شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
سياسات اللجوء الأوروبيّة: تلك السلطات الخائفة جداً على مواطنيها

سياسات اللجوء الأوروبيّة: تلك السلطات الخائفة جداً على مواطنيها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 14 مارس 201902:20 م
احتجّت مجموعة من المنظمات الحقوقيّة مؤخّراً على الخدمة الجديدة التي وفّرها مكتب الهجرة والاستقبال الفرنسيّ، والتي تتمثّل بخطّ هاتف مباشر ومدفوع من أجل تسهيل طلبات اللجوء. جاء الاحتجاج ومطالبة القضاء بالتدخّل بسبب عدم فعاليّة الخطّ، وعدم القدرة على التواصل مع المسؤولين عبره، بالإضافة إلى تكلفته، هو مشغول دوماً وأشبه بلعبة معطّلة، تقدّمها السلطة لطالبي اللجوء، لطردهم وقتل الأمل لديهم، وتركهم معلّقين بدون أوراق رسميّة، لا يستطيعون العمل أو إيجاد مأوى. هذه "اللعبة المعطوبة" وأثرها على حياة الأفراد مشابهة لتصريح وزير الداخليّة الإيطالي ماتيو سالفيني الذي قال أن ما حصل مع سفينة أكواريوس هو "انتصار عظيم"، فالسفينة التي منعها من أن ترسو في موانئ إيطاليّة، تمكّنت بعد أشهر من الضغط الدولي والإبحار في المتوسط دون وجهة محدّدة، أن تنهي رحلتها عند الموانئ الإسبانيّة، التي وافقت على استقبالها واستقبال المهاجرين الـ620 اللذين أنقذهم فريقها من البحر والتهديد بالغرق. لا ندري هو انتصار لمن، حين تُترك سفينة ومن فيها على حافة الموت، أو حين تصمّم أنظمة و"منصّات" وألعاب لا جدوى منها، ربما يكون الأمر انتصاراً لليمين المتطرّف، لكن ماذا عن الباقين، المواطنين العاديين دافعي الضرائب والطلاب والآباء والأمهات وغيرهم، هل هذا انتصار لهم؟ نتلمّس الرعب الذي يُشكّله "اللاجئون، طالبو اللجوء، المهاجرون، المنفيون..." لأوروبا ضمن الخطاب الوطني، الذي يصوّر الأمر كأنه احتلال من نوع ما، فهناك برابرة يريدون تدمير الحواضن الأوروبيّة، التي تكافحهم بخلق تعريفات مختلفة تصنّف جموعهم سياسياً واقتصادياً، وتسعى لتوزيعهم على امتداد القارة العجوز، لكن بالعودة إلى أكواريوس، نرى أن الإشكاليّة تكمن في سياسات "الاستضافة-Hospitality"، أو السماح للـ"غرباء" العالقين على "الباب" والباحثين عن مأوى بتجاوز العتبة ودخول الأراضي الأوروبيّة قانونياً. تتحرّك الاستضافة كمفهوم بين السياسي القانوني وبين الأخلاقي، بين الدولة ومسؤوليتها تجاه "الإنسان" وبين ضمانها لحيوات مواطنيها، كما تتجلّى عبرها الرغبة بمساعدة الآخر، الغريب الذي يطرق الباب والخوف من هذا الآخر وما يحمله.
نتلمّس الرعب الذي يُشكّله "اللاجئون" لأوروبا ضمن الخطاب الوطني، الذي يصوّر الأمر كأنه احتلال من نوع ما، فهناك برابرة يريدون تدمير الحواضن الأوروبيّة، التي تكافحهم بخلق تعريفات مختلفة تصنّف جموعهم سياسياً واقتصادياً، وتسعى لتوزيعهم على امتداد القارة العجوز
تتحرّك الاستضافة كمفهوم بين السياسي القانوني وبين الأخلاقي، بين الدولة ومسؤوليتها تجاه "الإنسان" وبين ضمانها لحيوات مواطنيها، كما تتجلّى عبرها الرغبة بمساعدة الآخر، الغريب الذي يطرق الباب والخوف من هذا الآخر وما يحمله
يُفعّل الحسّ بالاستضافة لدى الدولة الوطنيّة إثر نداء الآخر، أو التعبير الصوتي والثقافي عن الرغبة بالمأوى، والذي يطلقه طالبو اللجوء واللانظاميّون عابرو البحر والحدود البريّة، هذا النداء إنساني في البداية، يطلقه المستغيث والمُهدَّد بالخطر، لكن ما إن يدخل ضمن حدود الدولة الوطنيّة أو مساحاتها السياديّة حتى يتحوّل هذا النداء إلى جهد سياسي لغوي وسردي يُثبتُ الفرد عبره أنه في خطر، وأن حياته تنتهي إن عاد لوطنه. فالعملية السياسيّة هنا تُفقد "الاستضافة " أخلاقيّتها، و تجعل نداء الاستغاثة نصّاً ذا معايير وخصائص قانونيّة لا تتطابق مع الرغبة بالمساعدة، فعليك حرفياً أن تشرح في قصّة طلب اللجوء الظروف التي تجعل حياتك في خطر أكيد، يستهدفك شخصياً، أنت فقط، لا أسرتك ومن حولك، بل أنت وجسدك.

يحرّك نداء الاستغاثة ومفاهيم العدوى المرتبطة بالآخرين الحسَّ بالخوف من الاستضافة، كون حكايات "الآخر" تكشف هشاشة الحكايات الوطنيّة، وتفضح أصولها وأجزاءها، والعمليات التي خضعت لها كي تكون "متماسكة"

لا يمكن الاستجابة لهذا النداء فردياً، فالمواطن الأوربيّ مُهدّد إن قام باستقبال الآخرين أو سهّل دخولهم لأراضي السيادة، إذ تجرّم المحاكم الأوربيّة مواطنيها والناشطين الإنسانيين إن ساعدوا المهاجرين على دخول أراضيها وتخترع تهم الإرهاب والاتجار بالبشر، ما يجعل الحسّ الأخلاقي بالرغبة بالاستضافة والمساعدة جريمةً يحاسب عليها القانون، بل ونوعاً من التمرّد على السلطة وتحدي مسؤوليتها الأولى، وهي الحفاظ على مواطنيها وحياتهم ومواردهم، ضد أولئك" الآخرين" الأقرب للداء أو العدوى الخطيرة المُهلكة. يحرّك نداء الاستغاثة ومفاهيم العدوى المرتبطة بالآخرين الحسَّ بالخوف من الاستضافة، كون حكايات "الآخر" تكشف هشاشة الحكايات الوطنيّة، وتفضح أصولها وأجزاءها، والعمليات التي خضعت لها كي تكون "متماسكة"، كما أنها تحرّك الدوافع لإعادة قراءة التاريخ الذاتي، وتاريخ الأفراد كموضوعات قانونيّة وثقافيّة، فحكايات الآخر تكشف التكوين المتفاوت للـ"أنا"، والعنف الممارس للدفاع عنها. وتهدّد المألوف والمُعتاد وتكشف بنيانه السياسي، وهذا ما نراه في صعود الحركات النازية الجديدة، وخطابها العنصريّ الذي كان خفياً وخجولاً، ذات الشيء نراه على المستوى الثقافي إذ يقف "الآخرون" أمام تراثهم في المتاحف الأوربيّة، محرّكين المطالبة باستعادة هذا "التاريخ" وإعادة تكوين حكايته، كما يحدث في فرنسا التي تحوي 90 ألف قطعة فنية في متاحفها تمّت سرقتها من أفريقيا أثناء الاستعمار، وصدر قرار مؤخراً بأن تعيد 26 قطعة منها إلى بلدانها الأصليّة.

أوهام السياسات الحيويّة

تهدّد الاستضافة السياسات الحيويّة للدولة الوطنيّة، وسعيها للحفاظ على حياة المواطنين وترك الآخرين للموت أو شبه الحياة، وهذا ما نراه في أكواريوس، وكأن الدول الأوربيّة تراهن على الطاقة اللازمة لتشغيل هذه الأجساد، وكأن "تكلفة" تفعيل احتمالات الإنتاج فيها تهدّد الدخل الوطني، وتستغلّ التأمين الصحي مثلاً، وخصوصاً أنه مرتبط بحق "المواطن" بالحياة والدواء، في حين أن حيوات الآخرين مباحة للموت. وهنا تظهر سياسات النفي، فمن يطلب الاستضافة أو يطرق باب المواطنين ويجتاز حدودهم، لا يمتلك سوى صوته وحكايته، يمتلك مأساته فقط وجسده المهدّد بالموت، وهذا ما يجعل هذه الأجساد من وجهة نظر حيويّة استثماراً فاشلاً من نوع ما، وتهديداً للشكل الاقتصاديّ القائم، فالكثيرون من طالبي اللجوء في ألمانيا مثلاً لا يستطيعون الحصول على الخدمات الطبيّة بسبب غياب الأوراق القانونيّة، ووضعهم المعلّق كطالبي لجوء أو بانتظار البدء بإجراءاتهم.

المخيمات الخفيّة

تشدّد أوروبا على المخيمات في "النقاط الحارّة"، تلك التي يدخل منها طالبو اللجوء والآخرون بأنواعهم، وتفعّل عبرها تقنيات اللاحياة، حيث يعيش البعض لسنوات معلّقين، دون أعمال أو أوراق، هذه المخيمات الحدوديّة أشبه بقنوات بيروقراطيّة، تستبدلُ الاستضافة بالإنقاذ، وكأن الغريب الذي طرق الباب عليه أن يبقى خارجاً، ويقابل ببطانية ووجبة يوميّة، هو لا يستحق الموت، لكن حياته مضمونة بالحد الأدنى عبر استثنائها، وذلك في سعي لجعله لا مرئي، هو ومن مثله، فقط صور وحكايات بعيدة، غير مسموعة ويمكن التشكيك بجديّتها.  ذات الشيء نراه داخل المدن التي تخضع لتقنيات سياسيّة وبيروقراطيّة تسعى لخلق طائفة من أشباح، يتحرّكون دون أن يكون لهم مكان محدّد، هم تحت تهديد دائم، مؤدّون بلا دور على الخشبة، يعبرون أثناء تبديل الإضاءة، فآلاف طالبي اللجوء يتحرّكون في المدن الأوربيّة دون هدف، هم قانونياً ممنوعون من "الاستقرار" لكن لا بدّ من الحفاظ على حيواتهم، وكلّ محاولة كي يجتمعوا تقابل بالعنف، لا بد أن يبقوا أشباحاً أو أوهاماً من نوع ما، تعمل في الظلّ وتعيش في الظلّ، ومحكومة بطيبة قلب الآخرين وأوقات فراغهم.

خمسة مبادئ لتشكيل "جمهوريّة ترحّب بالجميع"

يرى الفيلسوفان فابيان بروجير وغيوم لوبلانك أن الحسّ بالاستضافة انتهى مع بداية الدولة الوطنيّة الحديثة، وأن "المفرطين في تحضّرهم" يظنون أنّ الاستضافة قيمة مثاليّة لا تنتمي إلى شكل السيادة الحالي، لكن ما حصل أنها استُبدلت وتحت غطاء "التحضّر" بسياسات العداوة، وهي مجموعة من البنى المصمّمة لجعل حالة الحرب والتهديد "مهيمنة"، وهنا تتضح أن هذه العداوة لا توجّه فقط نحو "الآخر"، بل نحو كلّ الفئات قليلة الامتياز، ما يجعل العداوة مشكلة عالميّة، مواطنون في بلدانهم يفشلون في الاستقرار، يُطردون ويخلون من بيوتهم، وكأن احتجاجات فرنسا الأخيرة انعكاس للسياسات الوطنيّة المعاديّة للاستضافة، فاحتمال أن يكون الفرد "آخراً" منفياً يهدّد الجميع، أكانوا مواطنين أم لا. يقترح الفيلسوفان أيضاً في كتابهما "نهاية الاستضافة"، صيغة لنفي المثاليّة النوستالجيّة المرتبطة بالحسّ بالاستضافة والسعي لجعله فعلاً عقلانياً واقعياً، داعين لتشكيل "جمهوريّة ترحّب بالجميع"، جمهوريّة تتجاوز البيروقراطيّة السياسيّة ومفهومي السيادة والأمّة بوصفهما محرّكي سياسة الدولة، ويحدّدان مبادئ هذه الجمهوريّة بالتالي:

1- نسيان الأمّة والسيادة

السعي لتجاوز الفئات السياسيّة، والرهان على الإنساني والأخلاقي في سبيل "العناية " بالآخر، لا في سبيل جعله مشابهاً، بل لتحويل "الجمهوريّة" إلى مكان للتبادل الثقافي والإنساني، لا جهازاً للعزل والاحتواء، إلى جانب تحويل النشاط الإنساني التطوّعي إلى صيغة جمعيّة، لا ترى الاختلاف بين الأفراد وتنشط على أساس توفير ظروف مناسبة للجميع.

2- الاهتمام بالأفراد

يتحقّق الاهتمام بالفرد عبر سؤال الآخر "من أنت؟" هذا السؤال والسعي للإجابة عنه، يعيد تكوين الحكاية الوطنيّة وحكاية الآخر، لا على أساس الاختلاف الهويّاتي، بل في سبيل تفعيل شروط تجعل الحياة متوفرة للجميع.

3- إعادة الاعتبار للمشاعر الأخلاقيّة

تفعيل الجدوى من مشاعر التعاطف والمساعدة والرغبة بالتغيير التي استُبدلت بالسخرية واللاجديّة والبراغماتيّة والمنفعة الفرديّة، بسبب الهيمنة الرأسماليّة التي تَشغل الفرد بمشكلات يوميّة تهدّد استمرار حياته، وتجعل من الآخرين، طالبي اللجوء والمنفيين والمهاجرين مشكلات ترتبط بوجوده.

4- تغيير التفكير السياسي

السعي لنفي مفاهيم الحرب ضد طالبي اللجوء والمهاجرين، وإلغاء الرغبة بإخفائهم أو عدم استقبالهم، وتغيير البنية السياسيّة التي تصنّف "نحن" و "هم" وتغذّي الحرب بينهما، ما يعني إصلاح النموذج الديمقراطي الذي يولّد هذه الفئات، واعتماد خطاب "السلام" عوضاً عن "المواجهة".

5- تصعيد الانتقاد للجمهوريّة العدوانيّة

توجيه النقد العلني والمباشر للمخيّمات ومراكز الإيواء وفضح عنف الشرطة وتفعيل النقاش العلني والإضاءة على التقنيات الماديّة التي توظّفها السلطة للعزل والسيطرة، ومحاولة نزع قرار استقبال "الآخرين" من يد فئة سياسيّة محدّدة وجعله ديموقراطياً وحقاً يمارسه الجميع.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image