"لن يقول الأتراك أبداً عن آبائهم إنهم كانوا قتلة". هكذا أنهى المؤرخ جستن مكارثي خطابه في البرلمان التركي عام 2005، فوقف النواب الأتراك مصفقين بحرارة لما قاله. تلخص هذه الجملة الختامية الموقف التركي الرسمي تجاه مذابح الأرمن على يد العثمانيين، هذه المذابح التي يصفها أغلب المؤرخين في العالم بأنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين.
ففي الرابع والعشرين من أبريل 1915 جمعت الحكومة العثمانية ما يقرب من 250 شخصية أرمنية في إسطنبول وأعدمتهم. وبهذا انطلقت شرارة أعمال القتل والتهجير القسري والاغتصاب والتعذيب والتجويع ضد الشعب الأرمني في شرق الأناضول، فأدى ذلك إلى مقتل نحو مليون أرمني. كان لاشتراك بعض الأرمن في العمليات العسكرية إلى جانب الجيش الروسي، إضافة للنشاط الأرمني المحموم ضد الحكومة العثمانية في المطالبة بالحقوق السياسية أسوة بالشعوب الأخرى كالبلغار واليونانيين، أثره في ما تعرضوا له.
ورغم الاعتراف التركي الحالي بسقوط ضحايا أرمن في عمليات التهجير والقتل، فإن الموقف الرسمي يرفض اعتماد تسمية "الإبادة" ويقول إن الأرمن كانوا ضحايا حرب سقط فيها أيضاً مئات الألوف من الأتراك والعرب وغيرهم. علماً أن الرواية التركية السائدة تعتبر أن الأرمن كانوا طابوراً خامساً في الحرب العالمية الأولى وتحالفوا مع أعداء الدولة العثمانية الروس. وعليه، فإن سقوط ضحايا، ضمن ضحايا آخرين في وقت الحرب، أمر مؤسف ولكنه مفهوم ولا يعد قتلاً منهجياً متعمداً يمكن إدراجه تحت خانة الإبادة التي تفترض وجود سياسة مرسومة لإبادة أتباع دين أو مذهب أو عرق ما.
أما الرأي العام التركي تجاه تلك الأحداث، فيمكن تلخيص موقفه بما قاله السيد بايزيدهان عثمان أوغلو الحفيد الثالث لآخر السلاطين العثمانيين، محمد السادس، لرصيف22. قال: "ما سمعته من جدي الذي ولد عام 1922 في قصر يلدز وتوفي عام 2004 نقلاً عن أبيه السلطان أنه لم تكن هناك أية أوامر رسمية بالقيام بإبادة جماعية ضد الأرمن، بل كان الهدف هو التصدي للجماعات الأرمنية المسلحة التي هاجمت القرى وقتلت مدنيين وكانت تهدف إلى إنشاء أرمينيا الكبرى على حساب السلطنة العثمانية وبالتعاون مع أعدائها في الحرب العالمية الأولى، مثل الروس". وأضاف: "لو كانت هناك نية لإبادتهم فلماذا تركنا الأرمن يعيشون في إسطنبول وإزمير وغيرها من المدن التركية؟".
ولكن الجمعية الدولية للباحثين في الإبادة الجماعية حسمت هذا الجدل وأقرت منذ فترة طويلة بأن ما حدث للشعب الأرمني هو إبادة جماعية بالفعل. وهذا يتطابق مع التعريف الدولي للإبادة الجماعية، الذي يقول إنها أفعال تقصد التدمير الجزئي أو الكلي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية.
لماذا تستمر تركيا في سياسة الإنكار هذه رغم وفرة الأدلة التاريخية؟ يمكن أن نوجز الأسباب في ما يلي:
1ـ الخوف من المساس بأسس قيام الجمهورية التركية
رغم أن الحكومات الجمهورية التي حكمت تركيا منذ إسقاط الخلافة عام 1923 لا علاقة لها بالإبادة الأرمنية، فإن العديد من المسؤولين الذين شاركوا في المجازر أصبحوا في ما بعد جزءاً من النظام. ومن الأمثلة على ذلك التشكيلات المخصوصة Teshkilat mahsusa التي لعبت دوراً في مذابح الأرمن عام 1915، ومن ثم أصبح بعض زعمائها جزءاً من منظمة الدفاع الوطني التي أسسها أتاتورك عام 1921.
ولم يكن لمؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، دور في تلك المجازر لا بل أنه اعتبرها عملاً سيئاً. إلا أنه بسبب شعوره القومي الطاغي بدأ حملة لإعادة بناء الهوية التركية محت كل أخطاء الماضي وأسدلت الستار على كل مجازر الأتراك وانتهاكاتهم لحقوق الأقليات. لذلك، فإن تذكر تلك الأحداث يعيد إلى الذاكرة فترة تفكك الأمبراطورية العثمانية وهزيمة الأتراك وهو ما يفضل الجميع تجنب الحديث عنه.
وعوضاً عن الخوض في الماضي المأسوي، تعتزم تركيا الاحتفال هذا العام بذكرى معركة "غاليبولي"، أو ما يسمى أيضاً "حملة الدردنيل"، وهي المعركة التي انتصر فيها العثمانيون على الحلفاء الذين حاولوا احتلال إسطنبول. واللافت أن المعركة بدأت في الخامس والعشرين من أبريل، إلا أن الحكومة التركية قررت الاحتفال بها في الرابع والعشرين منه، في ذكرى بدء المذبحة الأرمنية، بل وجهت دعوة للرئيس الأرمني الذي رفض حضور الاحتفال.
يبين هذا الاحتفال المدى الذي تذهب إليه الجمهورية التركية في الحفاظ على الموروث القائم على الفخر بالماضي ونسيان أخطائه. فوضع درة انتصارات الأمة التركية والذي مهد لحرب الاستقلال وإقامة الجمهورية على يد أتاتورك محل ذكرى المذبحة، هو رفض واضح للاعتراف بأية أخطاء ويصل إلى حد إهانة ذكرى الضحايا.
2ـ إعادة تشكيل الذاكرة التركية
منذ أن تم تغيير الأبجدية التركية عام 1928، انقطعت الأجيال الشابة عن قراءة تاريخها. فلم تعد الأجيال التي ولدت بعد ذلك التاريخ تعرف شيئاً عما حدث إلا من خلال الكتب والإصدارات الرسمية. ونتيجة للتوجه الحكومي، منذ إعلان الجمهورية التركية، المشبع بالروح الكمالية المفرطة في التوجه القومي، جرى تصوير الأمة التركية على أنها ضحية لخيانات الأقليات من الأرمن والعرب وغيرهما، والتي أدت إلى تفتت الأمبراطورية.
وبسبب هذا التعتيم التاريخي، نشأت أجيال من الأتراك تنكر ما اقترفته الحكومات التركية من جرائم ضد الأقليات إبان الحكم العثماني. ويبدو أثر هذه السياسة جلياً في ما نشره أخيراً مركز دراسات الاقتصاد والسياسة الخارجية من نتائج لاستطلاع للرأي بين أن 9% فقط من الأتراك يرون أن على حكومتهم أن تعترف بإبادة الأرمن وتعتذر عنها.
إن إنكار إبادة الأرمن يرقى إلى موقف وطني يوحد الغالبية العظمى من الأتراك في وجه أعداء الأمة ومن يحاولون تدنيس تاريخها. وربما تذكّرنا حادثة الملاحقة القضائية للكاتب الشهير الحائز نوبل للآداب، أورهان باموك، بتهمة إهانة الدولة التركية وجيشها حين تحدث عام 2005 عن مقتل مليون أرمني على يد الأتراك، بمدى حساسية الأتراك تجاه هذا الأمر. إن الاعتراف بالإبادة الأرمنية سيتطلب إعادة قراءة للتاريخ التركي، وإعادة تشكيل لذاكرة أمة بكاملها ويبدو أن تركيا غير مستعدة لذلك الآن.
3ـ التعويضات
يقول أغلب المؤرخين إن إبادة الأرمن هي أول إبادة جماعية حدثت في القرن العشرين. وعليه، فإن الاعتراف بها سيضع تركيا القديمة في مرتبة ألمانيا النازية. وسيتم التعامل مع إبادة الأرمن على أنها شبيهة بالهولوكوست النازي. وهذا أمر سيرتب على تركيا، إضافة للتبعات المعنوية المحرجة دولياً، تبعات قانونية بصرف تعويضات لأسر الضحايا وهو أمر مهول إذا ما نظرنا إلى أرقام الضحايا التي يقدرها المؤرخون بما بين مليون ومليون ونصف المليون.
4ـ تعقيدات السياسة المحلية
إن أي اعتراف بالإبادة الأرمنية أو تراخ في الحفاظ على الكبرياء الوطني من قبل أردوغان وحزبه، سيعرضهما لخسائر فادحة في صفوف الرأي العام التركي. فالشباب الأتراك الذين تربوا على مقولة إن الأرمن كانوا خونة وإن الإبادة كذبة كبرى، والذين رأوا معاناة الأتراك على أيدي المسلحين الأرمن معروضة في المتحف العسكري التركي في إسطنبول، لن يتقبلوا من قادتهم أن يمسوا شعورهم الوطني. وهذا أمر، برغم أنه مستبعد الحدوث، سيمنح المعارضة اليمينية ذخيرة كافية في الانتخابات المقبلة للنيل من معسكر أردوغان الساعي إلى تأسيس جمهوريته الجديدة.
وفي تطور لافت، صرح رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو أن تركيا "تشاطر آلام الأرمن الذين قتل أسلافهم منذ 100 عام في الدولة العثمانية". كما قال أوغلو إن إسطنبول ستحتضن هذا العام مؤتمراً لإحياء ذكرى مقتل الأرمن. ومع هذا، فإنه شدد على أن بلاده ترفض تماماً وصف ما حدث بأنه إبادة جماعية، وأعاد التأكيد على أنها أعمال قتل وقعت بحكم ظروف الحرب آنذاك. ويعتقد أن هذا التطور سببه تزايد الضغوط الدولية على تركيا في ما يخص مذبحة الأرمن. فقد أيد الاتحاد الأوروبي أخيراً اعتبار المذبحة "إبادة جماعية" بحق الأرمن. كما أن البابا فرنسيس قام بالشيء ذاته في خطاب علني، وهو ما احتجت عليه تركيا رسمياً.
قد تحمل الذكرى المئوية شيئاً من التغيير في الموقف التركي الذي كسر المنع الصارم للنقاش العلني حول الموضوع. لكن الطريق يبدو مسدوداً أمام اعتراف الأتراك بأن أجدادهم أبادوا عن سابق إصرار مئات الآلاف من الأرمن بحجة حماية الأمبراطورية التركية المتداعية آنذاك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع