في منزلهما الصغير الكائن بإحدى ضواحي العاصمة السورية دمشق، يجلس أبو رشيد وأم رشيد على أريكتين متقابلتين، وملامح التعب والمرض تبدو جليّة على وجهيهما. يجاهد أبو رشيد للتنفس وفي فمه أنابيب تساعده على التغلب على التهاب القصبات المزمن الذي أصيب به منذ سنوات، وتغالب أم رشيد دموعها عندما يمرّ ذكر أبنائها الثلاثة الغائبين.
"بين السفر والفقدان دون معرفة المصير، التهمت الحرب أبنائي وألقت بي وبزوجي بعيداً عن منزلنا وحياتنا التي كانت في دير الزور، فلم نجد سوى هذه الغرفة كي نقضي فيها سنوات شيخوختنا، ونحن وحيدان دون أولادنا"، تقول أم رشيد ولها من العمر ستون عاماً، لرصيف22.
كآلاف العائلات التي كانت تقطن مدينة دير الزور شرقي سوريا، اضطرت أسرة أبي رشيد لمغادرة منزلها عام 2015 هرباً من المعارك الطاحنة التي دمّرت معظم أرجاء المدينة وفرضت على سكانها حصاراً قاسياً، لكن هذا الهرب كلّفها فقدان ابنها الأصغر مأمون الذي كان في سنته الرابعة بكلية الطب، حيث اختطفه مقاتلون من تنظيم الدولة الإسلامية أثناء خروج العائلة من المدينة، ولا يزال مصيره مجهولاً حتى اليوم.
"هل من أنباء عن المختطفين لدى هذا التنظيم؟" تسأل أم رشيد كل من يزورها بتهلف، لعله يعلم ما يمكن أن يُجيب عن الأسئلة التي تدور في رأسها مراراً وتكراراً، تاركة إياها فريسة الحزن واليأس.
الصمت بات رفيقهما في بعض الأحيان، والمشاجرات في أحيان أخرىأما الابنان الآخران فآثرا مغادرة البلاد والعمل خارجها، مما شكّل مورداً مادياً لأبي رشيد وأم رشيد يعينهما على تحمل أعباء الحياة، وتكاليف علاج الأمراض التي بدأت تفترس جسديهما منذ سنوات. ورغم حزن العجوزين على فقدان العائلة والحياة بوحدة في مدينة غريبة عنهما، إلا أن أبا رشيد يعتقد بأن سفر ابنيه كان الخيار الأنسب مع ما تعيشه البلاد من حرب قتلت كل الأحلام بفرص تعليم وعمل وحتى زواج ملائمة، "من الأفضل أن يبقى ولداي بمأمن خارج سوريا، ويكفينا اختفاء مأمون وهو الحزن الأكبر الذي قصم ظهرنا"، يضيف أبو رشيد بأسى وهو يتحدث إلى رصيف22. "وكيف تقضيان أوقاتكما؟"، يبتسم كل منهما للآخر بودّ. تقول أم رشيد إن الصمت بات رفيقهما في بعض الأحيان، والمشاجرات في أحيان أخرى. "هي وسيلة لتفريغ ما نشعر به من غضب وحزن. نريد أن نعرف مصير ابننا، ونحلم بأن تتمكن عائلتنا من اللقاء مرة أخرى". ولعلّ أبا رشيد وأم رشيد محظوظان ببقائهما معاً، فتقرير صادر عن الهيئة العامة للطب الشرعي بسوريا الشهر الفائت، كشف أن مراكز الطب الشرعي في مختلف المحافظات السورية تعثر يومياً على جثة شخص كهل متقدم في العمر مات وحيداً في منزله نتيجة احتقان العضلة القلبية في معظم الحالات.
"هل من أنباء عن المختطفين لدى هذا التنظيم؟" تسأل أم رشيد كل من يزورها بتهلف، لعله يعلم ما يمكن أن يُجيب عن الأسئلة التي تدور في رأسها مراراً وتكراراً، تاركة إياها فريسة الحزن واليأس.
اختارت النوم في الغرفة المطلة على الشارع لتتمكن من سماع الحركة من الخارج والنوم على أصوات الجيران وهم يلعبون طاولة الزهر ويصيحون، فذلك بالنسبة لها مؤشر على وجود حياة قريبة خارج مكانها الصغير هذا.ووفق التقرير، تلعب الحالات النفسية دوراً في إصابة الكثير من المتوفين المتقدمين في العمر، أي ممن تجاوزوا عامهم الستين، باحتقان العضلة القلبية وبالتالي الوفاة، وذلك لتركهم وحيدين في المنزل، بعد هجرة أولادهم. كما اعتبر مدير الهيئة العامة للطب الشرعي في تصريحات لوسائل إعلامية سورية محلية بأن هذه الظاهرة مقلقة وخطيرة، ولم تكن موجودة قبل العام 2011 إلا في ما ندر.
