عام 2011، اعترفت شركة "ذا مونيتور غروب" (The Monitor group)، ومقرّها كامبريدج الأمريكيّة، أنها تعاقدت مع الزعيم الليبي معمّر القذافي لتجميل صورته أمام الرأي العام الغربي. أتى اعتراف الشركة، المغلّف بـ"الأسف على ارتكاب خطأ من هذا النوع"، تزامناً مع ترنّح القذافي آنذاك قبل السقوط، لكن قبل ذلك كانت "ذا مونيتور غروب" التي تحظى بشهرة واسعة، بفروعها العديدة المنتشرة في حوالي ثلاثين دولة، قد قبضت 3 ملايين دولار أمريكيّة من النظام الليبي. ما طُلب من الشركة وقتها، بموجب استلامها المبلغ بين عامي 2006 و2008، كان من بينه: 1) إجراء اتصالات مع خبراء وأكاديميين وسياسيين أمريكيين وتأمين رحلات مدفوعة التكاليف لهم إلى ليبيا للقاء القذافي وأبنائه. 2) تأمين "زيارات مستمرة لشخصيات رفيعة" إلى طرابلس، يتم اختيارها بناء على أهمية الأفكار التي تحملها "وقوة تأثيرها على توجهات السياسة الخارجية الأمريكية". 3) تأليف كتاب حول "فلسفة القذافي في الحكم"، بناء على سلسلة من المحادثات بينه وبين ضيوفه الأمريكيين، لإظهار "الزعيم الليبي كرجل عمل وفكر... لا يفهمه الناس جيداً، خصوصاً في الغرب". 4) المساهمة في إعداد الأطروحة الجامعية، التي نال بناء عليها سيف الإسلام القذافي درجة الدكتوراه من "لندن سكول أوف إيكونوميكس" (London School of Economics) البريطانية. سقط القذافي لكن الشركة التي تأسست عام 1983 لم تسقط. الشركة التي كانت تقدر قيمتها بنحو 300 مليون دولار -وترتبط بعلاقات وثيقة مع جامعة هارفارد خصوصا ًمع كلية إدارة الأعمال فيها التي يُشرف عليها البروفسور الشهير ميشال بورتار - تغيّر اسمها فقط. عام 2013، استحوذت عليها شركة "ديلويت" للاستشارات ليصبح اسمها " Monitor Deloitte". وتعرّف عن نفسها بأنها "تمسك بيدك للانتقال إلى المستقبل بثقة"، وتجمع بين الرؤى العميقة والأساليب المتطورة لـ"مساعدة القادة على اتخاذ قراراتهم الحساسة والمفصلية". في المقابل، تطمئن "زبائنها" أنها تحرص على السريّة التامة بشأن هويتهم. عاد اسمها في مناسبات عديدة ليثير الجدل، لكن "ديلويت مونيتور" ليست حالة منفصلة، بل مجرّد نمودج عن شركات استشارية عديدة تقدّم نفسها باعتبارها الحلّ المثالي لتصحيح سياسات الأنظمة وإرشادها، وتقدّمها الأخيرة (الأنظمة) لشعوبها باعتبارها "الكفاءة الأجنبيّة" التي تستعين بها كرمى لعيونهم وعيون البلاد. بين الحين والآخر، تخرج تسريبات وتقارير عن تلك الشركات لتكشف عن مستويين من الخطورة في تلك "المشورة" التي تقدّمها للأنظمة. من جهة، هناك مشاركتها في قمع اتجاهات المعارضة سواء عبر تحسين صورة الأنظمة القمعيّة أو عبر مساعدتها في رصد المعارضين. ومن جهة أخرى، يظهر دورها في رسم سياسات اقتصاديّة واجتماعيّة لتلك الأنظمة تجعلها تسعى لكسب الأموال بأي طريقة بغض النظر عن النتائج، وبالتالي إغراقها بالديون. كان أفضل من وثّق هذا الجانب الخطير في عمل الشركات الاستشارية كتاب "اعترافات قاتل اقتصادي" الذي نشره المستشار الاقتصادي "التائب" جون بركنز قبل سنوات قليلة.
