شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
صراع العثمانيين والصفويين... كيف استُخدم الشحن المذهبي في خدمة السياسة؟

صراع العثمانيين والصفويين... كيف استُخدم الشحن المذهبي في خدمة السياسة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مع مطلع القرن السادس عشر، بدأ الصراع الصفوي-العثماني، واستمر حوالي مئتي عام، واستثمر كل طرف فيه ما أتيح له من عوامل سياسية ومذهبية، ما جعل أصداءه تتردد حتى الآن.

نشأة الصراع وتطوّره

تشابهت البدايات الأولى لكل من الدولتين العثمانية والصفوية إلى حد بعيد، فقد ظهرت كلتاهما في بادئ الأمر كقوتين محدودتي التأثير، وسط حالة من حالات الفوضى والارتباك في أقاليم الأناضول وآسيا الصغرى والهضبة الإيرانية.

بالنسبة إلى الدولة العثمانية، تنسب الرواية الرسمية للتاريخ العثماني تأسيسها إلى أرطغل بن سليمان شاه المتوفي عام 1288. وبحسب هذه الرواية، كان أرطغرل قائداً لإحدى القبائل التركمانية النازحة من وسط آسيا، واستطاع أن يجد لقبيلته موضع قدم في آسيا الصغرى. أما ابنه عثمان، فقد تمكّن من تحويل حكمه إلى دولة مستقرة، وراح يوسّع حدودها شيئاً فشيئاً. وفي عهد خلفاء عثمان، توسعت الدولة العثمانية أكثر، غير أنها سرعان ما انتكست انتكاسة كبرى مع مطلع القرن الخامس عشر، عندما هُزم السلطان العثماني بايزيد الأول أمام العاهل المغولي تيمورلنك، في معركة أنقرة، لتتشتت بذلك جموع العثمانيين وتتمزق أملاكهم الواسعة.

حالة الارتباك تلك سرعان ما انتهت على يد خلفاء بايزيد، لتعود قوة العثمانيين مرة أخرى، وهو الأمر الذي مهد لضربتهم المُحكمة، عندما استطاعوا أن ينتزعوا مدينة القسطنطينية الحصينة، معقل الإمبراطورية البيزنطية، عام 1453، ليدشّن السلطان محمد الفاتح بذلك مرحلة جديدة ومهمة من تاريخ الأتراك، إذ استطاع خلفاؤه من بعده أن يوطّدوا نفوذهم في مساحات شاسعة من آسيا وأوروبا وإفريقيا.

أما بالنسبة إلى تاريخ الدولة الصفوية المبكر، فنرى أن الصفويين لم يظهروا على مسرح الأحداث السياسية في الهضبة الإيرانية، إلا مع مطلع القرن السادس عشر. ويذكر المؤرخ عباس إقبال أشتياني، في كتابه "تاريخ إيران بعد الإسلام"، أن الصفويين أخذوا اسمهم من الشيخ صفي الدين إسحق الأردبيلي المتوفي عام 1334، وهو شيخ صوفي تركماني الأصل، كان يتبعه عدد كبير من المريدين.

بعد وفاة صفي الدين، دُفن في أردبيل، وخلفه ابنه صدر الدين موسى في قيادة الطريقة، وفي عهد حفيده المعروف بالسلطان جنيد، تحوّلت الطريقة الصفوية إلى ثورة ذات أبعاد عسكرية، واستفاد الصفويون من حالة الفوضى التي سادت في منطقتي الهضبة الإيرانية والأناضول بعد انسحاب جيوش تيمورلنك، واقتسام الأقاليم بين ورثة القائد المغولي.

ومع مطلع القرن السادس عشر، استطاع إسماعيل، حفيد السلطان جنيد، أن ينتصر على مملكة آق قيونلو، وهي مملكة تركمانية حكمت مناطق ممتدة بين إيران وآسيا الوسطى وأذربيجان منذ وفاة تيمورلنك عام 1405، وأن يؤسس دولة جديدة، جعل من تبريز عاصمة لها، بحسب ما يذكر جعفر المهاجر في كتابه "الهجرة العاملية إلى إيران في العصر الصفوي".

أطلق إسماعيل على نفسه لقب الشاه، وهي كلمة فارسية تعني الملك، ومدّ رقعة ملكه ونفوذه، وحذا خلفاؤه حذوه، حتى وصلت الدولة الصفوية إلى أقصى اتساع لها، عندما امتدت من جبال تورا بورا في أفغانستان، إلى شرق الأناضول، مروراً بأذربيجان وأرمينيا والهضبة الإيرانية.

بين الدبلوماسية والحرب... أبرز محطات الصراع

كان الصراع الصفوي-العثماني من أطول وأهم الصدامات التي وقعت في منطقة آسيا الصغرى والعراق على مدار القرنين السادس عشر والسابع عشر، كما أن التأثيرات التي نجمت عنه لا تزال تلقي بظلالها على جغرافية وديموغرافية المنطقة حتى اللحظة الحالية. ومن الممكن أن نحدد أربع محطات مفصلية في تاريخ الصراع بين الدولتين، امتازت كل مرحلة منها بمجموعة من السمات والمعالم التي بدّلت شكل وتفاصيل ومآلات الصراع.

المرحلة الأولى بدأت مع ظهور الصفويين على الساحة السياسية باعتبارهم دولة مستقلة، حين عمل الشاه إسماعيل الأول على ضم بعض المناطق المتاخمة لشرق الإمبراطورية العثمانية. وبدلاً من اللجوء إلى الرد العسكري، آثر السلطان العثماني العجوز بايزيد الثاني أن يجنح نحو الحلول الدبلوماسية، فأرسل بعض الرسائل الهادئة إلى إسماعيل، حسبما يذكر كمال السيد في كتابه "نشوء وسقوط الدولة الصفوية".

كان الصراع الصفوي-العثماني صراعاً متكاملاً وتضافرت في صنعه عوامل الجغرافيا والسياسة والاقتصاد، ولكن مع ذلك فإن وجهه المذهبي كان الوجه الأكثر بروزاً وشهرة

وفي العام 1512، اعتلى الأمير سليم بن بايزيد الثاني العرش بعد أن أزاح أبيه بمساعدة قوات الإنكشارية، وبذلك تم التدشين للمرحلة الثانية من مراحل المواجهة بين العثمانيين والصفويين، لأن السلطان سليم الأول كان يؤمن بضرورة الاحتكام إلى السيف وبحتمية توجيه رد عنيف لجيرانه الصفويين. ويذكر عباس إقبال، في كتابه سابق الذكر، أن السلطان سليم استطاع، عام 1514، جمع جيش ضخم، وصل قوامه إلى 120 ألف مقاتل، كانوا مزودين بالمدفعية الحديثة، واخترق الأناضول ليصل إلى صحراء جالديران، حيث قابل غريمه الصفوي العنيد الذي لم ينجح وقتها إلا في حشد 60 ألف مقاتل. انتصر العثمانيون، وتمكنوا من دخول تبريز، عاصمة الصفويين، بينما انسحب الشاه المصاب إلى أذربيجان.

ويذكر الدكتور محمد سهيل طقوش، في كتابه "تاريخ الدولة الصفوية في إيران"، أنه ترتبت على انتصار جالديران نتائج مهمة، فقد سيطر العثمانيون على العراق وبعض المدن الواقعة غربي إيران، وفُتح الباب أمام سليم لقتال المماليك والانتصار عليهم، ليصبح بذلك الزعيم السياسي الأول في العالم السنّي. وعلى الرغم من مساعي الشاه إسماعيل الأول العديدة لعقد تحالف مع كل من البرتغال والبندقية وإسبانيا، ضد العثمانيين، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل، وتوفي في النهاية دون أن ينتقم لهزيمته.

المرحلة الثالثة من الصراع لاحت بشائرها مع وصول كل من السلطان العثماني سليمان القانوني والشاه الصفوي طهماسب، إلى كرسيي السلطة في دولتيهما. كان الصفويون قد استطاعوا بعد أن لعقوا جراح هزيمتهم المؤلمة في جالديران، أن يستعيدوا كامل سيطرتهم على إيران والعراق، مستغلين حالة الانشغال العثماني بالحرب على جبهة البلقان، غير أن الاتفاق الذي وُقّع بين العثمانيين وأسرة الهابسبورغ، حكام النمسا، عام 1533، هيّأ الظروف للقانوني لاستكمال الفتوحات على الجبهة الإيرانية. وقاد السلطان سليمان ثلاث حملات كبرى ضد الصفويين، في أعوام 1534، 1548، و1555.

