إسم يلفه الغموض وتحيطه هالة من القدرات التي تغير الأحداث وتشكل التاريخ. ربما تكون السي آي إيه CIA أحد أكثر الأسماء التي ترد على لسان المحللين العرب في تفسير كثير من الأحداث، إذ تتحمل هذه الوكالة الفيدرالية الأميركية الكثير من اللوم في أغلب ما وقع ويقع من تغيرات سياسية وحروب وانقلابات.
في أذهان العرب أن هذه الوكالة قادرة على الوصول لما تريد بدون عناء، فهي العملاق الخفي الذي يمتلك أحدث أدوات العمل الجاسوسي في العالم والذي يستطيع أن يطيح بالحكام ويحرك الشعوب ويعيد رسم خارطة المنطقة، كرست هذه الصورة مشاعر الخوف والكراهية في آن واحد من الولايات المتحدة وسياساتها.
مسؤولياتها
نشأت هذه الوكالة عام 1947 لتحل محل مكتب الخدمات الاستراتيجية ولتكون أعين الولايات المتحدة وآذانها المرهفة على كل ما يمكن أن يهدد أمنها، ولتمنع وقوع بيرل هاربر Pearl Harbor جديدة، وتصبح الذراع الضارب في الحرب الباردة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت أولويات الوكالة في ذلك الوقت تتلخص في مقاومة المد الشيوعي، والحد من نفوذه الذي بدأ ينتشر حول العالم. ثم تغيرت الاستراتيجية بعد الحرب الباردة لتتحول إلى مكافحة الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
بحسب قانون الأمن الوطني المنظم لعمل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، فإن المهام الرئيسة لهذه الوكالة تتلخص في جمع المعلومات من خلال المصادر البشرية وغيرها من الوسائل المناسبة (غير أنه لا يُسمح أن يكون لها أي شرطة، أو الحق في استدعاء الآخرين، أو سلطات تنفيذ القانون أو وظائف الأمن الداخلي)، كما في تقييم وتحليل المعلومات الاستخباراتية التي تتصل بالأمن القومي، وتقديم التوجيه العام وتنسيق جمع المعلومات الاستخبارية خارج الولايات المتحدة بالتنسيق مع أجهزة استخبارية أخرى.
هكذا، فإن مهمة الوكالة بالدرجة الأولى هي جمع المعلومات وتحليلها، والتحذير من أية أخطار محتملة باستخدام الوسائل البشرية والإلكترونية ووضعها أمام أعين صناع القرار في الولايات المتحدة، إضافة إلى صد أية هجمات أو محاولات تجسس من أجهزة خارجية. ليس من ضمن مهامها، إذاً، أن تتدخل في رسم سياسات أو اتخاذ قرارات.
هيكليتها
يتضمن الهيكل التنظيمي للوكالة أربعة أقسام أولهما دائرة الاستخبارات، أي القسم المكلف بجمع وتحليل المعلومات الاستخبارية من مختلف أنحاء العالم وعرضها على الرئيس وصناع القرار في موجز يومي، إضافة لتوفير تحليل دقيق لمضمون هذه التطورات ومدى تأثيرها على الأمن القومي الأميركي. يتم انتقاء المحللين من خريجي الجامعات من مختلف التخصصات الذين يبدون مهارة في فهم الثقافات الأخرى. وفيما تشجع الوكالة انضمام المحللين من الأقليات والثقافات الأخرى، إلا أن التدقيق الأمني غالباً ما يكون عقبة في تعيين البعض وخصوصاً من العرب الأميركيين.
فقد أشار تقرير لصحيفة الواشنطن بوست أن ما يقرب من 20% من المتقدمين للعمل في صفوف الوكالة كانت لهم روابط بشكل أو بآخر مع جماعات إسلامية متشددة مثل القاعدة.
ولهذا فإن عدد موظفي الوكالة، وهو رقم سري يقدر بما يقارب 25 ألف موظف، لا يضم إلا 22% من غير البيض، و13% ممن يجيدون لغة أخرى غير الإنجليزية حسب تصريح ليون بانيتا Leon Panetta، المدير السابق للسي آي إيه (2009-2011). وربما نجد دليلاً على هذا الضعف في عنوان عربي ركيك على أحد الصفحات الرسمية لموقع السي آي إيه قد يظنه البعض مكتوباً بالفارسية وليس بالعربية.
ثم تأتي الخدمة الوطنية السرية، التي تقوم بجمع المعلومات عن طريق الاستخبارات البشرية وتقيّم العمل السري للوكالة في مختلف أنحاء العالم.
وكذلك دائرة العلوم والتكنولوجيا، التي تعالج مشاكل الاستخبارات باستخدام أحدث وسائل التكنولوجيا المتوفرة في جمع ومعالجة وتحليل المعلومات بواسطة فريق من العلماء والمحللين ومهندسي ومبرمجي الكومبيوتر.
وأخيراً دائرة الدعم المسؤولة عن توفير كل ما تحتاجه الأقسام الأخرى من خدمات مالية وطبية ونقل وتنسيق ومتابعة لضمان تنفيذ كل المهمات السرية وفق مبدأ "الأول في الدخول والأخير في الخروج".
ميزانيتها
بلغت حصة الوكالة مما يسمى بالميزانية السوداء، وهي مجمل ما تخصصه الحكومة الأميركية للخمس عشرة وكالة أمنية واستخبارية أمريكية والبالغة 52.6 مليار دولار سنوياً، ما مقداره 14.7 مليار دولار وهي بهذا أعلى وكالة أمنية ضمن مجتمع الاستخبارات الأمريكي تمويلاً، وفق ما نشرته صحيفة الواشنطن بوست Washington Post استناداً إلى تسريبات سنودون Snowden، العميل السابق في وكالة الأمن الوطني الأميركية NSA، والهارب حالياً من ملاحقة الحكومة الأميركية بتهمة إفشاء أسرار تتعلق بالأمن القومي.
نجاحاتها وإخفاقاتها في الشرق الأوسط
رغم هذا السخاء الحكومي، الذي يعكس ما تعلقه الإدارة الأميركية من أهمية على جمع المعلومات الخارجية وتحليلها والقيام بعمليات سرية من أجل منع أية عمليات إرهابية ضد الولايات المتحدة، إما عن طريق اختراق المنظمات المعادية للولايات المتحدة أو عن طريق إحداث تغييرات أو دعم حلفاء أو وضعهم في مراكز صنع القرار، فإن تاريخ الوكالة لم يكن كله نجاحات تضاف إلى الهالة التي تحيط بها كمحرك لأحداث العالم، وخصوصاً في عالمنا العربي والشرق أوسطي.
يوثق كتاب "تاريخ من الرماد" للصحفي تيم واينر Tim Weiner من النيويورك تايمز تاريخاً لا يخلو من فشل ذريع في كثير من الأحيان: من نجاح في إعادة الشاه إلى عرش إيران وإسقاط مصدق عام 1953، إلى فشل مدوٍّ في عملية خليج الخنازير بكوبا عام 1961، ومن اختراقات فعالة في أجهزة إعلام عربية ضمن الصراع بين الغرب والشرق في الشرق الأوسط في الخمسينات، إلى كشف لأحد أهم عملائها وهو الصحفي المصري الشهير مصطفى أمين بسبب قلة حذر مندوب السي آي إيه.
تورطت الوكالة كذلك في عدة عمليات سيئة الصيت جلبت لها سمعة المتآمر ضد الشعوب، مثل تورطها في انقلاب أوغستو بينوشيه Augusto Pinochet عام 1973 ضد الرئيس التشيلي المنتخب آنذاك سلفادور أليندي Salvador Allende، إضافة لعملية إيران كونترا وغيرها من الانقلابات في أمريكا اللاتينية، التي دفعت الكونغرس إلى عقد سلسلة جلسات استماع لفحص نشاطات الوكالة باعتبارها مسؤولة أمام السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وكان أحد أهم أسباب صدور قانون إعادة تنظيم عمل أجهزة الأمن القومي الأميركية في 2004 هو الفشل الاستخباراتي في جمع معلومات دقيقة عن العراق وتقديم معلومات غير موثقة استجابة لرغبة سياسية عبر عنها المدير السابق للوكالة آنذاك، جورج تينيت George Tenet مما أدى لحرب فاشلة دفعت الولايات المتحدة في سبيلها ثمناً سياسياً ومالياً باهظاً. لقد عدّل هذا القانون من وضع وكالات التجسس والأمن الأميركية ووضعها جميعها تحت قيادة مدير الاستخبارات الوطنية في محاولة لتفادي المعوقات الإدارية في تدفق المعلومات والمشاركة الأفقية بين مختلف الوكالات الأميركية، مثل الإف بي آي FBI المختصة بالأمن الداخلي، ووكالة الأمن الوطني NSA المختصة بالتجسس الإلكتروني.
جاءت ثورات الربيع العربي لتكون امتحاناً جديداً فشلت فيه السي آي إيه، فرغم كل الموارد المعلوماتية والتحليلية لديها، لم تنجح في قراءة الواقع واحتمالات الثورات التي ستحدث في العالم العربي، وهو الأمر الذي أحرج صناع القرار في واشنطن وجعل ردود أفعالهم تبدو مرتبكة ومتناقضة في بعض الأحيان. تنشط الوكالة حالياً في العالم العربي في محاولة لتعويض خسائرها بعد فقدانها مصادر هامة في الأنظمة العربية المتداعية التي كانت سنداً لها في إمدادها بالمعلومات، بل وحتى في إجراء التحقيقات مع المشتبه بهم في ما عرف سابقا بقضية السجون السرية. كما تلعب الوكالة الآن دوراً هاما في جمع المعلومات عن فرقاء الحرب في سوريا، وتنظم عملية تزويد المعارضة "المعتدلة" بالسلاح والتدريب.
في التسريبات الأخيرة لسنودون والتي شغلت حيزاً هاما من الإعلام الأميركي، اتضحت صورة العمل داخل الوكالة أكثر من ذي قبل. فالوكالة مهتمة بالتجسس على الحلفاء والأصدقاء كما هي مع الأعداء. حيث أن هناك "تركيزاً استراتيجياً" على التجسس على كل من روسيا، الصين، إيران، كوبا، وإسرائيل. كما أن الوكالة، وبالتعاون مع وكالة الأمن القومي بدأت باعتماد مبدأ "الهجمات الحاسوبية" التي تتضمن شن هجمات إلكترونية على شبكات الكومبيوتر للدول المعنية من أجل سرقة المعلومات وتخريب أنظمة الأعداء. تظهر البيانات المسربة أن جهود مكافحة الإرهاب تبقى ذات أولوية قصوى لمجتمع التجسس الأميركي، يليها منع انتشار الأسلحة النووية وأسلحة تقليدية أخرى، وتحذير قادة الولايات المتحدة فيما يخص الأحداث الهامة حول العالم، والدفاع ضد التجسس الخارجي، والقيام بعمليات تجسس افتراضية.
تعد قضية روبرت ليفنسون Robert Levinson، الذي فُقد في إيران عام 2007، أحدث فشل استخباري تم الكشف عنه مؤخراً، وتعمل السي آي إيه على احتوائه. فقد قامت آن جابلونسكي Anne Jablonski، وهي محللة أمريكية في الوكالة، بتجنيد عميل سابق للإف بي آي للحصول على معلومات عن الوضع الاقتصادي في إيران متجاوزة بذلك صلاحياتها المحدودة دون الحصول على إذن من قيادة السي آي إيه، إضافة إلى أنها اتفقت معه على التواصل عن طريق بريدها الشخصي وهي أخطاء بدائية ليس من المتوقع أن يقوم بها العاملون في الوكالة.
أثارت القضية موجة من النقد في وسائل الإعلام وأوساط الكونغرس بسبب نفي الوكالة سابقاً أن ليفنسون يعمل لديها، حيث صرح السيناتور جون مكين John McCain حول الموضوع بقوله: "إن السي آي إيه لم تقل الحقيقة للكونغرس". وقد أشعلت هذه الضجة فتيل تحقيق داخلي في الوكالة انتهى بإجبار بعض من محلليها المسؤولين عن هذه المهمة غير المرخصة على الاستقالة وإخضاع البقية لعقوبات إدارية.
إن نجاح أي عمل استخباري يقاس بالدرجة الأولى بقدرته على صد الهجمات الاستخبارية الخارجية، وجمع أكبر كم ممكن من أدق المعلومات المطلوبة لصيانة الأمن الوطني، وجعل قادة البلد أكثر وعياً مما يدفعهم لانتهاج سياسة واقعية وعملية في التعامل مع الأحداث. في ضوء هذا لنا أن نسال أنفسنا: هل تستحق السي آي إيه بناء على سجل منجزاتها هذه السمعة الأسطورية في عالم التجسس؟
نشر على الموقع في تاريخ 26.12.2013
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...