لأنه صمم العالم مادياً وثقافياً لخدمته، وضع المعايير الجسدية "المثالية" مطابقة لشكله
الاثنين 15 أكتوبر 201802:59 م
لا يمكنك أن تركب هذه العربة لأن طولك لا يتجاوز المتر ونصف! لا يمكنك دخول هذا الموقع لأن عمرك لا يتجاوز الثمانية عشر عاماً! لا يجوز...!
تنتشر عبارات التحذير من حولنا، وتخفي وراءها دوماً معياراً جسدياً أو سياسياً أو ثقافياً، يشكل الحد بين المتاح والممنوع؛ بين "الصحيح" و"الخاطئ"؛ بين الحي والميت؛ بين "الطبيعي" والمنفي؛ البشري والحيواني.
هذه الحدود، تتقاطع وتتداخل مع بعضها البعض لتشكل نظاماً قياسياً، أو مجموعة المعايير التي تولد "الموضوعة" بالحدود الدنيا، والتي تتحول إلى كيان مجازيّ مركزيّ، يحرك السياسات على أنواعها ويضبط التعريفات، التي تتيح تجلي الموضوعة مادياً وثقافياً أمامنا.
لسوء الحظ، هذه المعايير التي تحكم عالمنا، وضعها ذكور، أي أن المقاييس نابعة من رغبات "ذكور بيض"، بوصفها ضامناً لسطوتهم؛ وتنفي المخالف أو تعيد إنتاجه بما يحافظ على النظام القائم.
لماذا ذكر أبيض؟ دون شرح أو إطالة، الجواب لأنه مُستعمر أولاً، ولأنه مؤسس "المنطق والتنوير"، لأن ليوناردو ديفنشي جعل الإنسان "الفيتروفي" ذكراً، والمقاييس المثاليّة الجسديّة مطابقة له، ولأن نشوة المرأة كانت هيستيريا ومرض عقلي، ولأن مقبض الباب وارتفاعه مصمم لخدمة الذكر الذي يستخدم اليد اليمنى، والمباول العمومية الجديدة في باريس مخصصة للذكور الذين يطرحون سوائلهم واقفين.
لماذا ذكر أبيض؟ لأنه صمم العالم مادياً وثقافياً لخدمته، ووضع المعايير المطابقة لشكله، ذكر، أبيض، نظيف، مُنتصب، مُبصر، عقلانيّ، رسمه مايكل أنجلو على سقف الكنيسة السستينيّة.
نماذج لأجساد غير قياسيّة، من اليسار: امرأة بذراع الكترونيّة، أرنولد شواتزنيغر، راقصتان سياميتان، سايبورغ
أثاث غير قياسي: كرسي لرجل، كرسي لأرنولد، كرسي لتوأم سيامي.
كرسي لرجل بلا قدمين، كرسي لسايبورغ، كرسي لشخصية كرتونيّة.
من اليسار: باب لأليس كي تدخل بلاد العجائب، باب لأرنولد.
مخطط للمصباح السحريّ حيث يسكن الجنيّ.
ترتبط مفاهيم الصحة القياسيّة بالمؤسسة الطبيّة وتصنيفات الجنون والأمراض العقليّة، التي كانت تُحرق إثرها النساء كساحرات، أو يتهمن بالجنون بسبب رغبتهن الجنسيّة، أو يقتل إثرها الأطفال ذوي العيوب الخلقيّة
تمتد هذه الصورة "الصحيّة "نحو قطاعات العمل والسياسية، فالصحي حسب المعيار القياسيّ، هو القادر على العمل والإنتاج، ومعايير الصحة هنا لا تهدف إلى ضمان حياة الفرد عبر أنظمة الأدويّة والعلاج، بل تضمن استمرار قدرته على الإنتاج، وصحيح أن قوانين العمل تنتصر نظرياً للعامل، عبر تحديد ساعات العمل والأجر وسن التقاعد.
لكن، هناك ما يدعوه الإيطالي باولو فيرنو بـ"الأبعاد-multitudes "، وهي الاحتمالات التي يحويها الجسد بوصفه مساحة للاستثمار، فكلما كان هذا الجسد "صحياً" كان منتجاً، وهنا يبرز التمييز في قوانين العمل وعلاقتها مع عطلة الأمومة مثلاً، بل وأحياناً تهديد المرأة في وظيفتها في حال فكرت بالحمل، حتى قبل أن تبدأ العمل، وكأن "الطفل" يتحول إلى فايروس يستنزف قدرة التشغيل، ويعطل ماكينة الإنتاج.
رجل أبيض نظيف
معاير النظافة وعلاقتها مع الذكورة تتجلى في العمارة، بوصف الأخيرة نشاط إنسانيّ يخلق الحدود بين الداخل والخارج، وتضبط الفضاءات التي نتحرك ضمنها، وتخصص بعضها للسوائل في سبيل نفيها ضمن مستودعات وأوعية. ينتصر الفضاء العام أو المساحات العلنيّة، للذكر، ويحفظ سوائله/ نظافته، بل ويضبط حتى الاحتمالات المستقبليّة لإفراز هذه السوائل، الكلام النظري السابق، تشرحه وزوانا كوفر، التي ترى أن الفضاءات العامة والخاصة مصممة لضبط السوائل الجسديّة، ونفيّ "الوسخ" مادياً وثقافياً. والمثال الأوضح على انصياع الفضاء العام لفتحات الذكر، هو ماكينات البيع الآلي للواقيات الذكريّة، التي تضمن للذكر في أي لحظة أن يجد وعاء لسوائله، في حين لا توجد ماكينات بيع آلي للفوط النسائيّة إلا ما ندر، وبالرغم من اختلاف المثالين، لكن كلاهما يشتركان بأن الفضاء العام يغطي احتمالات سوائل الذكر، في حين أن الأنثى، في حال فوجئت بسائل الحيض، الحتمي إنتاجه، عليها أن تكون مستعدة مسبقاً، فاحتمالات الخطأ وانفلات السوائل مصادفة، هي مسؤولية الأنثى، لا الفضاء العام.لأن الرجل الأبيض مُستعمر أولاً، ولأنه مؤسس "المنطق والتنوير"، لأن ليوناردو ديفنشي جعل الإنسان "الفيتروفي" ذكراً، والمقاييس المثاليّة الجسديّة مطابقة له، لأن نشوة المرأة كانت هيستيريا ومرض عقلي، ولأن مقبض الباب وارتفاعه مصمم لخدمة الذكر الذي يستخدم اليد اليمنى: لعنة المعايير القياسية التي تحكمنا
عن الهيمنة الخفيّة التي توظفها أنظمة المعايير لتنتصر للذكر وكنبته المريحة، ولتحارب ذوي الوزن الزائد والمقعدين والمختلف جسدياً كالمفرط في الطول أو القصر، أو ببساطة من يستخدم يده اليسرى
رجل أبيض مرتاح على الكنبة
لا يكتفي الفضاء المعماري بنفي السوائل، فالمواصفات القياسيّة الذكوريّة حاضرة في المعايير ذاتها، تلك التي تضبط المساحات التي يشغلها الفرد بوصفها صالحة لـلـ"حياة" و"الإنتاج"، والتي تتجلى في البيانات المعماريّة، الكتاب الذي وضعه المعماري الألماني إيرنس نوفرت، وصدرت الطبعة الأولى منه عام 1936 ومازالت طبعاته تصدر حتى الآن، بوصفه واحد من أهم المراجع التي تضبط مقاييس التصميم الداخلي، والحدود الدنيا لقياسات الموجودات كي تكون فعّالة، من طول الباب إلى مساحة الاستحمام وقياسات الكنبة والكأس والكرسي والسرير. نوفرت وما يشبهه من كتب وتطبيقاتها تضع المعايير الحديثة "العلميّة" للجسد، والفضاءات التي يتحرك ضمنها، وخصوصاً في ظل الإنتاج الهائل للأثاث والديكورات، ليتحول الفضاء الداخلي إلى موضوعة سياسيّة، أساسها التشريح السياسيّ للجسد ومقاييسه من وجهة نظر شديدة الوظيفيّة. الكثير من الجهود سعت إلى تفكيك هذه البنية المعقدة والمهيمنة والفعالة، لكن أكثر الانتقادات إثارة للاهتمام هي ما قام به توماس كاربنتير عام 2011، الذي اخترع معايير لموضوعات وهميّة، كتصميماته لمصباح علاء الدين، أو كرسي لنرسيس أو دراكولا، ليكشف الهيمنة الخفيّة التي توظفها أنظمة المعايير هذه لتنتصر للذكر وكنبته المريحة، ولتحارب ذوي الوزن الزائد والمقعدين والمختلف جسدياً كالمفرط في الطول أو القصر، أو ببساطة من يستخدم يده اليسرى.