الوحدة ليست سيئة بالضرورة
تحاول فاطمة (48 عاماً) الاستمتاع بوحدتها بعد طلاقها وسفر أولادها الأربعة بشكل تدريجي خلال السنوات الفائتة. تجول في أرجاء بيتها، ترتب غرفة تركت فيها أغراض أبنائها علّها تؤنس وحدتها، وتنشغل بصناعة الحلويات وهي هوايتها الجديدة مذ انتقلت للحياة بمفردها في هذا المنزل بمدينة جرمانا بريف دمشق منذ حوالي عام ونصف.ترتب غرفة تركت فيها أغراض أبنائها علّها تؤنس وحدتها، وتنشغل بصناعة الحلويات وهي هوايتها الجديدة مذ انتقلت للحياة بمفردهالم تكن الأشهر الأولى لفاطمة في هذا المنزل سهلة كما تشرح لرصيف22، إذ انتابها الخوف من قضاء اليوم في عزلة تامة، ولذلك اختارت النوم في الغرفة المطلة على الشارع لتتمكن من سماع الحركة من الخارج والنوم على أصوات الجيران وهم يلعبون طاولة الزهر ويصيحون، فذلك بالنسبة لها مؤشر على وجود حياة قريبة خارج مكانها الصغير هذا. "عندما وجدت أنني حقاً سأبقى وحدي دون أن يكون ذلك خياري الشخصي، قررت أن أخلق عالماً آخر لي، وألا أستسلم للحزن وأيضاً لنظرات الشفقة التي صرت أخاف أن أراها في عيون من هم حولي. شرعت بصناعة الحلويات والتفنن بها وهو أمر يريحني للغاية ويخفف ضغوط الحياة، وأفكر بأن أحوّل هذه الهواية لحرفة أعتمد عليها في حياتي مستقبلاً"، تقول فاطمة التي فضلت الحديث باسمها الأول. ولا تعلم فاطمة إذا كانت حقاً تأمل بعودة أبنائها لتعيش معهم مجدداً، فهي تعلم بأن من بدأ حياة جديدة في مكان آخر لن يتركها ويرجع لسوريا التي مزقتها الحرب، لكنها لا تملك سوى أن تنتظر ذلك، وتستمر في حياتها. وعلى مسافة قريبة من منزل فاطمة، يعيش حنين نونة ومريم دبوس بمفردهما بعد سفر أولادهما الثلاثة إلى لبنان. يشعران بالاطمئنان إلى أن الأبناء بعيدون عن نيران الحرب ومآسيها، لكن الرجل يصف حال العائلة اليوم وكأنها إنسان فقد ذراعه اليمنى، فلم يعد قادراً على أن يحيا بشكل طبيعي كما كان في السابق. "اختلفت الحياة بشكل كلي منذ سفر الأولاد"، يقول الزوجان الستينيان لرصيف 22 ويضيفان: "كثيراً ما نشعر بالملل والضيق عندما لا نجد من نكّلمه، لكننا نعلم بأن خيار السفر كان الأنسب، فنحن لا نريد أن نخسرهم". ميزان الخسارة والربح هذا لم يكن ضمن مفردات قاموس حنين ومريم قبل الحرب، لكن الخوف الذي قضّ مضجعهما مع تصاعد العنف وتعقّد المشهد في جميع أرجاء سوريا دفعهما للتضحية في سبيل الحفاظ على حياة ومستقبل الأبناء، وهو خيار لم يندما عليه يوماً. "لا نريد لأي منهم أن ينتهي جريحاً أو ضحية أو مضطراً لحمل السلاح، وعندما أرى بأن حالنا كحال كثير من العائلات حولنا أعرف بأن ما نعانيه جزء من مأساة جماعية اليوم في سوريا"، يعقّب الرجل وفي عينيه نظرة يختلط فيها الحزن ببعض الرضا والاطمئنان.
بعض المسنين في أحد شوارع حلبدور المسنين ولائحات الانتظار
الحرب غيّرت أيضاً في كثير من المفاهيم الاجتماعية التي كانت سائدة في سوريا قبل اندلاعها. على سبيل المثال، لم يكن من الشائع يوماً إرسال المسنين من أفراد العائلة ليقيموا في دور الرعاية المخصصة لهم، فالأسرة هي الحاضن الأساسي لأفرادها مهما تقدموا في العمر. عادة تبدّلت أيضاً خلال السنوات الفائتة. فالأشخاص الذين تجاوزوا الستين من عمرهم يشكّلون اليوم ما يقارب ستة بالمئة من سكان سوريا وفق إحصائيات سورية رسمية، ومع سفر كثير من الأبناء هرباً من الحرب وبحثاً عن حياة أفضل، يضطر بعض المسنين للانتظار على لائحة طويلة قبل أن يتاح لهم مكان شاغر في إحدى دور الرعاية، التي أصبحت الإقامة فيها بالنسبة لهم حاجة لا ترفاً. تخشى ميّ الحكيم من أن تضطر لهذا الخيار كحل أخير لما تعانيه خالتها البالغة من العمر سبعين عاماً، والتي تعيش وحيدة في منزلها بمنطقة المهاجرين غرب دمشق، بعد وفاة زوجها وسفر ولديْها. "لم يعد من السهل لي ولأختي رعاية خالتي والاطمئنان عليها بشكل يومي خاصة مع تقدمها في العمر وحاجتها لاهتمام دائم. تبدو دور المسنين خياراً معقولاً لكنه ليس مقبولاً اجتماعياً بعد بالنسبة لنا، كما أن لوائح الانتظار الطويلة تدفعنا للتفكير بأن نؤمن لها رعاية دائمة داخل منزلها بالاستعانة بأحد المختصين بذلك"، تقول الفتاة العشرينية. وتأسف عبير وهي تتحدث لرصيف22 لما تعتبره تغيراً كبيراً في المجتمع السوري، الذي يبدو أنه يتحول شيئاً فشيئاً لمجتمع عجوز بعد أن خسر الآلاف من شبابه. "لم نعتد من قبل رؤية مسنين يعيشون وحيدين تماماً في منازلهم. كنا نقرأ عن ذلك في روايات أو نشاهده في أفلام تتحدث عن بلدان أخرى عاشت حروباً طويلة الأمد، واليوم أراه على أرض الواقع هنا في سوريا".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم