شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
من سجون البانوبتيكون إلى الكوكيز... السُلطة والقُوة في العصر الرقمي

من سجون البانوبتيكون إلى الكوكيز... السُلطة والقُوة في العصر الرقمي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 2 ديسمبر 201812:41 م
استخدم الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1926 - 1984) مثاله الشهير، البانوبتيكون، لوصف كيفية عمل السلطة وآلياتها في العصور الوسطى الأوروبية، وهو سجن دائري صممه جيريمي بنثام ليسمحَ بأكثر قدرٍ من الفاعلية في المراقبة. صُمّم السجن لتواجه غرف المسجونين جميعها برجَ المراقبة المنبثق في منتصف ساحة السجن، بحيث يمكن لحارس واحد - مستتر خلف أضواء البرج الباهرة – مراقبةُ جميع المسجونين في آن واحد، والأهم من ذلك إشعار المسجونين بأن كلَّ فردٍ منهم يمكن أن يكون تحت المراقبة في أيّة لحظةٍ كانت. أصبح هذا المفهوم هو أحدُ أكثر المداخل استخداماً لفهم السلطة وممارستها للقوة في القرن العشرين وإن أُعيدَ النظر في قدرته التفسيرية مع ازدياد دور التكنولوجيا في المراقبة. في ورقتها البحثية "في عصر الآلات الذكية" المنشورة في 1988، لاحظت أستاذة العلوم الاجتماعية في جامعة هارافارد، شوشانا زوبوف أن الترتيباتِ المادية لم تعد تلعب دوراً كبيراً في فاعلية المراقبة: فليس على رئيس العمال أن يُجلِسَ العمالَ في صفوف متراصة ليستطيع مراقبتهم، فالحاسب الآلي يستطيع بسهولة تجميعَ بيانات الإنتاجية واستخدامها في توزيع مهام العمل وتقييم ومجازاة العمال دون الحاجة للوجود المادي للمراقب. استخدمت زوبوف مصطلحَ "البانوبتيكون المعلوماتي" لوصف تلك الظاهرة، لكن مع انتشار الإنترنت سرعان ما تراجعت عن هذا التوصيف: في ورقة بحثية منشورة في 2015 قامت فيها بدراسة قدرات المراقبة باستخدام البيانات الضخمة Big Data رأت أن مصطلح "البانوبتيكون المعلوماتي" المستعار من مصطلح فوكو لا يصلح لوصف تلك الظاهرة الجديدة لأنه "ينقصه الخيال اللازم لوصف (قدرات) هذا النسق الجديد". "البياناتُ الضخمة" هو المصطلحُ المستخدم لوصف الفيض الهائل من البيانات الذي يتركه كلُّ فردٍ منا وراءه خلال استخدامه الإنترنت، والذي يمكن جمعها وتصنيفها لرسم صورةٍ دقيقه عن الفرد، واهتماماته، وتفضيلاته، بل ولمشاعره وتقلباتها. وبحسب الوسيط المستخدم على الإنترنت يختلف نوع البيانات وما يمكن استنتاجه منها. لكن المفارقة أن تلك المعلوماتِ على تفصيلها ودقتها وقدرتها على رسم صورةٍ شبه متكاملة عن الفرد لا تساوي شيئاً بمعزل عن النمط الذي ينتمي إليه الفرد: لا أحدَ يهتمُّ إن كنتَ ذاتك في علاقة عاطفية أم لا، بل المهم أنك فردٌ ضمن مجموعة من المرتبطين عاطفياً في منطقة جغرافية معينة ويتحدثون نفسَ اللغة ويمتلكون مستوى دخل متقارب – هكذا يمكن للمعلنين تصنيفكم كنمط وبيع المساحات الإعلانية على المواقع التي تزورونها إلى بائعي الهدايا ذات القيمة الملائمة لدخلكم في موسم عيد الحب. accessnow-02 لا يهتم المعلنون بهويتك الشخصية، بل يهتمون بما يعرفونه عنك ضمن ما يعلمون عن آخرين متماثلين في الصفات. وهنا تأتي الكوكيز... الكوكيز Cookies، أو ملفات تعريف الارتباط، هي ملفاتٌ صغيرة الحجم تقوم المواقع بإنزالها داخلَ المتصفحات، في الأساس تستخدم الكوكيز مساعدةً المتصفحَ على التعرف على تصميم الموقع بما يساهم في سرعة عرضه. لكنها الآن في القلب من صناعة الإعلانات: تستطيع الكوكيز أيضاً أن تكون سجلاً لتحركات المستخدم، يمكن منها رسم صورة عنه، كما يمكن لشركات الإعلان التعاقد مع مختلف المواقع لتضمين ملفاتٍ تتبع شركات الإعلان ضمنَ ملفات تعريف الارتباط الخاصة بالموقع. يقوم موقعٌ كجريدة الجارديان – مثال – بإنزال 18 مجموعةً من ملفات تعريف ارتباط، يقوم فقط اثنان منها بضمان سرعة عرض الموقع في حين تتبع البقية جهاتٍ إعلانية، في حين يقوم موقع فرانس 24 الإخباري بإنزال أكثر من 100 ملفٍ تابعةٍ لأكثر من 24 جهةٍ إعلانية. إن لم تقرأ سياسةَ استخدام البيانات الخاصة بالموقع – ولا أحد يفعل – فلن تعلم من يعرف ماذا عنك.
