هي على الأرجح أغلى رسالة في العالم، منذ بيعِ رسالة إحدى ضحايا تايتانيك بـ166 ألف دولار العام الماضي. إنها رسالة الشاعر والناقد الفرنسي شارل بودلير التي يعلن فيها اعتزامه الإقدام على الانتحار، عُرضت في مزاد علني مساء الأحد في فرنسا، وسط منافسة محمومة للحصول عليها، بلغت ذروة قيمتها 180 ألف يورو لحظة دقت مطرقة دلّال المزاد، بقوة ثلاث مرات معلنة رسو المزاد عند مشترٍ مجهول. لكن مع دفع تكاليف المزاد ثم التوصيل إلى جهة الشاري يقفز سعر الرسالة إلى 234 ألف يورو.
هذا المبلغ فاق ثلاث مرات تقديرات المختصين الذين رجحوا قيمة الرسالة بين 60 ألف يورو و80 ألفاً.
ولا تُعرف حتى الساعة هوية شاري الرسالة، فهو لم يكن حاضراً في قاعة المزاد العلني، ولا ممثله، بل كان يزايد عن طريق الهاتف، لتنتهي بين يديه. الثابت أن الشاري شغوف بالحياة لا بالموت بدليل رغبته في تملك رسالة كاتب يائس.
كتب بودلير المولود في باريس في 4 أبريل 1821 والمتوفي في 31 أغسطس 1867، رسالته في يونيو 1845، ليعلن فيها اعتزامه الانتحار. كان عمره 24 عاماً، بعث برسالته لعشيقته جان دوفال، وقال لها فيها "حين تسلم الآنسة جان لومير إليك رسالتي هذه سأكون قد فارقت الحياة، سأموت في قلق مضنٍ، أنتحر لأني ما عدت قادراً على العيش، معاناة في النوم ومعاناة أخرى لأستيقظ ما عدت أتحملهما".
كتب بودلير هذه الرسالة الغارقة في السوداوية، حين كان يعاني من سوء فهم أسرته وسوء تقديرها كذلك، وكان يمر بمشاكل مالية خانقة، وكان أيضاً مدمناً على الكحول، كان كل ذلك يخنق ذائقته الشعرية، وهذا ما جعله يقدم بالفعل على طعن نفسه بسكين، بعد كتابة تلك الرسالة، لكن الطعنة لم تصبه بأذى كبير، فواصل الحياة 22 عاماً أخرى بعد تهديده بالانتحار ومات في عمر الـ46 عاماً.
عرضت رسالة بودلير في مزاد علني الأحد ضمن مجموعة من المخطوطات الثمينة لكتاب وشعراء وحملت اسم "مجموعة بودلير وكبار الكتّاب".
العام الماضي، بيعت رسالة انتحار الكاتب الفرنسي غي دو موباسان بنحو 15 ألف يورو، كان قد كتبها عام 1892 وأرسلها إلى صديقه وكاتم أسراره الطبيب هنري كازالي، كانت رسالة يأس قاتل قال فيها "صديقي العزيز، أنا تائه تماماً، بل أنا أحتضر، فمخي أصابه الضمور بسبب غسيل الأنف الذي أكرره بالماء المالح…كل ليلة يسيل مخي من أنفي في لعاب لزج... إنه الموت المحدق... إني أعاني منذ عشرين ليلة، أفقد عقلي…وداعاً صديقي لن تراني مرة أخرى".
كتب بودلير رسالته في يونيو 1845، ليعلن فيها اعتزامه الانتحار. كان عمره 24 عاماً، بعث برسالته لعشيقته جان دوفال، وقال لها فيها "حين تسلم الآنسة جان لومير إليك رسالتي هذه سأكون قد فارقت الحياة"… الرسالة بيعت أمس فكانت أغلى رسالة انتحار على الإطلاق
رسائل انتحار الكتّاب…لا شيء يعادل الحياة
لا شيء رومانسي في الانتحار، فإقدام الإنسان على إنهاء حياته لا يبدو جميلاً بأي حال حتى لو كان المنتحر كاتباً أو شاعراً مثل بودلير الذي فشل في إنهاء حياته، أو ربما لم يكن ينوي بالفعل إنهاء حياته، بدليل تلك الطعنة الخفيفة التي جرحته فأعادته إلى الحياة بقوة، فقاوم هناتها منتصراً عليها مثل منتصر عائد من الموت إلى الحياة، ليكتب أشعاراً على امتداد 22 عاماً أخرى. لكن كتاباً وشعراء آخرين ذهبوا بفكرة الموت بعيداً. مثل الكاتبة فرجينيا وولف التي تركت رسالة لزوجها عام 1941 تخبره فيها بأنها ستنهي حياتها، ثم غادرت بيتها متوجهة إلى نهر وملأت جيوب معطفها بالحجارة، وألقت بنفسها في المياه. في تلك الرسالة الملأى بالحب كما اليأس والخوف من الجنون، دوّنت وولف ألمها إذ كانت تعاني من اضطرابات ثنائي القطب وفسرت سبب ضيقها بالحياة فقالت في رسالتها: "عزيزي. صرت متأكدة أني سأفقد عقلي من جديد، أشعر أننا ما عدنا قادرين على تحمل تلك الفترات المروعة..أشعر أني هذه المرة لن أستطيع المقاومة، لقد عادت تلك الأصوات من جديد، ما عدت قادرة على التركيز، لهذا أقوم بما أراه الحل الأنسب". بقي زوجها يبحث عن جثتها أسبوعين، وهي غارقة في نهر أوز…مثل فصل رواية لم تنتهِ. وفي عام 1980 أقدم الكاتب والصحفي الفرنسي رومان غاري على إطلاق رصاصة في فمه تاركاً رسالة ساخرة للصحافة تقول: "لا علاقة بين هذا وبين جين سيبرغ...فما على محبي القلوب الكسيرة سوى التوجه إلى سواي" وجين سيبرغ كانت زوجته السابقة وهي ممثلة فرنسية جميلة انتحرت قبله بعام واحد تاركة له ابناً. كان غاري قد لمّح إلى الانتحار في حوار صحفي حين سألته صحفية عام 1978 عن الشيخوخة، فقال إنها كارثة لن تصل إليه لأنه عقد العزم على ألا يشيخ. لم يفهم أحد حينذاك أنه كان يقصد الانتحار. في تلك الرسالة، برر غاري فعلته بالقول "قد يُبرر ذلك بانهيار عصبي. حينذاك، ينبغي الاعتراف بأنه مستمر منذ بلوغي وبأنه هو المسؤول عن عملي الأدبي. لماذا إذاً؟ ربما ينبغي البحث عن الجواب في عنوان رواية سيرتي الذاتية "سيكون الليل طويلاً"، وفي آخر جملة من روايتي الأخيرة: لأننا لن نستطيع التعبير بأفضل من : لقد عبّرت عن نفسي أخيراً". تعبير آخر بالموت وعنه كذلك، كتبه الشاعر الروسي سيرغي إيسنين لا بالحبر بل بدمه قبل أن يلفظ أنفاسه بعدما شنق نفسه في غرفة بفندق عام 1925 تاركاً رسالة كتبها بدم وريده يقول: "إلى اللقاء يا صديقي، بلا مصافحة ولا كلام، لا تحزن ولا تتجهم، في هذة الحياة الموت ليس أمراً جديداً...أن تعيش كذلك ليس أمراً جديداً". إرنست هيمنغواي الكاتب الأمريكي صاحب رواية العجوز والبحر، كان سوداوياً في كتاباته، كثير التشاؤم، وكان الموت حاضراً بقوة في رواياته وعلى نحو خانق للقارئ. في "وداعا أيها السلاح" حملنا إلى أتون الحرب وفي "لمن تقرع الأجراس" كان ينذرنا بموت أحباء البطل تباعاً. كان انتحار هيمنغواي في يوليو 1961 قريباً من أجواء رواياته، فلقد أطلق رصاصة من بندقيته وهو في قمة النجاح كمن ينهي أسطورة على نحو مفاجئ. سأقذف نفسي أمامكَ، غير مقهورة أيها الموت، ولن أستسلم! كانت جملة لفيرجينا وولف أنهت بها روايتها "أمواج" وكأنها تقود القارئ بخفة إلى نهايتها المحتملة، دون أن يعرف أن الموت كان جاثماً على صدرها وهي تبدع في الكتابة. فيرجينا التي كانت تحدق في وجه الموت وهي تكتب، استسلمت تماماً لذلك الجنون الذي كان يصفر في رأسها ويكسر إبداعها، فاختارت أن تكسر إيقاع حياتها الصاخبة بالكتابة والدراما ذاهبة إلى صمت الموت الفاجع في قاع نهر حيث لا أمواج تحملها إلى الساحل.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...