Scissors" أو "مقص"، أداتها الحادّة لإعادة تشكيل الملبوسات القديمة أو حتى الجديدة منها لتتناسب مع هويّة مرتديتها. بدأت مشروعها من المنزل، فحوّلت ثلاثين ثوباً إلى قطع لها استعمالات أخرى أبهرت الجميع: من جينز رجالي إلى تنورة نسائية وجزدان، ومن صدرية إلى اكسسوار للرأس مشغول باللؤلؤ أو الكريستال "يصلح لأفخم عرس، دون أن يتعرّف أحد على أصله وماذا كان"، وهو ابتكار تفتخر به وتعتزّ، لأنه أتاح لها تحدّي مخيّلتها. تقول أن خزائن البنات تفيض عن حاجاتهن، فليس من المعقول رميها ولا الشراء في حين أن هناك من لا يملك ثمن قوته. أما بخصوص الثياب الجديدة، فهي تتسوّقها عبر الانترنت، من ألمانيا، إيطاليا، أميركا والصين، أو خلال سفراتها إلى تركيا، وسويسرا، بلدها الثاني، حيث تعرف جيداً كيف تحصل على "اللقطات". تتخلّص من كُمّ هنا، تضع "بادج" هناك، ترسم عليها أو تدرز شريط دانتيل لتقلبها رأساً على عقب وتجعل منها واحدة فريدة لا مثيل لها في العالم، دون مبالغة بالأسعار، فمن حق الكلّ أن يكون "ستايلش" و "غير شكل" ما دم يملك رأس فنان/فنانة. تلك مقتطفات واقعيّة من أحلامٍ ترجمها أصحابها إلى واقع فريد، هم محاربون بلا أسلحة لما يسمّى "ظروف البلد"، وهي ظروف لم ولن تبشّر بفرج قريب، لا سياسيّاً، ولا اقتصاديّاً، ولا ثقافيّاً. أَوَلَيْسَ من الأجدى أن يخلق المواطن عالمه فيها، مصغياً إلى صوته الداخلي فقط؟ صور المقالة من موقع إنسغرام لـشمعة، لمبة ومقص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...