ورغم الانتصارات التي حققها العثمانيون في الحملات الثلاث، إلا أنه لم ينتج عنها تثبيت للوجود العثماني في الأراضي الصفوية، لأن طهماسب كان في كل مرة يتبع أسلوب التراجع الحذر وانتظار رجوع العثمانيين إلى بلادهم، ومن ثم يعود الصفويون مرة أخرى إلى أراضيهم، ويقضون على الحاميات العثمانية المتواجدة فيها، حسبما يذكر عباس إقبال.

وبعد فشل الصدام العسكري في تحقيق أية نتائج حقيقية، اتخذ الصراع بين العاهلين شكلاً جديداً، فقد حاول كل منهما أن يستغل الخلافات الأسرية القائمة عند عدوه. بالنسبة إلى سليمان، ساعد عام 1546 القاص ميرزا في ثورته ضد أخيه طهماسب، ورداً عليه، دعم الشاه الصفوي عام 1558 الأمير بايزيد في خلافه مع أبيه سليمان القانوني. ولكن تلك المحاولات لم تتمكن من تغيير موازين القوى في المعادلة السياسية الصعبة، ووجد الطرفان نفسيهما بحاجة إلى عقد هدنة، وهو ما حصل في أماسيا عام 1555. شمل الاتفاق بعض البنود المتعلقة بالشؤون التجارية، كما نص على تأمين طريق الحج للإيرانيين، حسبما يذكر طقوش.

المرحلة الرابعة من الصراع وقعت بعد رحيل طهماسب والقانوني، حينما اعتلى العرش في الدولتين مجموعة من الحكام الضعاف. سادت حالة من الارتباك في البيتين الصفوي والعثماني، ووسط تلك الأوضاع المضطربة تمكن الشاه عباس الأول من تحقيق الانتصار على العثمانيين في عدد من المعارك، ووقّع معهم معاهدة زهاب التي ألقت كلمة الختام على الصراع بين الدولتين. رسّمت تلك المعاهدة الحدود بين إيران والعراق وتركيا، وأصبحت مرجعاً مهماً للفصل في تحديد مناطق سيادة القوتين الصفوية والعثمانية.

استخدام الدين والمذهب في الصراع

في كتابه "الفقيه والسلطان"، يؤكد المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني أن الصراع الصفوي-العثماني كان صراعاً متكاملاً وتضافرت في صنعه عوامل الجغرافيا والسياسة والاقتصاد، ولكن مع ذلك فإن وجهه المذهبي كان الوجه الأكثر بروزاً وشهرة.
السبب في ذلك أن الصفويين لمّا كانوا يعملون على إقامة إمبراطورية عظيمة تستطيع أن تنهض أمام العدو العثماني، حاولوا خلق هوية مذهبية خاصة بهم تتيح لهم شرعنة حكمهم والتوسع في الأراضي المتاخمة لأراضيهم، ومن هنا أعلنوا تحويل إيران إلى المذهب الشيعي الاثناعشري، وأجبروا الكثيرين من الفرس على ترك المذهب السنّي، حسبما يذكر جودت القزويني في كتابه "المرجعية الدينية العليا عند الشيعة الإمامية".

يمكن القول إن الصراع الصفوي-العثماني كان من أطول وأهم الصدامات التي وقعت في منطقة آسيا الصغرى والعراق على مدار القرنين الـ16 والـ17، كما أن التأثيرات التي نجمت عنه لا تزال تلقي بظلالها على جغرافية وديموغرافية المنطقة حتى اللحظة الحالية

من جهتها، سارعت الدولة العثمانية هي الأخرى إلى الزج بالعوامل المذهبية في أتون الصراع مع الصفويين، فقد نظر العثمانيون إلى أنفسهم كمدافعين عن الإسلام السنّي، ولذلك نجد أن السلطان سليم الأول، وبمجرد توليه للسلطة، ذبح ما يزيد عن أربعين ألفاً من رعاياه الشيعة المقيمين في منطقة الأناضول، بحسب ما يذكر حسن روملو في كتابه "أحسن التواريخ".

ولم يقتصر هذا التناحر المذهبي على الفترة المبكرة من الصراع بين الصفويين والعثمانيين، بل استمر كعلامة مميزة له على طول الخط، والسبب في ذلك، بحسب علي أكبر ذاكري، في كتابه "المشهد الثقافي الشيعي في العصر الصفوي"، أن الدولتين عملتا على إبقاء هذا الاختلاف المذهبي على أشدّه، لتتمكنا من "تحريك عامة الناس ضد الطرف الآخر ودحره".

فتاوي دموية

من هنا نستطيع أن نفهم الأجواء المشحونة التي خرجت فيها العديد من الفتاوي الدموية الداعية للقضاء المبرم على الطرف الآخر. ففي العام 1541، كتب أحد رجال الدين العثمانيين، ويدعى حسين بن عبد الله الشرواني، رسالة بعنوان "الأحكام الدينية في تكفير القزلباش"، أفتى فيها بجواز قتل الشيعة وتكفيرهم. ومما ورد فيها: "مَن قتل واحداً من هذه الطائفة الملعونة، فكأنما قتل وغزا سبعين نفراً من أهل الحرب بل أكثر". أما في زمن السلطان مراد الثالث، فقد أفتى الشيح نوح الحنفي بوجوب "قتل هؤلاء الأشرار الكفار (يقصد الشيعة) تابوا أو لم يتوبوا".

تلك الفتاوي ساهمت في تضييق الخناق على الشيعة الموجودين في الدولة الصفوية، وأيضاً في استهداف الشيعة المقيمين داخل حدود الدولة العثمانية، فقُتل العديد من علمائهم، من أمثال نور الله التستري، وزين الدين بن علي الجبعي العاملي، المُلقّب بالشهيد الثاني، بالإضافة إلى إرهاب جماعات الشيعة المقيمة في لبنان والقطيف والأناضول.

في المقابل، رد الصفويون باستهداف رموز السنّة وعلمائها، فقتلوا سيف الدين التفتازاني، شيخ الإسلام في مدينة هراة، وبدأوا في تعظيم قبر أبي لؤلؤة المجوسي، قاتِل عمر بن الخطاب، وأهانوا ضريح هارون الرشيد في طوس (مشهد). وفي العام 1503، وعقب دخولهم بغداد، قام الصفويون بنبش قبور كل من عبد القادر الجيلاني وأبو حنيفة النعمان، بينما شرعوا في بناء ضريح ضخم للإمام موسى الكاظم، بحسب ما يذكره عباس إقبال.

وفي السياق نفسه، استقدم الشاه طهماسب عشرات العلماء من جبل عامل والقطيف والبحرين، وأشرك بعضهم في شؤون السلطة والحكم، وأصبح الهدف الرئيسي لهم مقارعة الفتاوي العثمانية وتفنيدها. فعلى سبيل المثال، يذكر عبد الله أفندي، في كتابه "رياض العلماء"، أن العديد من علماء الشيعة ردوا على فتاوي الشرواني ونوح الحنفي، حتى أن الشيخ علي الكمرهاي رد على الفتوى الأولى في مجلدين كاملين.

وفي العصر الصفوي أيضاً، ظهرت المدونات الحديثية الشيعية الكبرى، التي وردت فيها فتاوي تكفير السنّة، ومنها موسوعة بحار الأنوار لمحمد باقر المجلسي، ونستطيع أن نعثر فيها على العديد من المواضع التي أفتى فيها مؤلفها بما يزيد من حدة التناحر المذهبي، ومن ذلك قوله بتكفير أبي بكر وعمر وبأن "كل مَن يحبهم كافر، وكل مَن يشك في كفرهم فلعنة الله ورسوله عليه وعلى كل مَن يعتبرهم مسلمين، وعلى كل مَن لا يكفّ عن لعنهم".

كل ذلك الشحن المذهبي تسبب في نهاية المطاف في أن أصبحت المجاهرة بلعن وسب رموز المذهب السنّي في إيران أمراً مباحاً شائعاً، بل إن مَن تردد في القيام به كان يعرّض نفسه للعقوبة والقتل، حسبما يذكر علي شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image