يعتبر المطبخ الحلبي من أهم المطابخ في العالم لكونه يضم أطباقاً غنية جداً بمذاقها، ولعلّ أحد أسرار هذه النكهة المميزة هو الفلفل الحلبي الذي يشكل جزءاً أساسياً من بعض الأطباق الشعبية، على غرار "المحمّرة".
وتكتسب الفليفلة الحمراء بشكلٍ عام أهميةً كبرى لدى الشعب السوري، خاصة في فصل الشتاء، إذ تحرص النساء في الريف على حفظ الفلف الأحمر بطرقٍ مختلفةٍ لإعداد مثلاً "دبس الفليفلة" الذي يستخدم في العديد من الأطباق مثل "الكبة النيئة"، المحاشي على أنواعها، وأحد أشهر الأطعمة التي تندرج في "المونة السورية"، المكدوس.
وقد وصلت "شهرة" الفلفل الحلبي إلى أميركا وبات الشعب الأميركي يتلذذ بدوره بفكرة إضافة هذا المكوّن إلى مائدته، غير أن الحرب الأهلية الدائرة في سوريا ألقت بثقلها أيضاً على المطبخ الحلبي وأدت إلى انخفاض الواردات الأميركية من الفليفلة الحلبية المطحونة والمجففة بشكلٍ كبير، وهكذا تعرقل "سير" الطريق الذي يسلكه الفلفل الحلبي من البذرة إلى المائدة، بشكلٍ مأسوي.
الفليفلة للمحظوظين
اكتشف بعض الطهاة في أميركا "مفعول" الفلفل الحلبي ونكهته الساحرة، وباتوا يستخدمونه في مأكولاتهم لمنح الطعام مذاقاً استثنائياً. وفي هذا الصدد، وصف "ليور ليف سيركارز"، وهو صاحب متجر توابل يقع على الجانب الغربي لمانهاتن، الأشخاص الذين اكتشفوا أهمية الفلفل الحلبي "بالمحظوظين"، إذ قال: "هؤلاء المحظوظون بمعرفة الفليفلة الحلبية من سوريا بيننا يدركون جيداً كم هو لذيذ ويمنح الطعام مذاقاً ورائحة رائعة". وفي حين أن بعض شركات الأغذية السورية الكبرى، تعتمد على بضعة آلافٍ من الأسر لإنتاج وبيع الفلفل الحلبي، فإن عملية تحضير التوابل تعتبر مسألة صغيرة النطاق بحيث يجتمع أفراد الأسرة والجيران لتحضير الفليفلة.السيدات في حلب يتنافسن على من تستطيع تحضير أفضل الخلطات التي تضم في العادة البهارات والفلفل ودبس الفليفلة وغيرها من المكوّنات التي تميّز المطبخ الشرقي.
الفليفلة الحلبية هي من بين المحاصيل التي أصابها الدمار داخل المدينة وحولها بقيمة 550 مليون دولار أميركي في العام الواحد بين 2011 و2016.فكيف تتم عملية تحضير الفلفل الحلبي؟ تقول مارلين مطر، صاحبة كتاب The Aleppo Cookbook، أن سرّ نكهة الفلفل المميزة يعود في الأساس إلى كيفية تحضيره: "وهي عمليةٌ طويلةٌ" على حدّ قولها، واصفةً الطريقة التقليدية لتحضيره بالقول: "لا يتم غسله، بل تنظيفه بقطعٍ من القماش الأبيض، ومن ثم يُقطع طولياً من جانبٍ واحدٍ فقط لإزالة البذور، وبعدها يوضع الفلفل على السطح ليجفّ في الشمس". وبعد تجفيفه جزئياً، يتم طحن الفلفل الطبيعي الزيتي قبل خلطه بقليلٍ من الملح وزيت الزيتون، ومن ثم يُترك لكي يجف تماماً، وينتج عن هذه العملية فتات أحمر ياقوتي اللون ومالح قليلاً ويحافظ على مذاقه عند التجميد بفضل الزيت، وتعتبر "مطر" أن ما يميّز هذا الفلفل أنه سوري بامتياز:"في اللغة العربية، يسمّى الفلفل الأحمر في حلب "بلدي"، بمعنى أنه ينتمي إلى البلد". وفي كتابها "مائدة مارلين من حلب" الذي يعدّ أول كتابٍ شاملٍ وموثقٍ عن المطبخ الحلبي الذائع الصيت عالمياً، تخبر "مطر" كيف أن السيدات في حلب يتنافسن على من تستطيع تحضير أفضل الخلطات التي تضم في العادة البهارات والفلفل ودبس الفليفلة وغيرها من المكوّنات التي تميّز المطبخ الشرقي وتحديداً الحلبي عن سائر المطابخ في العالم.
