هيلين بلوكروز، أخصائية في التاريخ والأدب الإنكليزي في بريطانيا، جيمس ليندسي، دكتوراه في الرياضيات، وبيتر بوغوسيان، أستاذ الفلسفة في جامعة ولاية بورتلاند. ثلاثي أكاديمي من بلدان مختلفة ومجالات مختلفة، شكّل قبل مدة فريق "نينجا" خاص كان هدفه: إصلاح النظام الأكاديمي المكسور.
أراد الفريق إصلاح النظام عبر "خدعة علميّة". كتب الثلاثة عشرين مقالة هزلية المضمون لكن علمية الشكل واللغة المستخدمة. جميع المقالات كانت تستند إما إلى "شيء سخيف" أو "غير أخلاقي البتة" أو الاثنين معاً، حسب ما قال الثلاثي الذي أرسلها لاحقاً إلى مجلات رائدة في الدراسات الثقافيّة.
كان هدف الباحثين المجلات العلمية رفيعة المستوى المتخصصة في العلوم الإنسانية وتحديداً في المجال الذي بات يُعرف في الأوساط الأكاديميّة بـ"دراسات التظلم"، وهي الدراسات التي شاعت منذ حوالي خمسة عقود مع صعود الحركات المدنية. وتُعنى بشكل أساسي بتشريح وفهم حياة المضطهدين تاريخياً وتقليدياً: النساء والأقليات العرقية والدينية والثقافية والمجتمع المثلي. المفاجأة كانت، أو ربما يمكن القول هنا إن "الطبيعي" كان، أن تلقى المؤلفون قبولاً لنشر سبعة مقالات في تلك المجلات، وإشعاراً بأن هناك مقالات أخرى من تلك التي أُرسلت قيد الدرس.
نماذج صادمة
في مقالة نشرتها دوريّة متخصصة تُدعى "أدوار الجنس" (Sex Roles) ناقش "المؤلف" الوهمي (الأكاديميون الثلاثة بطبيعة الحال) "مسألة مهمة" حاول فيها الإجابة عن سؤال "لماذا يحب الرجال مغايرو الجنس تناول الطعام لدى Hooters (سلسلة مطاعم أمريكيّة)؟". وقال المؤلف إنه أجرى الدراسة على امتداد عامين في إطار "تحليل موضوعي لحوارات المائدة".
"كفاحنا هو كفاحي: التضامن النسوي كردّ متعدد الجوانب على النيوليبرالية والاختيار"، كان هذا عنوان دراسة نشرتها مجلة "أفيليا: مجلة المرأة والعمل الإجتماعي" الأمريكية العام الماضي. مرّ العنوان عرَضاً وسط عناوين كثيرة تُنشر لدراسات معمّقة في هذا النوع من المجلات المتخصّصة. كتب الثلاثي تلك المقالة تحت اسم "الدكتورة ماريا غونزاليس" التي جرى التعريف عنها بأنها تمثّل "جماعة ناشطة من أجل الحقيقة النسوية". وتتمثل الخدعة، المثيرة للضحك بقدر مرارتها، حين نعلم أن الثلاثي الأكاديمي استقى تلك المقالة من كتاب "كفاحي" لأدولف هتلر.
الثلثان الأخيران من "كفاحنا هو كفاحي: التضامن النسوي…" - أي حوالي 3600 كلمة من المقالة - أُخذا من الفصل 12 من المجلد 1 من كتاب هتلر، وهو الفصل الذي أدرج فيه هتلر نقاط خطته التي أوضحت سبب الحاجة للحزب النازي والمطلوب من أعضائه. الأفكار نفسها أدرجتها المقالة ولكن "بعدسة ومصطلحات نسوية"، فكان ذلك كافياً لتحتفي بها على صفحاتها مجلة أكاديمية نسائية رائدة، بعدما "تمت مراجعتها" والموافقة عليها من قبل نظراء متخصصين في مراجعة المقالات الأكاديمية.
وتناولت المقالة الثالثة التي نُشرت للثلاثي الأكاديمي "ردود فعل الإنسان على ثقافة الاغتصاب والأداء الكويري في حدائق الكلاب في المناطق المدنية في بورتلاند، أوريغون". وللمفارقة، قالت المجلة الناشطة في دراسات "الجندر، المكان والثقافة" إنها "دراسة مثالية". أراد فريق باحثين إصلاح النظام عبر "خدعة علميّة". كتب 20 مقالة هزليّة المضمون لكن علميّة الشكل واللغة المستخدمة، ثم أرسلها لاحقاً إلى مجلات رائدة في الدراسات الثقافيّة. وكانت المفاجأة.
حسناً الآن نفس عميق. أربع أوراق بحثيّة نُشرت، وثلاث نالت قبولاً بالنشر، وسبع أوراق قيد الدراسة، وست أوراق فقط من أصل عشرين جرى رفضها.
