بعد تلقيه رسائل تهديد على هاتفه الخليوي، عقد عضو كتلة المستقبل النيابية، النائب خالد الضاهر مؤتمراً صحافياً قال فيه: "أقول هنا لمن هدّدني إنني أمام التهديد أشتدّ لا أخاف من الموت وأقول للجميع إنه عندما كانت والدتي حاملاً بي جاء النبي في المنام إلى والدي وبشّره بي وهذه بشارة طيّبة وأصبحت بعدما أخبرني أهلي بهذا الأمر كالصاروخ المنطلق لا أحد يقف في وجهي أمام كلمة الحق...".
كلام النائب اللبناني أثار موجة واسعة من السخرية. ولكن الساخرين ليسوا كل المجتمع اللبناني، فهناك بيئات فقيرة لا تزال المعتقدات الشعبية الأسطورية تشكل جزءاً أساسياً من طريقة تفكيرها. سينسى الناس كلام النائب وستعلق في ذهن البعض فكرة أنه "مصطفى"!
السياسيون رُسل القدر!
الضاهر هذا ليس حالة معزولة. قبله بأيام انتشر تسجيل صوتي يكشف أن وزير الدفاع المصري الفريق عبد الفتاح السيسي يعتقد أنه من أصحاب الرؤى! في هذا التسجيل، نستمع إلى السيسي وهو يقول إنه منذ 35 سنة أتاه حلم (رؤيا) شاهد نفسه فيه وهو يرفع سيفاً "مكتوب عليه لا إله إلا الله باللون الأحمر"!. ويحدثنا أنه وفي منام آخر التقى بالرئيس المصري السابق أنور السادات. قال له الأخير: "أنا كنت عارف إنّنا حبقى رئيس الجمهورية" فأجابه: "ونا كنت عارف إنّنا حبقى رئيس للجمهورية". إنه السيسي الذي قيل له في المنام "سنعطيك ما لم نعطه لأحد من قبل"!
يحاول السيسي الإيحاء بأن وصوله إلى منصب رئاسة الجمهورية المصرية هو من تدبير الله، وربّما هو مقتنع بذلك. ليس فقط هذا، بل يريد القول إن السياسات التي سيتبعها هي سياسات أوكله القدر تنفيذها! بقي أن يوضح كلامه ويقول لمنتقديه: أتعترضون على مشيئة الله؟ سبقه مؤسس الجمهورية الإيرانية روح الله الخميني في هذا.
في بداية ثمانينات القرن الماضي، عندما كانت حرب ضروس تدور بين إيران والعراق، زار آية الله مهدي حائري يزدي الخميني وقال له: "حرام على المسلمين أن يقتلوا مسلمين. إن مئات الآلاف يموتون في حرب لا نهاية لها ولا تخدم غاية نبيلة". كان الخميني يستمع إلى زائره دون مقاطعته وعندما أنهى الأخير كلامه، سأله الخميني: "أتلوم الله أيضاً إذا أرسل زلزالاً؟".
هذه الحالات التي تتكرّر في العالم العربي ينبغي دراستها كحالات نفسية. لا شك في أن الأحلام التي نراها ترتبط بواقعنا. فنحن نرى فيها رغباتنا وهي تتحقق. المشكلة ليست أننا نرى هكذا أحلام، بل المشكلة تكمن في اعتبارها إشارات مُرسلة إلينا. في أحلامنا أيضاً، نرى مخاوفنا. بعد وفاة الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام عارف، بسبب تحطم المروحية التي كان يستقلها عائداً من زيارة إلى مدينة البصرة في 11 نيسان 1966، روت زوجته قصة "رؤيا" أتته وأنبأته أن زيارته للبصرة ستكون محطته الأخيرة!
العرب ليسوا استثناء!
العرب ليسوا استثناء. كثيرون حول العالم تتحكّم بهم ميول مشابهة. من ينسى الرئيس الأميركي المؤمن جورج بوش والرسائل الإلهية التي كان يتلقاها؟ كان بوش مقتنعاً بأنه يد الله على الأرض! يروي وزير الخارجية الفلسطيني السابق، نبيل شعث، أن بوش أخبرهم مرّةً: "الله قال لي: جورج اذهب وحارب الإرهابيين في أفغانستان، ففعلت. بعدها قال لي الله: جورج قم وأنهِ الطغيان في العراق. وها أنا أنفذ مشيئته. والآن أشعر بكلام الله يأتيني ويقول: أعط للفلسطينيين دولتهم وللإسرائيليين أمنهم وحقق السلام في الشرق الأوسط. وباسم الله، سأقوم بذلك".
مؤخراً، بعد وفاة الرئيس الفنزويلي السابق هوغو شافيز، برزت ظاهرة خلفه نيكولاس مادورو. تحدث مادورو عن لقاء بين شافيز والمسيح طلب فيه الأول من الثاني اختيار البابا فرنسيس. قال: "إن قائدنا صعد إلى السماء والتقى بالمسيح وجهاً لوجه... هناك شيء ما أثر على اختيار البابا من أمريكا الجنوبية، شخص جديد وصل إلى جوار المسيح وقال له: حسناً يبدو لنا أنه حان الوقت لأمريكا الجنوبية".
كذلك تحدث مادورو عن ظلّ الرئيس الراحل الذي ظهر لمجموعة من عمال البناء تحت الأرض، أثناء عملهم في شق طريق لخط مترو في العاصمة كاراكاس. قبلها، كان مادورو قد قال إن شافيز ظهر له بعد وفاته مرات عدّة، في إحداها على هيئة طائر. أحاديث مادورو عن تشافيز تنم عن إعجابه به وعن توقه إلى إكمال مسيرته إلى درجة أنه يتخيّل أنه لا يزال على تواصل معه. البطل لا يرحل بسهولة!
الهرب من الواقع
يلجأ الناس إلى الخرافات الشعبية لكي يهربوا من الواقع. ظواهر انتشار العرافين والمتنبئين و"المُلهمين" تلقى رواجاً شعبياً عندما يعظم الامتعاض الشعبي مما يجري وعندما تتعقّد أمور الحياة إلى درجة مثيرة للقلق.
قبل خروج المصريين إلى الميادين في 30 يونيو، وفي مناخ سياسي متوتّر على أثر دعوة حركة تمرّد إلى إسقاط الرئيس محمد مرسي، نشرت شبكة "يقين الإخبارية"، فيديو للقيادي في جماعة الإخوان المسلمين، الدكتور جمال عبد الهادي، يستعرض فيه رؤى شاهدها بعض الأشخاص. أحدهم "رأى مجلساً فيه النبي، وحان وقت صلاة العصر وكان معهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم الناس رسول الله للصلاة، فقال النبي: بل يصلّي بكم الرئيس محمد مرسي"! الثاني رأى "أن الناس كانوا فى الصحراء ومعهم خمسون جملاً، فاستغاث الناس بالله لعدم وجود ماء، فانفجرت ساقية ماء وصدر صوت قال: ارعوا إبل الرئيس محمد مرسي"! الثالث رأى "تساقط الكثير من الحمام الأسود على الأرض بينما ظلت ثماني حمامات خضراء على كتف الرئيس محمد مرسي"! الحمامات الثماني صارت، في التفسير، ولايتين رئاسيتين!
بعد عزل الرئيس مرسي اعتصم الإخوان في ساحة رابعة العدوية. هناك، أخبر أحد الدعاة الحشود أنه رأى النبي في منامه يدعم "الرئيس الأسير" في سجنه. قال لهم: "في المنام... جلست بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم في المطار حيث نام النبي على فخذي وقبلت رأسه وهو على أرض مصر، ثم بعد ذلك رأيت أني أنام فدخل الرئيس محمد مرسي ونام على مكان بجواري..." مستنتجاً أن النبي يقوم بحراسة مرسي!
عندما سقط الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين تداول مناصروه "نبوءات يهودية قديمة" مفادها أنه "سيأتي يوم نملك (اليهود) الدنيا وتركع لنا أعظم الملوك ولا نخشى إلا ملك بابل... ويأتي طير من السماء (الطائرات الأميركية) يلقي ما في بطنه فيظن الناس وجنده وأهله أنه انتهى، فيمرح أعداؤه ويبتهجون ولكن لا تكتمل البهجة، ويظهر بعد أيام معدودة كأنه عفريت من الجن".
