في الفترة الأخيرة، تنامت التجارب الموسيقية الجماعية، وخرجت إلى الضوء فرق جديدة، في عدة بلدان عربية، خصوصاً في مصر والأردن ولبنان. فرقة تحيي حفلة هنا، وفرقة تسجل إسطوانة هناك، وأخرى تطلق أغنية على موقع "يوتيوب". بعض تلك الفرق نجح في الوصول إلى التسجيل الثاني، وبعضها الآخر غرق في نجاح أغنية أو إثنتين. أما المشكلة، أو الحالة العامة، التي تشترك فيها غالبية هذه الفرق، فهي انحصار جمهورها ببعض الأصدقاء، والمقربين، وهواة موسيقى الأندرغراوند، من دون أن تتمكن هذه التجارب من اجتياز تلك الدائرة الضيقة إلى الجمهور الأوسع.
لكن، بالتأكيد، ثمة استثناءات لهذه الحالة، مثل الفرقة اللبنانية "مشروع ليلى" التي استطاعت، خلال فترة وجيزة، تثبيت وجودها على الساحة الفنية، وحضورها في مهرجانات محلية وعالمية، وتسجيل ثلاث إسطوانات حتى اليوم مع مبيع كثيف ملحوظ. لكن، ما الذي يجعل من فرقة "الألف"، التي ولدت قبل عام من اليوم، متميزة في محيطها الموسيقي العربي؟
جرت العادة، إذا أراد مغنّ منفرد إطلاق أغنية، على أن يلجأ هذا الأخير إلى اختيار نص يعجبه، ثم يوكله إلى ملحن، فيوضع اللحن بما يتناسب مع الكلام والقدرات الصوتية للمغني، وهكذا تولد الأغنية. هذا المسار، تعتمده الفرق الموسيقية أيضاً، التي يختار أفرادها، بصفتهم الجماعية، النصّ ثم اللحن. أما في فرقة "الألف"، فاللحن يسبق الكلام. بالطبع، ليس كسر القاعدة هدفاً بحد ذاته، أو مجرد وسيلة للتميّز؛ بل لأن ما يجمع أعضاء الفرقة هي الموسيقى قبل الكلام. فللشباب تجربة خاصة، كلٌّ مع آلته، قبل أن يجتمعوا معاً. هكذا، كان من الطبيعي أن يرتكز لقاؤهم على الموسيقى كعنصر أساسي في الخلق الفني. بل يمكن القول إن أعضاء "الألف" ذهبوا أبعد من ذلك، إلى البحث عن أطر، أصوات، وأنماط موسيقية جديدة.
في حديث لـ"رصيف22"، يقول خيّام اللامي، مؤسس الفرقة وعازف العود فيها: "ما كانت "الألف" لتبصر النور لولا إجماع أعضائها على دخول مغامرة التجريب، المعروف بشروطه الخطيرة وغير المضمونة نتائجها". هكذا، اجتمع اللامي بخالد ياسين (إيقاع – لبنان)، وموريس لوقا (موسيقى إلكترونية – مصر)، وتامر أبو غزالة (غناء وبزق – فلسطين)، وبشار فران (باص – لبنان). كل واحد من هؤلاء، أحضر آلته وانضم إلى زملائه ذوي التجارب المختلفة عنه، ليحاورهم موسيقياً، ولكي يكون شريكاً في مختبر تجريبي لأصوات وتقنيات فنية مختلفة.
هكذا، تتجسد فرادة الفرقة في تنوع المدارس والخلفيات الموسيقية والثقافية لأعضائها. فتجربة جميع هؤلاء الموسيقيين المنفردة، قبل تأسيس الفرقة، واختباراتهم المتعددة في الأنواع الموسيقية، إضافة إلى عزفهم على آلات مختلفة، والعمل مع موسيقيين محليين وعالميين، جعلت لكل منهم خلفية موسيقية غنية وجاهزة للتوظيف في قالب جماعي جديد.
موسيقياً، نجحت "الألف" في خلق مساحة يتشارك فيها هؤلاء الفنانون بصهر تجاربهم في مختبر فني واحد، وبالعمل سوياً مع أصوات فنية جديدة لم يألفوها من قبل. فخلال التمارين، تنطلق الارتجالات الحرة من العود والبزق والإيقاع، التي يستلمها لوقا ويعيد ضخها إلكترونياً للفرقة، فيتنامى الحوار الموسيقي. رويداً رويداً، تتشكل الأصوات، وتتناغم، لتتألف الجمل الموسيقية. أما الكلام، فيأتي متأخراً، بعد تخمر المضمون الموسيقي لكل مقطوعة.
غالباً ما يجري اختيار الكلمات من قصائد عربية، بحسب ما توحي به الموسيقى المولودة حديثاً. فأغنية "الجثة"، مثلاً، اختيرت كلماتها من قصيدة للشاعر العراقي سركون بولص من ديوانه "عظمة أخرى لكلب القبيلة". كما اختار أعضاء الفرقة غناء قصيدة "هنالك موتى" للشاعر الفلسطيني محمود درويش. هكذا، يتولى تامر أبو غزالة إدخال الكلمات المختارة للحن، لتصبح بمَغْناها آلة تضاف إلى المقطوعة الموسيقية. والنتيجة؟ خلق موسيقي لا يمكن حصره بنوع أو مدرسة ما، بل هو مزيج من الشرقي، والروك، والإليكترونيكس، مع نصوص باللغة العربية الفصحى، لتتشكل هوية موسيقية خاصة بفرقة "الألف".