وقع الحرب على الفليفلة الحلبية
منذ سبع سنوات والحرب الأهلية في سوريا مستمرة، ونتيجة حالة الفوضى والدمار الغارقة بها البلاد كان لهذا الأمر انعكاسٌ سلبي على المحاصيل الزراعية وتحديداً على الفليفلة الحلبية، خاصة في ظل التغيّر المناخي. فمنذ بدء الأزمة السورية، لوحظ انخفاض في الواردات الأميركية من الفليفلة الحلبية وتسببت الحرب القاسية في تدمير المدينة التي تتاجر في التوابل، واللافت أن الفليفلة الحلبية هي من بين المحاصيل التي أصابها الدمار داخل المدينة وحولها بقيمة 550 مليون دولار أميركي في العام الواحد بين 2011 و2016، بحسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، هذا وتأتي هذه الخسائر في المحاصيل على رأس الحظر الذي فرضته وزارة الخارجية الأميركية على الواردات السورية المباشرة منذ العام 2011. من هنا توضح صحيفة "نيويورك تايمز" في تقريرها أنه نتيجة قرار الحظر أصبح هناك عجز في الفليفلة الحلبية داخل الولايات المتحدة الأميركية في الوقت الذي أصبحت فيه الفليفلة المطحونة الحلوة-المالحة وشبه الحريفة معروفة بين أوساط الطهاة الأميركيين والمطاعم ومؤلفي كتب الطبخ وتجار التوابل. وفي ظل هذه الأزمة، يحاول المستوردون وباعة التوابل إيجاد طرقٍ جديدةٍ تعيد الفليفلة الحلبية الأصلية إلى الأسواق، وفي حين أن البعض يحصل على الفلفل عن طريق شبكة معارف وعلاقاتٍ سوريةٍ، فإن البعض الآخر يحصل على هذا المكوّن من خلال موردين في جنوب تركيا يزرعون الفلفل من البذور المتوفرة في بنوك البذور أو من خلال اللاجئين الذين حملوا البذور المطلوبة عبر الحدود. كما يتجنب بعض المزارعين الأميركيين وباعة الأغذية التحديات الكامنة وراء استيراد الفلفل الحلبي من خلال إنتاجه محلياً، في المشاتل التجارية في ولاية فرجينيا على سهول الغرب الأوسط، وفي جنوب كاليفورنيا المشمسة. وقد وصل عشق البعض لهذا المكوّن إلى حدّ "التفنن" في الفلفل الحلبي، على غرار ما فعله "تشاد لوكوك"، صاحب Race City Sauce Works في ولاية نورث كارولينا. ففي العام 2013، قدم "لوكوك" صلصة مبتكرة أطلق عليها إسم "شطة حلب المحمّرة والحرّيفة"، وهي عبارة عن مزج نصف حريف من الشطة والثوم الطازج والفلفل الحلبي المجفف في تركيا واليونان بواسطة النبيذ الأحمر، بالإضافة إلى الفلفل الحلبي المحمّر الذي يشتريه "تشاد" محلياً. وبدوره يعتبر الطاهي "إريك ريبيرت"، وهو صاحب مطعم Le Bernardin في مانهاتن أن "الفليفلة الحلبية حارة بالطبع، لكنها أيضاً حامضية وفاكهية بعض الشيء وفيها لمسة من المذاق الحلو"، مشيراً إلى أن هذا ما يجعلها مناسبة للصلصات وللأسماك المتبلة ولتحضير الأسماك النيئة. غير أن هذه الاستخدامات المستحدثة تختلف كثيراً عن دور التوابل التقليدي في المطبخ الشرقي، بحيث أن الفليفلة الحلبية تستخدم في الأساس كلمسةٍ نهائيةٍ على أطباق الحمص والكباب المشوي أو يتم مزجها بالفلفل الأحمر في المحمّرة.الفلفل الحلبي "المزيّف"
بالرغم من وجود بعض أنواع التوابل الحارة في السوق والتي يحمل البعض منها أسماء المدن المنتجة للفليفلة على الحدود السورية جنوبي تركيا، مثل: أورفة ومرعش وعنتاب، حيث يعيش العديد من اللاجئين السوريين، إلا أن لا شيء يمكن أن يضاهي نكهة الفلفل الحلبي الأصيل والذي يعرفه الخبراء عن كثب. فمع بداية الأزمة السورية انخفض محصول الفلفل الحلبي، والذي لا يعتبر مجرد نكهة بل هو تراث قائم بحدّ ذاته بحسب ما أشار إليه موقع "ناشونال جيوغرافيك"، الأمر الذي تطلب من بعض الباعة أمثال بيتر بهلوانيان، مالك Spice Station في لوس أنجلوس، عدة سنواتٍ من البحث عن موردٍ موثوقٍ للفليفلة الحلبية، كاشفاً أن هناك بعض الباعة الذين يقصدون متجره بهدف بيع توابلهم المزروعة على أساس أنها فلفل حلبي أصلي: "عندما إزدهرت الحرب وارتفع الطلب، انتشر الفلفل الحلبي المزيّف أو الفلفل على الطراز الحلبي"، لكن هذه المحاولات كانت تبوء بالفشل لكون الخبراء في هذا المجال يجيدون تمييز الفلفل الحلبي الأصلي عن الفلفل المزيّف. وبالرغم من كل هذه التجارب والتعديلات التي قام بها الطهاة، فإن الفلفل الحلبي لا يزال يحافظ على مكانته ضمن قائمة التوابل السورية والحلبية المميزة، وبالنسبة لمدينةٍ لديها تراث غني في الطهو وتقع على طول "طريق الحرير"، فإن الفلفل الحلبي لا يزال مصدراً للفخر لأبناء مدينة حلب، التي تعد واحدة من أقدم المدن في العالم.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم