شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في دمشق، السلاح الذي لا يقتل، يُؤكل

في دمشق، السلاح الذي لا يقتل، يُؤكل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 15 نوفمبر 201811:34 ص
في مطعم فخم وسط العاصمة السورية دمشق، تمتلئ الطاولات على مدار الساعة وخاصة في فترة المساء بالزبائن القادمين لتناول مختلف أنواع الأطعمة والمشروبات، وتدخين النارجيلة وربما مشاهدة إحدى مباريات كرة القدم. للوهلة الأولى، لا يبدو مطعم "تشابلن" مختلفاً عن غيره من المطاعم التي باتت تملأ شوارع المدينة. يرحب نادل مبتسم بالقادمين، يجلسهم في طاولة ملائمة، ويحضر لهم زجاجة مياه وكؤوساً فارغة، مع القائمة لاختيار ما يرغبون بتناوله. نظرة سريعة لقائمة الأطعمة، ولا بد أن ترتسم الابتسامة، ربما مصحوبة ببعض الذعر على وجوه الزبائن، ففي مقدمة القسم الخاص بوجبات الدجاج واللحوم، تتربع ست وجبات لها أسماء مطابقة لأسلحة باتت معروفة للسوريين بشكل خاص خلال السنوات الثمانية الأخيرة، إذ أنها أصبحت جزءاً لا يفارق يوميات حياتهم. دوشكا ستيك Dushka Steak. تشكين تورتيلا بي كي سي Chicken Tortilla P.K.S. مكيسكان ميت بومبا Mexican Meat Bomba. هوت دوغ كلاشينكوف Hot Dog Kalashinkov. فيتوتشيني توماهوك Fettuccini Tomahawk. كريسبي آر بي جي Crispy R.B.J. لا يمنع ذلك الكثير من الزبائن من تجربة هذه الوجبات والتلذذ بطعمها وأيضاً شكلها المتقن، فهي لم تصنع من الرصاص أو الحديد أو الصلب، وإنما من لحوم ودجاج وخضار وخبز إضافة لبعض المنكّهات الضرورية كالخردل والمايونيز والكتشب.

ثقافة السلاح

في حديث مع رصيف22، يقول وليد الخطيب وهو رئيس الطهاة في مطعم تشابلن، بأن فكرة إدراج تلك الأطباق الستة الجديدة إلى جانب الوجبات التقليدية ضمن قائمة الأطعمة راودت صاحب المطعم منذ حوالي ثمانية أشهر، وهو تاريخ يتزامن مع قرب انتهاء المعارك بشكل كلي في دمشق ومحيطها. "لم أكن حينها أنا موجوداً هنا وإنما كنت أعمل في مطعم آخر. بادر الشيف السابق لابتكار وجبات جديدة لم تكن موجودة من قبل، وعلى الأغلب استوحى شكلها وطريقة تحضيرها من اسمها"، يضيف الخطيب مبتسماً، وهو محق بكل تأكيد، ففي وجبة هوت دوغ كلاشينكوف على سبيل المثال تبدو قطع الهوت دوغ مصفوفة إلى جانب بعضها وكأنها طلقات بندقية أو رشاش تستعد للانطلاق نحو هدفها. يشير الشيف في حديثه إلى إقبال الزبائن على تناول هذه الوجبات بشكل خاص، "البعض يأتي للمطعم دون علم بوجود أطعمة بهذه الأسماء فيقرر تجربتها، وآخرون يحضرون بناء على نصيحة أصدقائهم أو أقاربهم، أو لأنهم سمعوا بأننا نقدم أطعمة ذات أسماء غريبة وملفتة للنظر". ولا يعتقد الخطيب بأن كل السوريين يرغبون بالهرب من الحرب وتبعاتها وإنما على العكس، الحرب باتت ميداناً جديداً لاكتشافات ليست مرتبطة بالقتل والدمار بالضرورة. "لننظر حولنا. كثيرون وعددهم في ازدياد يرتدون ملابس ذات ألوان عسكرية. نحفظ اليوم أسماء وأنواع معظم الأسلحة التي استخدمت في الحرب على سوريا، ونتسلى بتناول أطعمة تحمل نفس الأسماء وكأننا في لعبة". Buns and Guns وسوريا ليست الوحيدة أو الأولى في العالم العربي الممزق من الحروب، والتي تنعكس فيها الحرب وتترجم على أرض الواقع لمظاهر مدنية ذات طابع عسكري. لننظر قليلاً إلى الجارة لبنان، ولعلّها كانت السبّاقة في افتتاح مطعم باسم Buns and Guns أو شطائر ومسدسات، وذلك في أعقاب حرب تموز 2006. يقع المطعم تحديداً في الضاحية الجنوبية لبيروت، وتغطي واجهته أكياس رمل تشبه المتاريس المستخدمة في المعارك، وفي داخله تنتشر على الجدران صور لبعض أنواع الأسلحة والذخائر الحية. جميع وجبات هذا المطعم، ووفق ما يتبين في لقاء تلفزيوني نُشر مع مالكه عام 2008، تحمل أسماء أسلحة مثل كلاشينكوف، آر بي جي، دراغونوف، بي 52، وغيرها. أما شعار المطعم فهو "سندويشة برغر يمكن أن تقتلك A Burger Can Kill You"، مع صورة للسندويشة القاتلة وفي وسطها مسدس، في إشارة لتميز وجبات وسندويشات المطعم طعماً وحجماً. "حسيتا فكرة حلوة بتشد الزبون بطريقة مش عادية. مزبوط عسكري وقاسي، بس ما في واحد كمش المينو (قائمة الطعام) إلا ما تضحك وانبسط. أنا هاد هدفي، أنو يضحك"، يقول صاحب المطعم في التقرير المذكور.
"لننظر حولنا. كثيرون وعددهم في ازدياد يرتدون ملابس ذات ألوان عسكرية. نحفظ اليوم أسماء وأنواع معظم الأسلحة التي استخدمت في الحرب على سوريا، ونتسلى بتناول أطعمة تحمل نفس الأسماء وكأننا في لعبة".
عسكرة المجتمع، أي تبدل السلوك المدني الطبيعي في الحياة اليومية إلى سلوك عسكري تدعمه إيديولوجيات عسكرية وثقافة اجتماعية، إضافة لاقتران المزاج العام والسلوك المدني بمثيله العسكري

عسكرة المجتمعات أثناء وبعد الحرب

من الظواهر الشائعة خلال الحروب التي تشهد استخداماً وحضوراً بارزاً للقوة العسكرية، ما يعُرف بعسكرة المجتمعات. لهذه الظاهرة عدة تعريفات، أحدها هو سيطرة القيم والمظاهر العسكرية على الحياة المدنية، حيث يصبح العنف وسيلة لتحقيق الأهداف وحل الخلافات، ويعتاد المجتمع على مجموعة من التقاليد والأعراف الشبيهة بتلك الموجودة في المؤسسة العسكرية، فتصبح جزءاً لا يتجزأ من الحياة العامة. وتشير دراسات ذُكرت في كتاب "النزعة العسكرية: تاريخ النقاش الدولي" الذي ألفه المؤرخ الألماني "فولكر برغهان" وصدر عام 1984 إلى أن أول استخدام لمصطلح العسكرة كان في أوائل القرن التاسع عشر من قبل الكاتبة والمترجمة "فيكتورين دو شاستيناي"، حيث عزت ازدهار حكم نابليون الأول إلى اعتماده على النزعة العسكرية للهيمنة على المدنيين، وتركيزه على القيم والروح العسكرية على أنها المقياس الأساسي لولاء المدنيين للسلطة والدولة. واليوم، تبرز هذه الظاهرة جلية في عدة بلدان عربية. في دراسة صادرة عام 2017 عن المركز الديمقراطي العربي في ألمانيا، يتحدث أحد أساتذة كلية العلوم السياسة بجامعة النهرين في العراق الدكتور حسن عبد الحميد عن عسكرة المجتمع العراقي بعد حرب عام 2003. ويشير إلى تبدل السلوك المدني الطبيعي في الحياة اليومية إلى سلوك عسكري تدعمه إيديولوجيات عسكرية وثقافة اجتماعية، إضافة لاقتران المزاج العام والسلوك المدني بمثيله العسكري، ليصبح هذا السلوك نشاطاً اجتماعياً عادياً لا بل ومرغوباً به في كل الأوقات. وأرجعت الدراسة أسباب ذلك إلى تنامي القوة الشخصية الفردية على حساب البنى المؤسسية التي أصبحت ضعيفة للغاية، وتراجع الثقافة السياسية والديمقراطية، وتفشي الفساد واعتماد ثقافة الولاء بدل ثقافة الانتماء، إضافة للتفكك الأسري وتراجع المستوى المعيشي والاقتصادي وأيضاً التعليمي في عموم أنحاء البلاد. والنتيجة، تداعيات سلبية يمكن رصدها بسهولة في الحياة اليومية العامة داخل المجتمع العراقي وعلى المستويات السياسية والاجتماعية والأمنية، حيث يتنامى العنف وتتراجع فرص الاستثمار برأس المال الاجتماعي.

طفل بلباس عسكري

وبالعودة لسوريا، لا تصعب ملاحظة تجلي العسكرة في عدة أوجه ضمن الحياة اليومية التي يعيشها السوريون في مختلف المدن، واستساغة المدنيين لتلك المظاهر في بعض الأحيان. في أحد المقاهي الواقعة شرق العاصمة دمشق، تجلس عائلة مكوّنة من أب وأم وطفل لا يتجاوز عمره العامين. ينشغل الوالدان بالحديث والطعام، وبين الفينة والأخرى يلاعبان الطفل الذي يرتدي بنطالاً رياضياً وسترة مموهة بألوان تشبه ألوان الزي العسكري. تبتسم الأم، وتدعى آلين، لدى سؤالها عن سبب ارتداء ابنها الصغير لهذه السترة، وتقول بأنه هو من اختارها بنفسه عندما كانوا يتسوقون الملابس من أحد المحال الكبيرة في العاصمة اللبنانية بيروت. "أحسن خليه يتعود، وهو بكل الأحوال بيحب يلبس متل الجيش"، يضيف الأب ضاحكاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image