الفرقة التي تأسست عام 2012، قدمت حتى اليوم حفلات في كل من لندن وبرمينغهام، وليفيربول وهاروغايت في بريطانيا، إضافة إلى حفلات في بيروت وعمان وتونس والإسكندرية والقاهرة. في رصيد "الألف"، اليوم، 7 أغان، لم تصدر في ألبوم، هي "هولاكو"، "الجثة"، "حَصاة"، "سقط الرجل" (كلمات هذه الأعمال من قصائد سركون بولص)، و"انتظرها"، "هنالك موتى" (من قصائد محمود درويش)، و"اعتراف" (من قصائد فيحاء عبد الهادي)، إضافة إلى مقطوعة موسيقية هي "نشاب سيكاه".
مرت سنة، إذاً، على تأسيس الفرقة. ويمكن القول إن "الألف" انطلقت ببداية موسيقية واعدة جداً. وعبر طرحها الموسيقي الجديد، في القالب والمضمون، وجدت الفرقة مكانة على الساحة الفنية، ولن يصعب عليها ضمان استمراريتها، لطالما بقيت على المسار الذي عرفناها به. وعلى الرغم من أن توزع الموسيقيين في بلاد مختلفة يعيق عجلة التمرينات، وغزارة الإصدارات الفنية حالياً، إلا أن ذلك يلعب دوراً إيجابياً في تروّي الفرقة وتخمّر مؤلفاتها الموسيقية على مهل.
من المؤكد أن "الألف" تضيف اليوم إلى الساحة الفنية عملاً جماعياً من إمضاء موسيقيين شباب مهمين جداً في محطيهم الفني العربي. ولكن الأهم أن الفرقة استطاعت تقديم تجربة موسيقية فريدة تتخطى التصنيف المدرسي إلى خلق تأليف موسيقي يحمل هوية لم نعتدها، لا في الموسيقى الشرقية ولا الغربية، من دون أن تسقط في هشاشة الدمج السطحي المرتجل، الذي قد نقع عليه مع فرق أخرى.
"أعضاء الألف"
خيّام اللامي مؤسس الفرقة، موسيقي وعازف عود عراقي ولد في دمشق ثم انتقل إلى لندن. درس العزف على آلة العود على يد الفنان العراقي إحسان الإمام. ثم سافر إلى القاهرة للبحث والدراسة في بيت العود العربي وإلى إسطنبول للدراسة مع أستاذ محمد بيتم. حاز على منحة بحثية عبر برنامج World Routes التابع للإذاعة البريطانية BBC راديو 3. وفي عام 2001 نشر ألبوم عود منفرد، الأول له، بعنوان "رنين أقل".
خالد ياسين عازف إيقاع لبناني، اشتهر بتطوير أسلوبه الخاص في فهم وترجمة الإيقاع كصوت منفرد وليس فقط كمرافق لآلات أخرى. تعلم العزف عصامياً على آلات الإيقاع الشرقية واللاتينية والأفريقية كما على الكاخون. ثم طور مشاركته في التأليف الموسيقي خاصة لعروض مسرحية، ورقص معاصر. عزف مع فنانين محليين وعالميين كثر مثل وردة، وإلهام المدفعي، وإيريك تروفاز، ورينيه ماكليين، وأنور إبراهم.
موريس لوقا: من أهم الفنانين اليوم العاملين في الموسيقى التجريبية في مصر. مع محمود والي، ومحمود رفعت أسس لوقا عام 2005 فرقة ”بيكيا“ في القاهرة. وتابع تقديم موسيقاه الإلكترونية منفرداً على الكيبورد سامبلر. كما شارك في تأليف الموسيقى لأعمال فيديو ومسرح مثل مع المخرج شريف العظمة.
تامر بو غزالة عازف عود وبزق ومغن فلسطيني. ولد في القاهرة قبل أن يتمكن من العودة إلى رام الله حيث درس في معهد الموسيقى. عمل منفرداً وأصدر أول إسطوانة ”المرآة“ في عام 2008. كما شارك في تأسيس فرق موسيقية عدة وتعاون مع موسيقيين من مصر والأردن وفلسطين على مشاريع عدة مثل "كازامدا"، و"جهار"، وعلى عمل جماعي مسرحي مع فرقة الطمي المسرحية تحت عنوان "ثورة قلق".
بشار فران عازف باص لبناني، عزف مع فرقة زياد سحاب وشحادين يا بلدنا، كما مع فرقة ريان الهبر كمرافق على آلته للتخت الشرقي الموسيقي. كذلك عزف الباص ضمن الموسيقى الغربية من الجاز إلى الروك، إلى جانب فنانين مثل رائد الخازن، وقد يكون DnB Project المشروع الأهم الذي خاضه فران مؤخراً إلى جانب عازف الدرامز فؤاد عفرا، وعازفة الموسيقة الإلكترونية ليليان شلالا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 18 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت