"السعيد من لا يفكر بالسعادة" عباس محمود العقاد
لنرى أنفسنا أمام مقاربات وتيارات مختلفة تجعل من تعريف السعادة كتلة لا متجانسة من التعريفات والنصائح، سواء كانت مرتبطة بنمط الحياة وضمان استمرارها.
"السعادة هي أن تحمل شخصا بين ذراعيك مطمئنا لِأنك تحتضن العالم بأكمله" أورخان باموق
أو تلك المرتبطة بالمال والسلطة:"الفقراء يعتقدون أن السعادة في المال ، في حين أن الأغنياء ينفقون المال بحثاً عن السعادة" توماس سكوت
أو حتى تلك العدمية التي ترفض كل شيء، وترى السعادة مجرد وهم بشريّ:"لا أعتقد أن السعادة يُمكن تحقيقها أما راحة البال والطمأنينة فممكنةٌ" جوستاف فلوبير
نحن أمام بنيان رمزي و ثقافيّ تحضر "السعادة" ضمنه كموضوعة غير قابلة للتعين بدقة، لا تعريف واضح لها، وكأنها كلمة لا تحيل إلى أي شيء، فأرسطو سأل عن معناها:"الهدف الأوحد الذي نبحث عنه دائماً لذاته"
ومن تبعه من فلاسفة حتى الآن يسألون عنها، ومراهق يحاول تقبيل صديقته، يسألها أيضاً عن السعادة بانتظار جوابها المقنع:
"شو بتعنيلك السعادة حبيبتي؟"
هل يمكن تأريخ السعادة؟ أي إيجاد تسلسل زمني ومنطقي لظهور هذه الموضوعة الفلسفية والذاتيّة ضمن تاريخ الأفكار؟ نعم، بالطبع يمكن ذلك، وكثيرة هي الكتب، الجادة والمبتذلة التي تلتقط أفكار الفلاسفة عن "السعادة"، وكيف تغيّرت من عبر الزمن وحسب الشروط النفسيّة والسياسية والاقتصاديّة، لكن هناك سؤال لا يطرح دوماً، هل من فترة تاريخيّة كانت السعادة فيها مهيمنة؟ فترة كان الكل بها سعيداً؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال السابق بوضوح دون فهم السعادة بوصفها تكوينا ثقافياً بشرياً، ونزعة قائمة على "الحظ" في بعض الأحيان، كما يحيل الجذر الكلمة الإنكليزي والفرنسي للكلمة، هي أشبه بشيء قد يحصل أو لا يحصل، الأهم، أنها غير موجودة، وذاتيّة جداً، أما حالاتها المكتملة فنراها متنوعة، في انتصار الطبقة العاملة على البرجوازية، في وجد صوفيّ يخطف المريد نحو العلويّ دون عودة، ولدى الرومانسيّ الذي يجد خلاصه في قصيدة أو شخص أو غابة.إن كانت السعادة سعياً ذاتياً واجتماعياً ومحركاً للظاهرة البشريّة، هل هي أخلاقيّة؟
"السعيد من لا يفكر بالسعادة": عن الاقتباسات والنصائح التي تجعل السعادة في متناول أيدينا لكننا نعجز عن إدراكهاالتحولات السابقة للسعادة مرتبطة بطبقتين من الوعي، الأولى هي الإدراك بأن هذا العالم ليس بمثاليّ، ولا بد من بديل له يحقق لنا كل رغباتنا، واليقين أنه مهما اختلفت أشكال السعادة "الأرضية" فهي لا تحقق الاكتفاء للجميع، ولا بد من نفي شكل العالم الحاليّ لنحقق سعادة لا متناهيّة، مهيمنة، دائمة، لا تتكرر. الطبقة الثانيّة مرتبطة بنا كبشر، وإدراكنا لنقصنا، وأننا كموضوعات نسعى دوماً للاكتمال، لا بالمعنى الديني، بل بالاكتمال بوصفه عكساً للقلق، يرافق هذا النقص، إدراك أننا لن نصل إلى لحظة نتحرر فيها كلياً، كون أجسادنا ذاتها غير مكتملة، هي مهددة دوماً وبحاجة للرعاية والعنايّة. تتميز تواريخ السعادة أيضاً أنها ترى فيها حالة طارئة، أو مُصادفة، أو وليدة جهود و"سعي للسعادة"، ما يعني أنه يمكن بكل بساطة، أن لا تتحقق. هي ليست وليدة شروط ذاتيّة أو موضوعيّة، بل هي تخيّل رمزي للعالم شديد الوهميّة حد الظن بأنه واقعي، والأخطر أن هذا التخيل والنزعة للاكتمال هي التي تحرّك سياسات السيطرة والتلاعب، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، فالسعادة والنظام الثقافيّ الذي يولدها، سواء كان تكويننا الفردي النفسي أو البنيان الاجتماعيّ يجعلها أشبه بخطأ نادر التكرر، سؤالها حاضر دوماً، كونها مرتبطة بالنقص. بعكس أفلام الخيال العلميّ، التي تبدو هشّة حين نرى الآلة ترى سعادتها في أن تصبح "بشريّة"، ما يتناقض مع قدرة الآلة ووعيها الاصطناعي على إدراك الاكتمال الذاتي، فهي تقتنع بحدودها ولا تؤمن بأن هناك شيء بعدها.