خرجت المراقبةُ من يدِ آمر السجن والدولة ورئيس العمال وذهبت إلى يد الآلاف من الشركاتِ والمنصات.. وأصبحت ملفّاً خفيَّاً لا يتعدى حجمُه بايتاتٍ قليلة، ولا يهتم أصلًا بهوية الفرد لكنه بارعٌ في إدراك كُنهه
"البياناتُ الضخمة" هو المصطلحُ المستخدم لوصف الفيض الهائل من البيانات الذي يتركه كلُّ فردٍ منا وراءه خلال استخدامه الإنترنت، والذي يمكن جمعها وتصنيفها لرسم صورةٍ دقيقه عن الفرد، واهتماماته، وتفضيلاته، بل ولمشاعره وتقلباتها
تمكِّن الكوكيز مختلفَ شركات جمع وتصنيف البيانات ووكلاء الإعلانات من رسم صورٍ وإنشاء ملفاتٍ عن المستخدمين، نعني بالمستخدمين عمومَ جمهور زوار المواقع المختلفة، ملايين وملايين الملفاتِ الفردية التي ترسم صوراً عن حيوات ملايين وملايين من الأفراد وأحلامهم وتاريخهم وتفضيلاتهم. الأكثرُ إبهاراً هو قدرة تلك الشركات على تحديد الأفراد حتى وإن استخدموا أجهزةً مختلفة: تخيل أن جهازكَ اللوحي قد انتهى عمره الافتراضي واشتريتَ جهازاً جديداً، ولنفرض أنك لن تستخدم هذا الجهازَ سوى لزيارة المواقع - لن تزورَ منصاتِ التواصل الاجتماعي أو تطالعَ بريدك الإلكتروني من هذا الجهاز، لا شيءَ نظريًا يربطك بملفك القديم الذي أُنشِئَ من ملفات تعريف الارتباط الموجودة على جهازك القديم. ببساطة، وبدخولك المواقع، ستقوم شركات البيانات بإنشاء ملف جديد باعتبارك فرداً جديداً من الجمهور، وبمرور الوقت سيتضح نمطُك وتفضيلاتك، وسيلاحظ تطابقُ النمط مع الملف الذي أُنشِئَ قبلًا، ليتم التعرف عليك ودمج الملفين معاً. بعبارة أخرى، تستطيع تلك الشركات التعرّفَ عليك كفردٍ ضمن ملايين البشر. لم تعد المراقبةُ إذاً هذا الصرحَ الماثل أمام الأبصار، يعلن عن وجوده ويسعى لتأكيد سيطرته على كل لحظةٍ وهفوة، بل أصبحت ملفَاً خفيَّاً لا يتعدى حجمُه بايتاتٍ قليلة، ولا يهتم أصلًا بهوية الفرد لكنه بارعٌ في إدراك كُنهه. خرجت المراقبةُ من يدِ آمر السجن والدولة ورئيس العمال وذهبت إلى يد الآلاف من الشركاتِ والمنصات، وأصبح استخدامُها لا يسعى إلى الضبط والسيطرة أو تعديل السلوك، بل إلى استخدام المعرفة في تحفيز أوتثبيط الصفات الفردية الموجودة أساساً لدى الأفراد.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image