ماذا بعد ذلك؟
كان المشروع مقرّراً على مدى 18 شهراً، لكن بعد نشر مقالة حدائق الكلاب لحظ أحدهم خطأً عابراً بها ثم تطوّر إلى اهتمام إعلامي، ما أدى إلى نهاية مفاجئة للمشروع وخروج أصحابه إلى العلن ليكشفوا عن خطتهم وينشروا كافة المقالات التي كتبوها، مع إضافة التعليقات المنقّحة التي وصلتهم من المراجعين لتلك المقالات قبل الموافقة على النشر.والآن لنتحدث عن الروابط الخيطيّة ذات المغزى الإيحائي للنتائج المرجعيّة التي خلصت إليها الدراسات متعددة الأبعاد داخل منظومة الاستقرار في اللااستقرار لكينونة المجتمعات الهلاميّة في تراكميّة جمادها المتحرّك… لا مهلاً، فلندع المزاح جانباً. من حاول الدخول في خفايا هذه الجملة، أو جمل مماثلة، هو من ينظر للدراسات العلميّة بعين الإعجاب بناء على ثقل أفكارها وتعقيد كلماتها، ومن ينظر إليها ولشبيهاتها بعين العداء المنطلق حصراً من تعقيد كلماتها هو عدو ما يجهل عموماً، لكن الفئة الأكبر والتي حاول الأكاديميون استهدافها وتوسيعها، والتي أرادوا تعزيز ثقتها برأيها، هي التي ترفض القبول بهذه الجملة عن قناعة تامة بغطرسة كلماتها وخواء معناها. ما أراده الأكاديميون هو "السعي لكشف السفسطة". أكدوا أن المجالات التي كتبوا فيها تم إختراقها من وجهة نظرهم بنظريات متطرفة وغير متسامحة. و"كانت أفضل طريقة لإثبات وجهة نظرهم الاعتماد على واحدة من أكثر الوثائق تطرفاً في التاريخ الحديث: كفاحي".
حسب هؤلاء، هذا النمط من الكتابة رائج في المجلات الأكاديمية لدراسات التظلم، وبالتالي كان من الواضح أن استبدال المصطلحات النسوية أو المناهضة للسلطة البطريركية ووضعها في كتاب هتلر المعروف كان غير قابل للكشف على يد المراجعين النظراء. وللمناسبة، عند مراجعة ملاحظات المراجعين والمحررين يظهر أن عدداً منهم كانوا "يدعمون العمل ولاحظوا قدرته على خلق حوار مهم للعاملين الاجتماعيين والعلماء النسويين".
"الأعضاء الذكرية تسبب تغير المناخ بشكل مفهموي"
كانت أهداف الفريق واضحة: التركيز حصراً على المجلات رفيعة المستوى، عدم الدفع لنشر أي مقالة، وفي حال واجهته أحد المجلات بسؤال عما إذا كانت المقالة خدعة سيعترف بذلك. التزم الفريق بكافة الشروط التي وضعها لنفسه، وسعى لأن تكون مقالاته مضحكة على نحو قليل ولكنها "غالباً ما انتهت بأن تكون مضحكة جداً"، وبقيت المشكلة بأن أي مجلة لم تنتبه إلى الخدعة، لا بل أن أربع مجلات طلبت من الكتاب أن يصبحوا مراجعين لمقالاتها، لكنهم رفضوا "لأسباب أخلاقية".أوضح الأكاديميون أن تجربتهم لا تحسم أن المراكز الأكاديمية فاسدة أو أن العلماء والباحثين في مجالات العرق والجندر فاسدون، بل تظهر حالة خواء متسعة وسفسطة لا تقوم على إنتاج الحقيقة بل القبول بتزييفها طالما أن لها شكلاً ظاهرياً يشبه الحقيقة، وملاحظات المحررين كانت خير دليل على ذلك. كيف لا؟ وهناك مجلة تقبل أن تنشر مقالة مكتوبة حول "اجتماعات القمر" للنساء في غرف الرحم مع أضرحة الفرج، أو أن "الأعضاء الذكرية تسبب تغير المناخ بشكل مفهموي"، وقد يكون من المعقول ألا يعتقد أن هناك شيء ما خاطئ للغاية. وهنا ما علّق عليه الباحثون بالقول "تعليقات المراجعين كشفت في كثير من الأحيان واقع هذا العالم أكثر مما فعل قبول الأوراق البحثية نفسها".
"الدجّالون المثقفون"
يعيدنا ما فعله الثلاثي إلى "الاختبار المؤسس" لهذا النوع من الاختبارات. عام 1996، كتب عالم الفيزياء والرياضيات البروفيسور آلان سوكال مقالة "وهميّة" بعنوان "تجاوز الحدود: نحو تأويل تحويلي للجاذبيّة الكوانتيّة"، أو في ترجمة أخرى "تجاوز الحرمات: صوب هرمنيوطيقا متحولة لجاذبية الكم"، حرص فيه على استخدام "مصطلحات ما بعد الحداثة" التي وصفها لاحقاً بالمتغطرسة.رغم أن المقال كان حافلاً بـ"المغالطات" و"السخافات"، فقد نشرته مجلة "سوشيال تكست" (Social text) آنذاك والتي تُعرّف نفسها بأنها تنتمي إلى فكر ما بعد الحداثة، والأنكى أنها نشرته في عددها المخصّص للرد على الانتقادات الموجهة إلى ما بعد الحداثة والبنيوية الاجتماعية.
تجربة الباحثين الثلاثة في خداع مجلات متخصصة بأبحاث أكاديمية وهمية تُعيدنا إلى "الاختبار المؤسس". عام 1996، كتب عالم الفيزياء آلان سوكال مقالة "وهمية" بعنوان "تجاوز الحدود: نحو تأويل تحويلي للجاذبية الكوانتية" حرص فيها على استخدام "مصطلحات ما بعد الحداثة" التي وصفها لاحقاً بالمتغطرسة
بعد نشر مقاله، كتب سوكال مقالاً آخر بعنوان "تجارب عالم الفيزياء مع الدراسات الثقافيّة" ونشره في مجلة "لينغوا فرانكا" (Lingua franca)، كشف فيه أن مقاله السابق خدعة لإظهار الاستخدام غير الصحيح للمصطلحات العلميّة، والذي ساد مع توجهات ما بعد الحداثة الصارمة. ومن بين ما ذكره سوكال أنه تعمد كتابة مقالته مقلداً نهجاً بات سائداً في الكتابة، وتعمّد أن تكون كتابته غير مترابطة منطقياً.
ولفت سوكال إلى أن المقال كان مليئاً بالحقائق، وأنصاف الحقائق، وأرباع الحقائق، والأخطاء، وكانت بعض العبارات صحيحة في بنائها اللغوي لكنها بلا معنى… أما البيبليوغرافيا فكانت محشوة بالهراء. المشكلة ظهرت في ردّ "سوشيال تكست" عليه. لم تراجع المجلة نفسها، بل شنّت حملة على سوكال اتهمته فيها بـ"خيانة ثقتها".
وفي أواخر عام 1997، نشر سوكال بالتعاون مع جان بريكمون، أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة لوفان البلجيكيّة، الكتاب الشهير الذي عُرف بالعربية بـ"دجالون مثقفون" وعنوانه الأساسي بالفرنسية (Impostures intelectuelles)، والذي كرساه لنقد ما بعد الحداثة والتصدي لتلك الأساليب التي تدمج العلمي بالاجتماعي ويلجأ إليها مفكرون، من دون أن تكون هناك ضرورة لذلك، سوى إضفاء هالة من السحر المفتعل على كتاباتهم.
وصف الكاتبان ما يقوم به "الدجالون المثقفون" بـ"الإرهاب الثقافي"، وحاولا إثبات أن النصوص المستغلقة أو المستعصية على الفهم هي في الواقع فارغة من المعنى. وكان طبيعياً أن يُهاجَم الكتاب من العديد من "المثقفين"، بينهم جوليا كريستيفا التي تعرّض لها الكتاب بالنقد، فوصفته بـ"كتاب لا قيمة له لا ثقافياً ولا سياسياً"، بينما وصف جاك دريدا سوكال بـ"المسكين"، وقالت جريدة "لوفيغارو" الفرنسية: "إنها الحرب".
هي الحرب نعم
ليست الحرب كما يفهمها المتضررون منها، بل كما يظهرها هذا النوع من التجارب، بأن ليس كل ما هو غامض عميق بالضرورة، والعلم لا يمكن أن يتحوّل إلى مجرد كلمات معقدة تُستخدم في سياق الدراسات الاجتماعية.وللاستطراد يمكن لهذه التجارب أن تكون باباً لنقاش أوسع حول نتائج دراسات علمية ننظر لنتائجها بما يشبه "التقديس"، وتتعدّد مواضيعها بين ما إذا كانت القهوة مضرة أم لا، والسمنة وراثية أم مكتسبة، والمركب العلاجي الأفضل…
كُتبت دراسات عديدة عن تحيّز دراسات لنتائج دون أخرى بسبب تمويلها أو ارتباطاتها، ومن بينها مثلاً دراسة نُشرت عام 2013، أظهرت أن من بين 12 دراسة غير ممولة من شركات مشروبات، 10 دراسات أظهرت أن السمنة مرتبطة بالمشروبات التي تحتوي على سكر، ومن بين 6 دراسات ممولة من شركات مشروبات مثل "كوكا كولا"، 5 دراسات أكدت ألا رابط علمي بين السمنة والمشروبات التي تحتوي على سكر.
يختلف البعض مع خلاصات تجربة الثلاثي الأكاديمي، كما يختلفون مع خلاصات تجربة سوكال، لكن الأكيد أن هالة التقديس التي تحيط بكل ما هو أكاديمي، من لغة ونتائج، بحاجة لمراجعة سواء من المسؤول عن إنتاجها وممن يتلقاها، وإن كان الأخير مطالب بوعي نقدي لما يُقدَّم له، فأصحاب الدراسات من كتاب وناشرين مُطالبون بالتخلص من مظلومية "خيانة الثقة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...