وفور إعدام صدام حسين، سنة 2007، راح أنصاره يتناقلون الرسائل القصيرة داعين بعضهم البعض إلى مشاهدة صورة صدام منعكسة على القمر! الأمر نفسه حصل في لبنان، في بيئة مناصري حزب الله، ولكن هذه المرة كانت الصورة للقائد العسكري عماد مغنية، الذي تم اغتياله عام 2008! الملفت أن مسألة انعكاس صور "العظماء" على القمر بعد رحيلهم هي أسطورة قديمة، وهذا يؤكد أن كثير من الخرافات التي نظن أن العرب تجاوزوها لا تزال فاعلة في طريقة تفكيرهم.
أحياناً، يعرف السياسيون مدى أهمية المعتقدات الشعبية فيعملون على الاستفادة منها في تدعيم سلطتهم. الأذكياء منهم هم من يستغلون هذه المعتقدات دون أن ينسبوا شيئاً إلى أنفسهم على قاعدة: دع مخيّلة الجماعة تعمل. يروي الكاتب وليّ نصر، في كتابه "صحوة الشيعة"، أن أحد أعضاء البرلمان الإيراني سأل الإمام روح الله الخميني إذا كان هو المهدي المنتظر، فلم يُجب الإمام عن سؤاله. "وخشية من أن يكون الخميني لم يسمعه جيداً، كرّر عضو البرلمان السؤال عليه، لكن الخميني ظلّ معتصماً بالصمت، لا يدّعي ولا ينكر أنه المهدي".
الخرافة المكثفة
في كامب دافيد، في أميركا، وأثناء انعقاد مفاوضات بين مصر واسرائيل، قام المفاوض المصري حسن التهامي بتوزيع قطع من العنبر التي تستخرج من أحشاء حوت العنبر على زملائه وقال لهم: "ضعوها في أكواب الشاي فهي ستمنحكم القدرة على مواجهة الإسرائيليين". استجاب له أعضاء الفريق المصري ما عدا بطرس بطرس غالي!
في كامب دايفيد أيضاً، وجد بطرس غالي نفسه ماشياً بين التهامي ووزير الخارجية الإسرائيلي موشي دايان. سأل التهامي الأخير: "هل أنت المسيح الدجال؟" (في القصص الديني، نقرأ أن المسيح الدجال سيكون بعين واحدة. ودايان اشتهر بتغطيته إحدى عينيه التي خسرها في إحدى المعارك) ولكنه لم يلقَ أي ردّ.
حسن التهامي هذا كان أشبه بمشعوذ يدّعي القدرة على تفسير الأحلام. لطالما قال إنه سيدخل إلى القدس على صهوة حصان أبيض وسيتولّى منصب حاكم المدينة. ماذا يفعل شخص كهذا في مؤتمر هام ومصيري؟! الرئيس المصري الأسبق أنور السادات كان يستلطفه فجعله من خاصته. للعلم، كان التهامي، خلال حرب أكتوبر، مسؤولاً عن الدفاع عن مدينة السويس، وبعد سنوات مُنح رتبة "فريق" تقديراً لتفانيه في خدمة الوطن.
نقع على أمثلة عن الخرافات في كل نواحي الحياة. في أبريل الماضي، رأى نجم النصر والمنتخب السعودي السابق فهد الهريفي في حلم أن فريق النصر سيفوز على منافسه التاريخي الهلال بثلاثة أهداف دون مقابل وأنه سيسجّل بنفسه إثنين منها. فقام بالطلب من الإعلامي توفيق الخليفة تفسير "رؤياه"! كل هذا ظل ضمن نطاق المقبول إلى أن انبرى الباحث الشرعي مانع المانع إلى تفسير "الرؤيا"، في تعليق على رابط الخبر الأصلي المنشور في حساب صحيفة المواطن، قائلاً إن النصر سيضم مهاجميْن وسيساهمان في فوز النصر على الهلال ثلاث مرات متتالية! "لا يجوز الكذب بالرؤيا، وقد ورد فيه وعيد شديد، ولا يجوز العبث بتفسيرها أيضاً. وهذه رؤيا لها تفسير، فأرجو احترام رائيها بلا تعصب"، قال "الباحث الشرعي"!
لا تزال المعتقدات الخرافية فاعلة في واقعنا العربي. لم نكن لنسمع بهذه الأمثلة لو لم تكن القاعدة الشعبية مستعدّة لاستقبالها. حتى أننا نستطيع القول إنه، وفي زمن اللايقين وبعد التراجع الشديد الذي شهدته التيارات العقلانية، "الشعب يريد هذه النماذج".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين