بينما نحن في آواخر 2018، نجد أن الأجهزة الأمنيّة المصريّة، التي تتحكم بطبيعة الحال في الحقل الإعلاميّ، تستعين من جديد بالرجل القديم، توفيق عكاشة، الآراجوز الأكثر مناسبة للتعبير عن النظام، بعد أن فشلت الوجوه البديلة، لكنه عاد هذه المرة في هيئة مختلفة، فحمل معه على الهواء سبورة وأقلامًا وعصًا، ليشرح لمشاهديه "فوضى الشائعات وحروب الجيلين الرابع والخامس“، بدا كأنه يلقّن المشاهد، لا يُعلِمه!
لكن عودة عكاشة ربما هي الخطوة الأكثر اتساقًا مع اللحظة الراهنة في مصر، فبعد أن تم تجريف الساحة الإعلاميّة من أي أصواتٍ مهنيّة، ربما يكونُ عكاشة هو الممثل الأنسب للتعبير عن آراء ومنهج النظام، فهو لا يمتلك أي موهبة غير التسليّة والتي يمرر من خلالها رسائل النظام لتستقبلها عامة الناس.
ربما هي محاولة يائسة من الأجهزة الأمنيّة مرة أخرى لجذب المشاهد المصريّ، بعد مشاهدة المحتوى ذاته مكررًا على ألسنة مختلفة عبر شاشات مختلفة، لكنك عندما لا تقدّم جديدًا، تُحتم عليك البديهيات أن تتوقع النتيجة نفسها. الفادح أن القيادة السياسيّة، ومن خلفها الأجهزة الأمنية، تبدو وكأنها تنتظرُ نتائجَ مختلفة.
تفريغ الساحة السياسيّة من المعارضة
أصبح المشهد الإعلاميّ المصريّ أكثر ارتباكًا، حتى أن القائمين على القنوات باتوا يرون المهنة ملولةً ذات سقفٍ منخفض يُحني عنقك إذا قررت النهوض، بعد أن كانت عملًا إبداعيًا، بل بات المشهد السياسي نفسه خطرًا دفينًا، بعد أن فرغت الإدارة الأمنيّة للبلاد الساحة السياسية من أي معارضة تُذكر، ودأبت على طمس أي شخصيّة سياسية بديلة، ونكلت بكل الأيدلوجيّات السياسيّة التي تختلفُ معها، كذلك الحال في الاعلام، آخذٌ في الانهيار بعد أن استبعدت أجهزة المخابرات غالبية الكوادر المهنيّة، وتعيش تخبطًا غيرُ مسبوق في إدارة المشهد الإعلاميّ، لدرجة أن الذعر انتقل إلى العامة من الناس، فبينما كنتُ مارًا قبل أيام بجوار مبنى الخارجيّة المصريّة الذي يطل على النيل، أخرجت فتاة في صحبة أسرتها هاتفها لتلتقط صورة للنيل، فمنعها والدها الذي بدا مرتابًا من الأمن الذي يحيط المبنى!
ذلك لأنه أصبح أمرًا طبيعيًا، وللأسف، أن تقرأ في الأخبار أن السلطات ألقت القبض على فتياتٍ كنّ يصورن كورنيش الأسكندرية على سبيل المثال، يحدث هذا مع العامة من الناس، فما بالك بأبناء المهنة الذين لجأ معظمهم لأعمال تجاريّة أو قرر مغادرة البلاد لأسباب مهنيّة أوعوزٍ مادي.
أتحدث هنا من واقع تجربة شخصية، ففي شباط/ فبراير 2017 كنتُ أعمل مراسلاً لدى أكبر القنوات الإخباريّة في مصر قبل أن يتم إغلاقها ومسح أرشيفها من اليوتيوب وتشريد موظفيها، فوجئت وأنا في أثناء العمل، وقبل دقائق من المونتاج لتقرير كنتُ قد أنهيت للتو تصويره، بأمن القناة يمنعني ويطلب مني مغادرة المبنى. وعندما هاتفت رئيس القناة أبلغني أنه لا يعلم شيئًا عما يدور بشأني، ولما حاولت الاستفسار من رجال أمن القناة عن الشخص الذي أصدر أمرًا بشأني، أجابوني أنها تعليمات وليس لديهم تفاصيل، علمتُ لاحقًا أنه جرى استبعادي بعد أن تجرأت وعبرت عن جانب من آرائي الشخصيّة على صفحتي الشخصية بموقع التواصل، فيسبوك.
الرقابة الذاتيّة غير كافية لحمايتك
تجربتي ليست الأولى، وآسفٌ أن أقول إنه لا يبدو أنها الأخيرة، فالطوق الأمني للإعلام يزدادٌ ضيقاً بأي كادر يُغرد خارج رؤية النظام، يلجأ كثيرٌ من الشبابِ الصحفيّين المصرييّن الآن، لمجالات أخرى خوفًا من الملاحقات الأمنيّة، وبعد أن أصبحت الرقابة الذاتيّة وحدها غير كافيةٍ لحمايتك، إذ إنك لا تستطيع أن تحدد بوضوح ما يجب أن يُقال وما لا، فبوصلة الدولة نحو الإعلام مشوهة، إذ يسهل على المراقب للحالة الإعلاميّة في مصر، أن يُبصر مدى العبثيّة التي تدار بها الشاشات المصريّة، فبرغم التبديل الدائم للوجوه الإعلاميّة المعروفة بولائها المطلق للسلطة، فإن القنوات كلّها تسير وفق خريطة موحّدة في المحتوى تتلخص في برنامج صباحيّ، ونشرة تتناول أخبارًا دون تحليلها أو نقاشها من خلال آراء متباينة، وبرنامج لسيدات يتناولن أخبار الموضة أو الطبخ يذاع منتصف اليوم، ثم التوك شو في المساء، حيث تردد الأبواق ما تريد الدولة إيصالهُ للشعب.
بينما نحن في آواخر 2018، نجد أن الأجهزة الأمنيّة المصريّة، التي تتحكم بطبيعة الحال في الحقل الإعلاميّ، تستعين من جديد بالرجل القديم، توفيق عكاشة، الآراجوز الأكثر مناسبة للتعبير عن النظام
أصبح المشهد الإعلاميّ المصريّ أكثر ارتباكًا، حتى أن القائمين على القنوات باتوا يرون المهنة ملولةً ذات سقفٍ منخفض يُحني عنقك إذا قررت النهوض، بعد أن كانت عملًا إبداعيًا، بل بات المشهد السياسي نفسه خطرًا دفينًا
لم تعد هناك أي صحيفة في مصر أو موقع أو سيلة إعلاميّة خارج قبضة النظام، وبالتالي لم تعد هناك أي مساحات للإبداع سواء بالكتابة أو إنتاج محتوى إعلاميّ مهنيّ.
الانصياع أو السجن
أن تكونَ صحفيًا مصريًا يعني إما الانصياع الكامل لأجندة النظام، دون أن تقدّم مقترحاتٍ حتى، ولو في مصلحة النظام عليك التنفيذ والانصات للإملاءات فقط، وإما الحبس والتنكيل.
أذكر أني ذات مرة، كنتُ أناقش رئيسًا لي في العمل بإحدى القنوات المصريّة، بشأن تغطيّة لحدثٍ هامّ، فبعد أن طُلب كذا وكذا، قلتُ له ما رأيك بكذا وكذا، فصمتَ لحظة، ثم التفت في دهشة قائلاً: ”إنت هتقنعني ولا إيه، روح يا فندي إعمل اللي قلت لك عليه!“. أصبح شائعًا في الوسط الصحفيّ ما يُعرفُ بقهوة الصحفيّين، والحقيقة أنه ليس مقهى واحدًا، بل عدة مقاهٍ، باتت تضم عددًا كبيرًا من الصحفيّين ومعدي البرامج والمحررين وغيرهم بعد أن أُغلقت المؤسسات التي كانوا يعملون بها، أو تم إقالتهم بشكلٍ تعسفي، لأنهم لم يوافقوا هوى السلطات، يجلسون كل مساء يعزون أنفسهم فيما آلت إليه أحوالهم وحال الصحافة في مصر، محاولين إيجاد فرصة للنجاة، لإنقاذ ما تبقى من العمر لاستغلاله في إنتاج صحفيّ مهنيّ حرّ.
أسوأ العصور
لم تعد هناك أي صحيفة في مصر أو موقع أو سيلة إعلاميّة خارج قبضة النظام، وبالتالي لم تعد هناك أي مساحات للإبداع سواء بالكتابة أو إنتاج محتوى إعلاميّ مهنيّ.
تعيش الصحافة في مصر الآن ربما أسوأ عصورها على الإطلاق، فنحن أمام نظام حجب نحو 432 موقعًا صحافيًا، من بينها مواقع تابعة لمنظمات دولية، ويوجد نحو 30 صحفيًا خلف القضبان، ولا يزال التضييق مستمرًا، والمحزن والعجيب أيضًا بعد هذا كلّه أن الرئيس نفسه لا يزال غير راضٍ عن الإعلام ودائم الشكوى منه!
أرجو عزيزي القارئ أن تدعو لي، ألّا يجري توقيفي بعد نشر هذه المقالة بتهمة نشر أخبار كاذبة وتضليل الرأي العامّ!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...