ماكنزي وأخواتها… وصفة "القمع النظيف"
بينما كانت الأخبار بشأن قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل القنصليّة السعودية في تركيا تتفاعل، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية تقريراً بدأت فيه بالإضاءة على مشكلة خاشقجي نفسه التي واجهها مع "الذباب الإلكتروني" والهجوم المنظّم عليه عبر "تويتر"، لتفضح كيف قامت السعودية (عبر كبار مستشاري ولي العهد الذي أُعفي من مهامه السبت الماضي سعود القحطاني) بتجنيد موظف في موقع تويتر لمساعدتها في التجسس على المستخدمين والنشطاء المنشقين عن النظام أو المعارضين له. من جهة أخرى، كشف التقرير مساهمة شركة "ماكنزي" (McKinsey) للاستشارات في هذا الاستهداف. وكما فعلت قبلها "مونيتور غروب" حين قالت إن هدفها كان "المساهمة في تحديث ليبيا"، قالت "ماكنزي" إن هدفها كان "شريف" لكن السعوديين أساؤوا استخدام التقرير. في المحصلة، شاركت ماكنزي - في تقرير من 9 صفحات قدمته للقيادة السعودية - في رصد أسماء من اعترضوا عبر تويتر على تقرير اقتصادي نشرته الأخيرة عام 2015. بين هؤلاء الكاتب خالد العلقمي الذي اعتُقل لاحقاً، وأحمد (مجهول الهوية) الذي أُغلق حسابه على تويتر، والطالب عبد العزيز المقيم في كندا والذي اعتقلت السلطات شقيقيه وقرصنت هاتفه.ماكنزي، أس سي أل، مونيتور دلويت، كويلر... شركات استشارية "تلمّع" صورة الأنظمة ولا تتحمّل تبعات قراراتها بحق شعوبها، فحسب العُرف: "الاستشارات غير ملزمة"
"ديلويت مونيتور" ليست حالة منفصلة، بل مجرّد نمودج عن شركات استشارية عديدة تقدّم نفسها باعتبارها الحلّ المثالي لتصحيح سياسات الأنظمة وإرشادها، وتقدّمها الأخيرة (الأنظمة) لشعوبها باعتبارها "الكفاءة الأجنبيّة" التي تستعين بها كرمى لعيونهم وعيون البلاد"ماكنزي" نفسها حضرت في تقارير عن البحرين العام الماضي وعام 2015. العام الماضي، نشرت مجلة "إيكونوميست" تقريراً سلطت فيه الضوء على القمع المستمر في البحرين حيث يوجد 2600 معتقل سياسي في السجن. في مقابل ذلك، بينما يسهم في تكريس هذا الظلم، حسب المجلة، وفي إبقاء النفوذ بيد فئة قليلة أتت Vision 2030، وهي برنامج اقتصادي وضعته للبحرين شركة "ماكنزي"، التي نصحت النظام بخفض الدعم عن مواد أساسية مثل اللحوم. وعام 2015، نشر "مرصد الشركات في أوروبا" تقريراً سلط فيه الضوء على الشركات التي ساعدت النظام البحريني في تلميع صورته، ومنها "Bell Pottinger"، "Meade Hall & Associates"، "Protection Group International، "G3"، "Big Tent"، "Dragon Associates. وكان من بين خدمات "بيل بوتنغر"، مثالاً، تأسيس مركز إعلامي في المنامة للاتصال بالصحافيين الأجانب وإرسال تقارير عن "التعامل الإنساني" للنظام مع المتظاهرين، إلى جانب كشف وتعقب الناشطين المعارضين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ودسّ معلومات ترويجية عن النظام في موقع "ويكيبيديا".
أموال طائلة لتشويه سمعة صحافيين
في العام الماضي، انتشرت تقارير عن دور شركة "كويلر للاستشارات" (Quiller Consultants) مع الإمارات والسعودية، بعد تنظيم مؤتمر في لندن بعنوان "قطر والأمن والاستقرار العالمي". وتحدثت التقارير عن أن سفارة الإمارات العربية المتحدة في لندن تستعين، منذ عام 2010، بخدمات شركة العلاقات العامة والاتصال السياسي "كويلر"، التي تضم في فريق عملها مستشارين سابقين لرؤساء الوزراء في بريطانيا، وقيادات حزبية، وصحافيين وإعلاميين وخبراء في الدبلوماسية والعلاقات الدولية... وكانت مهمة "كويلر" العلاقات مع الأوساط الإعلامية البريطانية ومع مجلس العموم البريطاني، عبر مجموعة أصدقاء الإمارات في البرلمان، ساهمت "كويلر" نفسها في تأسيسها. وكشف تحقيق أجرته صحيفة "ميل أون صنداي" البريطانية، أواخر عام 2015، أن حكومة أبو ظبي دفعت نحو 93 ألف دولار شهرياً، لمدة ست سنوات، مقابل تقديم معلومات للصحافيين الذين تجندهم "كويلر" لفبركة الأخبار والتقارير التي تشوّه سمعة الصحافيين الذين يتطرقون للإمارات والسعودية بشكل سلبي. قطر، في المقابل، لجأت لشركات الاستشارات نفسها، وتعاقدت على سبيل المثال العام الماضي مع شركة "Avenue Strategies Global" ودفعت 150 ألف دولار شهرياً، كما وقعت عقداً بـ11 مليون دولار (قابل للتجديد) مع شركة " Information Management Services"، وذلك لإيجاد طرق للدخول إلى الكونغرس الأمريكي ومفاصل الإدارة، فضلاً عن الترويج لصورتها كمستضيف لكأس العالم ونقد التقارير التي تشير إلى انتهاكات حقوق العمال فيها…… وأموال لمحو أفكار وزرع أخرى
عام 2013، تعاقدت الحكومة المصرية مع "Glover Park Group" مقابل 250 ألف دولار شهرياً بدل خدمات الشركة في تنظيم الحملات الدعائية الأجنبيّة ومحاربة مفهوم "الانقلاب العسكري" الذي ساد آنذاك. وخلال العام الماضي، جرى التعاقد مع شركتي "كاسيدي آند أسوشيتس"(Cassidy & Associates) مقابل 50 ألف دولار شهرياً، و"ويبر شاندويك" (Weber Shandwick) مقابل 100 ألف دولار شهرياً، لترويج مواقف النظام المصري في واشنطن، بالتركيز على الشراكة الاستراتيجية مع أمريكا، وعلى أهمية دور مصر في حل أزمات منطقة الشرق الأوسط، إضافة لإبراز التطورات الاقتصادية مع صندوق النقد الدولي..."في حال قدمت الشركات نصائح ذات طبيعة سيئة على الناس والمجتمع، تستطيع التنصّل من المسؤوليّة. فالاستشارة هي امتلاك نفوذ من دون مسؤولية وخلق تأثير من دون ضرورة اتخاذ قرار"ومن بين الشركات الاستشارية التي تُعدّ فاعلة في المجال شركة "أس سي أل" (SCL)، وهي الشركة الأم لـ"كامبريدج آناليتيكا" التي تورطت في فضيحة فيسبوك المدوية، وكانت "أس سي أل" قد نشرت مثلاً العام الماضي صورة للعقد مع مجلس الإعلام الإماراتي بـ330 ألف دولار مقابل "خدمات واسعة في الحملات الدعائية العالمية". إلى جانب هذه الشركات، تظهر "مجموعة بوسطن الاستشارية"(Boston Consulting Group) بدورها كشريك استشاري فاعل في الشرق الأوسط. ولأن تلك التسريبات والأخبار حول الشركات الاستشارية هي جزء بسيط من الدور الذي تلعبه الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط منذ سنوات طويلة، اقتضت الإشارة إلى أن ما ظهر يوحي بقليل مما خفي، وهو إن طال دولاً أكثر من غيرها لا يعني أن دولاً أخرى لم تُذكر بقيت بعيدة عن اللجوء لـ"مشورة" تلك الشركات.
للاستشارات وجه آخر… في مذكرات "قاتل اقتصادي"
عام 2014، صدر كتاب "الاغتيال الاقتصادي للأمم" لصاحبه جون بركنز. يقول الكاتب إنه دخل تحت غطاء شركة استشارات هندسية أمريكية ضخمة، كخبير اقتصادي، إلى العديد من الدول ومنها في الشرق الأوسط. ومن تجربته تلك، يلقي الضوء على ممارسات نخبة رجال الأعمال والسياسة لبناء إمبراطورية عالمية تسيطر فيها الشركات الكبرى على اقتصاد العالم. ما كشفه عن دور المستشارين الاقتصاديين هو سعيهم لتطويع اللغة لتغليف استراتيجياتهم عبر استخدام مفاهيم مثل "الحكم الرشيد وتحرير التجارة وحقوق المستهلك" بحيث لا تصبح السياسات الاقتصادية جيدة إلا من خلال مخططات الشركات الكبرى. أظهر الكتاب التدخل الاستشاري للدول في إطار شديد المؤامراتيّة، ولكن في الإطار الظاهر - لمن يرفض التسليم بوجود مؤامرة من هذا النوع - تظهر تقارير متكررة ابتعاد التقارير الاستشارية عن جوهر المشكلات الفعلية التي يعاني منها مجتمع ما، لصالح خطط تصبّ بشكل أو بآخر في خدمة "زبائن" تلك الشركات. في المقابل، تحفظ الأخيرة مسافة مع "زبائنها"، تسمح لها في حالة تسريب معلومات حول دورها بنفي مسؤوليتها أو تبريرها. ويقول هنا خبير الاقتصاد داف ماكدونالد "... في حال قدمت الشركات نصائح ذات طبيعة سيئة على الناس والمجتمع، تستطيع التنصّل من المسؤوليّة. فالاستشارة هي امتلاك نفوذ من دون مسؤولية وخلق تأثير من دون ضرورة اتخاذ قرار..." ويضيف "ربما لا تكون على نفس مستوى الأنظمة التي تتعامل معها في تحررها من سلطة البوصلة الأخلاقيّة، ولكن بالتأكيد فإن الشركات بعيدة عن واقع التنفيذ وعن الحقائق البشريّة".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين